تيدروس أدهانوم غيبرييسوس... «المحنّك الهادئ» في مواجهة «إعصار فيروس كورونا»

شخصية متميزة تنقّلت بكفاءة بين الصحة والسياسة

تيدروس أدهانوم غيبرييسوس... «المحنّك الهادئ» في مواجهة «إعصار فيروس كورونا»
TT

تيدروس أدهانوم غيبرييسوس... «المحنّك الهادئ» في مواجهة «إعصار فيروس كورونا»

تيدروس أدهانوم غيبرييسوس... «المحنّك الهادئ» في مواجهة «إعصار فيروس كورونا»

بقدرات دبلوماسية تأكدت بفعل الممارسة، وسمات شخصية تتوزع بين الهدوء والحنكة، ودوافع بعضها ذو طابع شخصي وأخلاقي، يقود اليوم الدكتور تيدروس أدهانوم غيبرييسوس، مدير عام منظمة الصحة العالمية، منذ عام 2017، جهود العالم بأسره في معركة التغلب على فيروس «كوفيد 19» (فيروس الكورونا المستجد) الفيروسي الذي يقض مضاجع العالم.
والواقع أنه عند ظهور أي وباء عالمي تتطلع الأنظار إلى منظمة الصحة العالمية، التي تعتبر في مثل هذه الأزمات المصدر الأول للمعلومات، التي يجب أن تتحلى بالدقة العلمية، دون أن يخلو الأمر من بعض الدبلوماسية في إدارة الأزمة دون تهويل أو تهوين. ومع اندلاع أزمة الوباء الفيروسي الجديد، انطلاقاً من الصين، برز اسم أدهانوم غيبرييسوس، المدير العام للمنظمة، الذي يدير المعركة بخبرات جمعت بين العالم والدبلوماسي، كما يشكل الواجهة الإعلامية والتوجيهية المسؤولة في مكاشفة جادة ورصينة، لا تهوّن ولا تهوّل.

الدكتور تيدروس أدهانوم غيبرييسوس، أكاديمي وخبير صحة عامة إثيوبي الجنسية إريتري المولد، بنى سمعته في مجال الصحة العامة كعالم في «الملاريا»، قبل أن يصبح وزيراً للصحة في إثيوبيا عام 2005، ثم يتولّى منصب وزير الخارجية عام 2012. وبعدها انتخب مديراً عاماً لمنظمة الصحة العالمية يوم 1 يوليو (تموز) عام 2017، ليغدو أول أفريقي يشغل هذا المنصب في تاريخ المنظمة البالغ عمرها 69 سنة.
تيدروس الذي تولى مهام منصبه بعد فترة وجيزة من انتهاء تفشّي فيروس «إيبولا» في غرب أفريقيا، وكان قد جادل كثيرون من النقاد يومذاك بأنه كان من الممكن التقليل من خطره لو كانت جهود منظمة الصحة العالمية أكثر فاعلية لاحتواء العدوى في بداياتها. وحالياً، بعد سنتين، لا تبدو مهمة تيدروس أسهل بكثير، إذ عاد «الإيبولا» مرة أخرى للظهور في الكونغو. وهو يواجه الآن مهمة أخرى تبدو أصعب من سابقتها، وهي «كوفيد 19» أي فيروس «كورونا» المستجد.
مع هذا، تعاملت منظمة الصحة العالمية مع الوباء الجديد، تحت رئاسة تيدروس، بشكل مختلف عن تعاملها مع «إيبولا» عند تفشيه في غرب أفريقيا عام 2005. وحسب رسائل إلكترونية مسرّبة، نشرتها محطة «فرانس 24» يوم 7 فبراير (شباط) الحالي، انتظرت المنظمة شهرين لإعلان حالة الطوارئ في غرب أفريقيا مع وباء «إيبولا»، مراعاة لتلك الدول التي قد تنظر لمثل هذا الإجراء على أنه يشكل تهديداً لاقتصادها، لكنها في الحالة الصينية أعلنت حالة الطوارئ سريعاً. إذ أعلنتها في 31 يناير (كانون الثاني) من العام الحالي بعد نحو شهر من ظهوره، رغم التعهدات الصينية باتخاذها ما يلزم للسيطرة عليه.

