تيدروس أدهانوم غيبرييسوس... «المحنّك الهادئ» في مواجهة «إعصار فيروس كورونا»

شخصية متميزة تنقّلت بكفاءة بين الصحة والسياسة

تيدروس أدهانوم غيبرييسوس... «المحنّك الهادئ» في مواجهة «إعصار فيروس كورونا»
TT

تيدروس أدهانوم غيبرييسوس... «المحنّك الهادئ» في مواجهة «إعصار فيروس كورونا»

تيدروس أدهانوم غيبرييسوس... «المحنّك الهادئ» في مواجهة «إعصار فيروس كورونا»

بقدرات دبلوماسية تأكدت بفعل الممارسة، وسمات شخصية تتوزع بين الهدوء والحنكة، ودوافع بعضها ذو طابع شخصي وأخلاقي، يقود اليوم الدكتور تيدروس أدهانوم غيبرييسوس، مدير عام منظمة الصحة العالمية، منذ عام 2017، جهود العالم بأسره في معركة التغلب على فيروس «كوفيد 19» (فيروس الكورونا المستجد) الفيروسي الذي يقض مضاجع العالم.
والواقع أنه عند ظهور أي وباء عالمي تتطلع الأنظار إلى منظمة الصحة العالمية، التي تعتبر في مثل هذه الأزمات المصدر الأول للمعلومات، التي يجب أن تتحلى بالدقة العلمية، دون أن يخلو الأمر من بعض الدبلوماسية في إدارة الأزمة دون تهويل أو تهوين. ومع اندلاع أزمة الوباء الفيروسي الجديد، انطلاقاً من الصين، برز اسم أدهانوم غيبرييسوس، المدير العام للمنظمة، الذي يدير المعركة بخبرات جمعت بين العالم والدبلوماسي، كما يشكل الواجهة الإعلامية والتوجيهية المسؤولة في مكاشفة جادة ورصينة، لا تهوّن ولا تهوّل.

الدكتور تيدروس أدهانوم غيبرييسوس، أكاديمي وخبير صحة عامة إثيوبي الجنسية إريتري المولد، بنى سمعته في مجال الصحة العامة كعالم في «الملاريا»، قبل أن يصبح وزيراً للصحة في إثيوبيا عام 2005، ثم يتولّى منصب وزير الخارجية عام 2012. وبعدها انتخب مديراً عاماً لمنظمة الصحة العالمية يوم 1 يوليو (تموز) عام 2017، ليغدو أول أفريقي يشغل هذا المنصب في تاريخ المنظمة البالغ عمرها 69 سنة.
تيدروس الذي تولى مهام منصبه بعد فترة وجيزة من انتهاء تفشّي فيروس «إيبولا» في غرب أفريقيا، وكان قد جادل كثيرون من النقاد يومذاك بأنه كان من الممكن التقليل من خطره لو كانت جهود منظمة الصحة العالمية أكثر فاعلية لاحتواء العدوى في بداياتها. وحالياً، بعد سنتين، لا تبدو مهمة تيدروس أسهل بكثير، إذ عاد «الإيبولا» مرة أخرى للظهور في الكونغو. وهو يواجه الآن مهمة أخرى تبدو أصعب من سابقتها، وهي «كوفيد 19» أي فيروس «كورونا» المستجد.
مع هذا، تعاملت منظمة الصحة العالمية مع الوباء الجديد، تحت رئاسة تيدروس، بشكل مختلف عن تعاملها مع «إيبولا» عند تفشيه في غرب أفريقيا عام 2005. وحسب رسائل إلكترونية مسرّبة، نشرتها محطة «فرانس 24» يوم 7 فبراير (شباط) الحالي، انتظرت المنظمة شهرين لإعلان حالة الطوارئ في غرب أفريقيا مع وباء «إيبولا»، مراعاة لتلك الدول التي قد تنظر لمثل هذا الإجراء على أنه يشكل تهديداً لاقتصادها، لكنها في الحالة الصينية أعلنت حالة الطوارئ سريعاً. إذ أعلنتها في 31 يناير (كانون الثاني) من العام الحالي بعد نحو شهر من ظهوره، رغم التعهدات الصينية باتخاذها ما يلزم للسيطرة عليه.