- أداء غير مسبوق
لقد أدار تيدروس الأزمة بدبلوماسية بدت واضحة في تصريحاته التي استبقت تساؤلات مريبة قد تثار حول تحول موقف المنظمة من النأي بنفسها عن الأزمة، تاركة الأمر للصين إلى إعلان حالة الطوارئ. إذ وصف فيروس «كورونا» المستجد في المؤتمر الصحافي، الذي أعلن خلاله حالة الطوارئ، بأنه «فيروس ينتشر بشكل غير مسبوق»، بالتالي وجه بـ«رد غير مسبوق». وتابع «إن السبب الرئيس لإعلان الطوارئ ليس ما يحدث في الصين، وإنما ما يحدث في دول أخرى، ومبعث القلق هو انتقال الفيروس إلى دول ذات أنظمة صحية ضعيفة».
ومن ثم أرسل بعدها رسالة طمأنة إلى الصين، قائلاً خلال خطابه أمام الجلسة الـ146 لاجتماع المجلس التنفيذي للمنظمة في يوم 3 من فبراير الحالي، إنه «لا مبرّر» للإجراءات غير الضرورية في حركة السفر والتجارة الدولية خلال أزمة تفشي الوباء.
لقد اكتسب تيدروس هذه الحنكة الدبلوماسية في إداراته للأزمات من خبرات جمعها إبان عمله في إثيوبيا، وخلال السنوات الثلاث التي أمضاها حتى الآن في رئاسة المنظمة، حيث واجه الكثير من الانتقادات. وهو أثناء حملته ليصبح المدير العام لمنظمة الصحة العالمية عام 2017، اتهمه معارضوه بالتغطية على ثلاث حالات لاندلاع «الكوليرا» في إثيوبيا، إبان توليه مسؤولية وزارة الصحة. كذلك وصفت أطراف من المعارضة الإثيوبية ترشيحه للمنصب بأنها محاولة من الحكومة الإثيوبية لتبييض وجهها عالمياً، بسبب التجاوزات التي حدثت في ملف حقوق الإنسان.
تيدروس احتل أيضاً عناوين الصحف عندما اختار زعيم زيمبابوي روبرت موغابي، سفيراً للنوايا الحسنة لمنظمة الصحة العالمية عام 2017، وهو قرار تراجع عنه في نهاية المطاف، قائلاً في بيان أصدره في 22 أكتوبر (تشرين الأول) 2017، «خلال الأيام الأخيرة فكّرت في قرار تعيين الرئيس روبرت موغابي سفيراً للنوايا الحسنة لدى منظمة الصحة العالمية (للأمراض غير المُعدية) في أفريقيا، وقررت إلغاءه حرصاً على مصلحة الوكالة الأممية بعد الجدل الذي أثاره هذا القرار».
وفي هذا السياق، اعترف تيدروس في مقابلة مع مجلة «تايم» في 21 نوفمبر (تشرين الثاني) 2019، أنه لا يلتفت كثيراً إلى الانتقادات، بل يظل هادئًا بشكل دائم في مواجهتها، كما أنه يصب طاقته في العمل، بينما يكتشف لاحقاً أنه ربما كان ينبغي عليه أن يأخذ بعضها على محمل الجد.

- دوافع شخصية
ومن المفردات التي دائماً ما تتردد على لسان تيدروس، حتى في الأزمة الأخيرة، هو الخوف من انتقال الوباء إلى الدول ذات الأنظمة الصحية الضعيفة، وهو ما ينسجم مع اهتماماته قبل أن يصبح مديراً عاماً للمنظمة، التي قد يرجعها البعض إلى انتمائه لأحد البلدان الأفريقية النامية. هذا الأمر لا ينكره الرجل، إضافة إلى وجود دافع شخصي وراء ذلك. إذ شغل تيدروس قبل انتخابه مديراً عاماً للمنظمة منصب وزير خارجية إثيوبيا في الفترة الواقعة بين عامي 2012 و2016، ونجح في إطار أدائه لهذا الدور في قيادة الجهود الرامية إلى التفاوض على خطة عمل أديس أبابا، التي التزم فيها 193 بلداً بتوفير التمويل اللازم لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، التي تهدف إلى تحسين الحياة بطريقة مستدامة للأجيال المقبلة.
المدير العام يقول في حواره مع مجلة «تايم» الأميركية، إنه كان مدفوعاً في هذه الاهتمامات بوفاة شقيقه الأصغر، الذي كان يبلغ 3 أو 4 سنوات فقط، بسبب ما يشتبه الآن أنه حصبة. ويضيف: «أنا لا أقبل ذلك حتى الآن... كنت قادراً على الشعور بالفرق بين الدول الفقيرة والغنية، عندما أمضيت في سن الثالثة والعشرين أربعة أشهر أدرس في الدنمارك بعد تخرّجي من جامعة أسمرة الإريترية حاصلاً على درجة علمية في علم الأحياء. هناك شاهدت رعاية صحية شاملة أثناء الدراسة، وتكثف الشعور عندما تعرفت على النظام الصحي الوطني في بريطانيا أثناء إقامتي هناك للحصول على درجة الماجستير في علم المناعة للأمراض المعدية في لندن في أوائل التسعينات من القرن الماضي». ويتابع تيدروس الكلام عن تجربته: «لقد كافحت من أجل تقليص الفوارق بين عالم يمكن أن يموت فيه الأولاد مثل أخي، بينما يزدهر الأطفال الآخرون في بلدان تتمتع بفرص أفضل للحصول على الرعاية».
وحقاً، في كلمته أمام منظمة الصحة العالمية بعد تقلّده المنصب، عكس الرجل هذا التوجّه، فقال إن رؤيته كمدير جديد للمنظمة الصحة تتمثل في وجود «عالم يمكن لجميع سكانه أن يعيشوا حياة صحية ومثمرة بغض النظر عن هويتهم أو أماكن وجودهم». قبل أن يعد أعضاء وفود الدول الأعضاء في الجمعية العامة للمنظمة بأن يستيقظ كل يوم «عاقداً العزم على إحداث فرق».

- جوانب شخصية من حياته
على عكس كثير من الناس الذين يحبون الاستيقاظ من النوم، ولديهم دوافع إيجابية، يقول تيدروس في حواره مع المجلة الأميركية، «ما يوقظني في الصباح هو المشكلة التي يجب معالجتها... لذلك أنا أواصل». وليس هذا فحسب، بل إنه يسعى إلى رؤية المشاكل على أرض الواقع، ولذا اعترف خلال الحوار نفسه بأنه يحب السفر إلى المناطق الريفية، قائلاً «أحب أن أرى أناساً حقيقيين... أحب أن أرى المشكلة، التي لا يمكن رؤيتها هنا في مدينة جنيف، حيث مقر المنظمة». وعن حياته الأسرية، قال «عندما أحصل على لحظة خالية نادرة، فإنني أمضي بعض الوقت مع زوجتي وأولادي الخمسة في جنيف، أو أقرأ كتب القيادة والإدارة».
أما عن هواياته، فهو يمارس رياضة المشي صباحاً، مرتدياً قميصاً أزرق اللون وسروالاً رياضياً ومنتعلاً أحذية رياضية. وهو على الرغم من توليه مهمات صعبة في ملفي الصحة والشؤون الخارجية، فهو يحتفظ بروح مرحة، تدفعه كثيراً إلى التحليق بعيداً عن هموم الصحة والسياسة لتلقيه في أحضان الدعابة.