- أداء غير مسبوق
لقد أدار تيدروس الأزمة بدبلوماسية بدت واضحة في تصريحاته التي استبقت تساؤلات مريبة قد تثار حول تحول موقف المنظمة من النأي بنفسها عن الأزمة، تاركة الأمر للصين إلى إعلان حالة الطوارئ. إذ وصف فيروس «كورونا» المستجد في المؤتمر الصحافي، الذي أعلن خلاله حالة الطوارئ، بأنه «فيروس ينتشر بشكل غير مسبوق»، بالتالي وجه بـ«رد غير مسبوق». وتابع «إن السبب الرئيس لإعلان الطوارئ ليس ما يحدث في الصين، وإنما ما يحدث في دول أخرى، ومبعث القلق هو انتقال الفيروس إلى دول ذات أنظمة صحية ضعيفة».
ومن ثم أرسل بعدها رسالة طمأنة إلى الصين، قائلاً خلال خطابه أمام الجلسة الـ146 لاجتماع المجلس التنفيذي للمنظمة في يوم 3 من فبراير الحالي، إنه «لا مبرّر» للإجراءات غير الضرورية في حركة السفر والتجارة الدولية خلال أزمة تفشي الوباء.
لقد اكتسب تيدروس هذه الحنكة الدبلوماسية في إداراته للأزمات من خبرات جمعها إبان عمله في إثيوبيا، وخلال السنوات الثلاث التي أمضاها حتى الآن في رئاسة المنظمة، حيث واجه الكثير من الانتقادات. وهو أثناء حملته ليصبح المدير العام لمنظمة الصحة العالمية عام 2017، اتهمه معارضوه بالتغطية على ثلاث حالات لاندلاع «الكوليرا» في إثيوبيا، إبان توليه مسؤولية وزارة الصحة. كذلك وصفت أطراف من المعارضة الإثيوبية ترشيحه للمنصب بأنها محاولة من الحكومة الإثيوبية لتبييض وجهها عالمياً، بسبب التجاوزات التي حدثت في ملف حقوق الإنسان.
تيدروس احتل أيضاً عناوين الصحف عندما اختار زعيم زيمبابوي روبرت موغابي، سفيراً للنوايا الحسنة لمنظمة الصحة العالمية عام 2017، وهو قرار تراجع عنه في نهاية المطاف، قائلاً في بيان أصدره في 22 أكتوبر (تشرين الأول) 2017، «خلال الأيام الأخيرة فكّرت في قرار تعيين الرئيس روبرت موغابي سفيراً للنوايا الحسنة لدى منظمة الصحة العالمية (للأمراض غير المُعدية) في أفريقيا، وقررت إلغاءه حرصاً على مصلحة الوكالة الأممية بعد الجدل الذي أثاره هذا القرار».
وفي هذا السياق، اعترف تيدروس في مقابلة مع مجلة «تايم» في 21 نوفمبر (تشرين الثاني) 2019، أنه لا يلتفت كثيراً إلى الانتقادات، بل يظل هادئًا بشكل دائم في مواجهتها، كما أنه يصب طاقته في العمل، بينما يكتشف لاحقاً أنه ربما كان ينبغي عليه أن يأخذ بعضها على محمل الجد.

- دوافع شخصية
ومن المفردات التي دائماً ما تتردد على لسان تيدروس، حتى في الأزمة الأخيرة، هو الخوف من انتقال الوباء إلى الدول ذات الأنظمة الصحية الضعيفة، وهو ما ينسجم مع اهتماماته قبل أن يصبح مديراً عاماً للمنظمة، التي قد يرجعها البعض إلى انتمائه لأحد البلدان الأفريقية النامية. هذا الأمر لا ينكره الرجل، إضافة إلى وجود دافع شخصي وراء ذلك. إذ شغل تيدروس قبل انتخابه مديراً عاماً للمنظمة منصب وزير خارجية إثيوبيا في الفترة الواقعة بين عامي 2012 و2016، ونجح في إطار أدائه لهذا الدور في قيادة الجهود الرامية إلى التفاوض على خطة عمل أديس أبابا، التي التزم فيها 193 بلداً بتوفير التمويل اللازم لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، التي تهدف إلى تحسين الحياة بطريقة مستدامة للأجيال المقبلة.
المدير العام يقول في حواره مع مجلة «تايم» الأميركية، إنه كان مدفوعاً في هذه الاهتمامات بوفاة شقيقه الأصغر، الذي كان يبلغ 3 أو 4 سنوات فقط، بسبب ما يشتبه الآن أنه حصبة. ويضيف: «أنا لا أقبل ذلك حتى الآن... كنت قادراً على الشعور بالفرق بين الدول الفقيرة والغنية، عندما أمضيت في سن الثالثة والعشرين أربعة أشهر أدرس في الدنمارك بعد تخرّجي من جامعة أسمرة الإريترية حاصلاً على درجة علمية في علم الأحياء. هناك شاهدت رعاية صحية شاملة أثناء الدراسة، وتكثف الشعور عندما تعرفت على النظام الصحي الوطني في بريطانيا أثناء إقامتي هناك للحصول على درجة الماجستير في علم المناعة للأمراض المعدية في لندن في أوائل التسعينات من القرن الماضي». ويتابع تيدروس الكلام عن تجربته: «لقد كافحت من أجل تقليص الفوارق بين عالم يمكن أن يموت فيه الأولاد مثل أخي، بينما يزدهر الأطفال الآخرون في بلدان تتمتع بفرص أفضل للحصول على الرعاية».
وحقاً، في كلمته أمام منظمة الصحة العالمية بعد تقلّده المنصب، عكس الرجل هذا التوجّه، فقال إن رؤيته كمدير جديد للمنظمة الصحة تتمثل في وجود «عالم يمكن لجميع سكانه أن يعيشوا حياة صحية ومثمرة بغض النظر عن هويتهم أو أماكن وجودهم». قبل أن يعد أعضاء وفود الدول الأعضاء في الجمعية العامة للمنظمة بأن يستيقظ كل يوم «عاقداً العزم على إحداث فرق».