- جوائز ومهام صعبة
أما موقع منظمة الصحة العالمية، فيشير إلى أن تيدروس نشر طوال حياته المهنية العديد من المقالات في المجلات العلمية البارزة، وحصل على جوائز وشهادات اعتراف بأعماله من جميع أنحاء العالم. كذلك فإنه حصل على العديد من الجوائز، منها وسام صربي عام 2016، ومُنِح في عام 2011 جائزة جيمي وروزالين كارتر للشؤون الإنسانية تقديراً لإسهاماته في مجال الصحة العمومية.
فضلاً عن ذلك، سمي واحداً من 50 شخصًا سيغيرون العالم في عام 2012 من قبل مجلة «وايرد» الأميركية، التي كتبت أنه استخدم تقنيات مبتكرة لإنقاذ حياة ملايين الإثيوبيين، وبدلاً من بناء مستشفيات باهظة الثمن، دشن برامج لتدريب 35000 عامل صحي، كما أصبح بإمكان النساء في عهده الوصول إلى برامج تنظيم الأسرة، وأصبح بمقدورهن الآن التخطيط لتوقيت أطفالهن والمباعدة بين الولادات. وتلقى الأطفال في عهده لقاحات منقذة للحياة وعلاج الأمراض القاتلة مثل الالتهاب الرئوي و«الملاريا» والإسهال. وخلال خمس سنوات، خفّض عمله من معدل وفيات الأطفال الإثيوبيين دون سن الخامسة بنسبة 28 في المائة.
كذلك صنّفته مجلة «نيو أفريكان» البريطانية، واحداً من أكثر 100 أفريقي نفوذاً لعام 2015 في فئة السياسة والخدمة العامة، ووصفته المجلة بأنه «القائد»، واعتبرت أنه وضع الناس في صميم سياساته، سواء وزيراً للصحة أو وزيراً للخارجية، كما ساهم كلاعب أساسي في التدخلات الإقليمية والوساطة الاستراتيجية لإثيوبيا في السودان والصومال.
وللعلم، كانت مصر على موعد معه على طاولة مباحثات «سد النهضة» أثناء توليه مسؤولية الخارجية الإثيوبية، وربما كانت مواقفه المرنة إلى حد ما، هي التي دفعت مصر إلى إعلان تأييدها المبكّر له عند ترشحه للمنصب.
ويبقى القول إن المدير العام من الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي، إذ يتابعه عبر موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك» حوالي مليون و16 ألف متابع، بينما يتابعه عبر «تويتر» حوالي نصف مليون متابع.

- بطاقة هوية: تيدروس أدهانوم غيبرييسوس
> ولد في مدينة أسمرة يوم 3 مارس (آذار) 1965.
> ينتمي إلى شعب التيغراي، وكان عضواً في جبهة تحرير شعب التيغراي والجبهة الثورية الديمقراطية للشعب الإثيوبي.
> درس علم الأحياء (البيولوجيا) في جامعة أسمرة وحاز فيها البكالوريوس في العلوم. ثم حصل على الماجستير في الأمراض المعدية والسارية من معهد الصحة وطب المناطق المدارية بجامعة لندن في بريطانيا، ثم حصل على الدكتوراه في الصحة العامة من جامعة نوتينغهام في بريطانيا.
> تولى منصب وزير الصحة بين 2005 و2012، بعد توليه مسؤوليات إدارية صحية.
> تولى منصب وزير الخارجية بين 2012 و2016.
> تولى منصب المدير العام لمنظمة الصحة العالمية منذ 2017.


مقالات ذات صلة

«الصحة العالمية»: فيروس «إتش إم بي في» في الصين شائع ولا يشكل تهديداً

آسيا طفل يضع كمامة وينتظر دوره مع أسرته داخل مستشفى في شرق الصين (أ.ف.ب)

«الصحة العالمية»: فيروس «إتش إم بي في» في الصين شائع ولا يشكل تهديداً

قدمت منظمة الصحة العالمية، اليوم، تطمينات بشأن فيروس «إتش إم بي في»، وهو عدوى تنفسية تنتشر في الصين، مؤكدةً أن الفيروس ليس جديداً أو خطيراً بشكل خاص.