- جوانب شخصية من حياته
على عكس كثير من الناس الذين يحبون الاستيقاظ من النوم، ولديهم دوافع إيجابية، يقول تيدروس في حواره مع المجلة الأميركية، «ما يوقظني في الصباح هو المشكلة التي يجب معالجتها... لذلك أنا أواصل». وليس هذا فحسب، بل إنه يسعى إلى رؤية المشاكل على أرض الواقع، ولذا اعترف خلال الحوار نفسه بأنه يحب السفر إلى المناطق الريفية، قائلاً «أحب أن أرى أناساً حقيقيين... أحب أن أرى المشكلة، التي لا يمكن رؤيتها هنا في مدينة جنيف، حيث مقر المنظمة». وعن حياته الأسرية، قال «عندما أحصل على لحظة خالية نادرة، فإنني أمضي بعض الوقت مع زوجتي وأولادي الخمسة في جنيف، أو أقرأ كتب القيادة والإدارة».
أما عن هواياته، فهو يمارس رياضة المشي صباحاً، مرتدياً قميصاً أزرق اللون وسروالاً رياضياً ومنتعلاً أحذية رياضية. وهو على الرغم من توليه مهمات صعبة في ملفي الصحة والشؤون الخارجية، فهو يحتفظ بروح مرحة، تدفعه كثيراً إلى التحليق بعيداً عن هموم الصحة والسياسة لتلقيه في أحضان الدعابة.

- جوائز ومهام صعبة
أما موقع منظمة الصحة العالمية، فيشير إلى أن تيدروس نشر طوال حياته المهنية العديد من المقالات في المجلات العلمية البارزة، وحصل على جوائز وشهادات اعتراف بأعماله من جميع أنحاء العالم. كذلك فإنه حصل على العديد من الجوائز، منها وسام صربي عام 2016، ومُنِح في عام 2011 جائزة جيمي وروزالين كارتر للشؤون الإنسانية تقديراً لإسهاماته في مجال الصحة العمومية.
فضلاً عن ذلك، سمي واحداً من 50 شخصًا سيغيرون العالم في عام 2012 من قبل مجلة «وايرد» الأميركية، التي كتبت أنه استخدم تقنيات مبتكرة لإنقاذ حياة ملايين الإثيوبيين، وبدلاً من بناء مستشفيات باهظة الثمن، دشن برامج لتدريب 35000 عامل صحي، كما أصبح بإمكان النساء في عهده الوصول إلى برامج تنظيم الأسرة، وأصبح بمقدورهن الآن التخطيط لتوقيت أطفالهن والمباعدة بين الولادات. وتلقى الأطفال في عهده لقاحات منقذة للحياة وعلاج الأمراض القاتلة مثل الالتهاب الرئوي و«الملاريا» والإسهال. وخلال خمس سنوات، خفّض عمله من معدل وفيات الأطفال الإثيوبيين دون سن الخامسة بنسبة 28 في المائة.
كذلك صنّفته مجلة «نيو أفريكان» البريطانية، واحداً من أكثر 100 أفريقي نفوذاً لعام 2015 في فئة السياسة والخدمة العامة، ووصفته المجلة بأنه «القائد»، واعتبرت أنه وضع الناس في صميم سياساته، سواء وزيراً للصحة أو وزيراً للخارجية، كما ساهم كلاعب أساسي في التدخلات الإقليمية والوساطة الاستراتيجية لإثيوبيا في السودان والصومال.
وللعلم، كانت مصر على موعد معه على طاولة مباحثات «سد النهضة» أثناء توليه مسؤولية الخارجية الإثيوبية، وربما كانت مواقفه المرنة إلى حد ما، هي التي دفعت مصر إلى إعلان تأييدها المبكّر له عند ترشحه للمنصب.
ويبقى القول إن المدير العام من الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي، إذ يتابعه عبر موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك» حوالي مليون و16 ألف متابع، بينما يتابعه عبر «تويتر» حوالي نصف مليون متابع.

- بطاقة هوية: تيدروس أدهانوم غيبرييسوس
> ولد في مدينة أسمرة يوم 3 مارس (آذار) 1965.
> ينتمي إلى شعب التيغراي، وكان عضواً في جبهة تحرير شعب التيغراي والجبهة الثورية الديمقراطية للشعب الإثيوبي.
> درس علم الأحياء (البيولوجيا) في جامعة أسمرة وحاز فيها البكالوريوس في العلوم. ثم حصل على الماجستير في الأمراض المعدية والسارية من معهد الصحة وطب المناطق المدارية بجامعة لندن في بريطانيا، ثم حصل على الدكتوراه في الصحة العامة من جامعة نوتينغهام في بريطانيا.
> تولى منصب وزير الصحة بين 2005 و2012، بعد توليه مسؤوليات إدارية صحية.
> تولى منصب وزير الخارجية بين 2012 و2016.
> تولى منصب المدير العام لمنظمة الصحة العالمية منذ 2017.


مقالات ذات صلة

«الصحة العالمية»: فيروس «إتش إم بي في» في الصين شائع ولا يشكل تهديداً

آسيا طفل يضع كمامة وينتظر دوره مع أسرته داخل مستشفى في شرق الصين (أ.ف.ب)

«الصحة العالمية»: فيروس «إتش إم بي في» في الصين شائع ولا يشكل تهديداً

قدمت منظمة الصحة العالمية، اليوم، تطمينات بشأن فيروس «إتش إم بي في»، وهو عدوى تنفسية تنتشر في الصين، مؤكدةً أن الفيروس ليس جديداً أو خطيراً بشكل خاص.

«الشرق الأوسط» (جنيف - بكين)
صحتك ما نعرفه عن «الميتانيوفيروس البشري» المنتشر في الصين

ما نعرفه عن «الميتانيوفيروس البشري» المنتشر في الصين

فيروس مدروس جيداً لا يثير تهديدات عالمية إلا إذا حدثت طفرات فيه

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
صحتك صورة ملتقطة بالمجهر الإلكتروني قدمتها مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها تُظهر مجموعة من فيروسات «نوروفيروس» (أ.ب)

وسط انتشاره بأميركا... ماذا نعرف عن «نوروفيروس»؟ وكيف نحمي أنفسنا؟

تشهد أميركا تزايداً في حالات الإصابة بفيروس «نوروفيروس»، المعروف أيضاً باسم إنفلونزا المعدة أو جرثومة المعدة.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
صحتك تعلمت البشرية من جائحة «كورونا» أن لا شيء يفوق أهميةً الصحتَين الجسدية والنفسية (رويترز)

بعد ظهوره بـ5 سنوات.. معلومات لا تعرفها عن «كوفيد 19»

قبل خمس سنوات، أصيبت مجموعة من الناس في مدينة ووهان الصينية، بفيروس لم يعرفه العالم من قبل.

آسيا رجل أمن بلباس واقٍ أمام مستشفى يستقبل الإصابات بـ«كورونا» في مدينة ووهان الصينية (أرشيفية - رويترز)

الصين: شاركنا القدر الأكبر من بيانات كوفيد-19 مع مختلف الدول

قالت الصين إنها شاركت القدر الأكبر من البيانات ونتائج الأبحاث الخاصة بكوفيد-19 مع مختلف الدول وأضافت أن العمل على تتبع أصول فيروس كورونا يجب أن يتم في دول أخرى

«الشرق الأوسط» (بكين)

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».