«الشرق الأوسط» (جنيف - بكين)
صحتك ما نعرفه عن «الميتانيوفيروس البشري» المنتشر في الصين

ما نعرفه عن «الميتانيوفيروس البشري» المنتشر في الصين

فيروس مدروس جيداً لا يثير تهديدات عالمية إلا إذا حدثت طفرات فيه

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
صحتك صورة ملتقطة بالمجهر الإلكتروني قدمتها مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها تُظهر مجموعة من فيروسات «نوروفيروس» (أ.ب)

وسط انتشاره بأميركا... ماذا نعرف عن «نوروفيروس»؟ وكيف نحمي أنفسنا؟

تشهد أميركا تزايداً في حالات الإصابة بفيروس «نوروفيروس»، المعروف أيضاً باسم إنفلونزا المعدة أو جرثومة المعدة.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
صحتك تعلمت البشرية من جائحة «كورونا» أن لا شيء يفوق أهميةً الصحتَين الجسدية والنفسية (رويترز)

بعد ظهوره بـ5 سنوات.. معلومات لا تعرفها عن «كوفيد 19»

قبل خمس سنوات، أصيبت مجموعة من الناس في مدينة ووهان الصينية، بفيروس لم يعرفه العالم من قبل.

آسيا رجل أمن بلباس واقٍ أمام مستشفى يستقبل الإصابات بـ«كورونا» في مدينة ووهان الصينية (أرشيفية - رويترز)

الصين: شاركنا القدر الأكبر من بيانات كوفيد-19 مع مختلف الدول

قالت الصين إنها شاركت القدر الأكبر من البيانات ونتائج الأبحاث الخاصة بكوفيد-19 مع مختلف الدول وأضافت أن العمل على تتبع أصول فيروس كورونا يجب أن يتم في دول أخرى

«الشرق الأوسط» (بكين)

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
TT

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني فرض الأحكام العرفية، وتعليق الحكم المدني، وإرساله قوة عسكرية مدعومة بالهيلوكوبترات إلى البرلمان. ثم اضطراره للتراجع عن قراره في وجه معارضة عارمة. بيد أن تراجع الرئيس خلال ساعات قليلة من هذه المغامرة لم يزد المعارضة إلا إصراراً على إطاحته، في أزمة سياسية غير مسبوقة منذ التحوّل الديمقراطي في البلاد عام 1980 بعد فترة من الحكم التسلطي. ولقد تطوّرت الأوضاع خلال الأيام والساعات الأخيرة من الاحتجاجات في الشوارع إلى تصويت برلماني على عزل يون. وبعدما أقر البرلمان عزل الرئيس ردّ الأخير بتأكيد عزمه على المقاومة والبقاء... في أزمة مفتوحة لا تخلو من خطورة على تجربة البلاد الديمقراطية الطريّة العود.

دبلوماسي مخضرم خدم في كوريا الجنوبية قال، قبل بضعة أيام، معلقاً على الأزمة المتصاعدة: «إذا تم تمرير اقتراح العزل، يمكن وقف (الرئيس) يون (سوك - يول) عن مباشرة مهام منصبه لمدة تصل إلى 180 يوماً، بينما تنظر المحكمة الدستورية في القضية. وفي هذا (السيناريو)، يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو منصب الرئيس المؤقت، وتُجرى انتخابات جديدة في غضون 60 يوماً».

وبالفعل، دعا هان دونغ - هون، زعيم حزب «قوة الشعب»، الحاكم، إلى تعليق سريع لسلطات الرئيس مستنداً - كما قال - إلى توافر «أدلة موثوقة» على أن يون سعى إلى اعتقال القادة السياسيين بعد إعلانه الأحكام العرفية الذي لم يدُم طويلاً. ومما أورده هان - الذي كان في وقت سابق معارضاً للمساعي الرامية إلى عزل يون - إن «الحقائق الناشئة حديثاً قلبت الموازين ضد يون، بالتالي، ومن أجل حماية كوريا الجنوبية وشعبنا، أعتقد أنه من الضروري منع الرئيس يون من ممارسة سلطاته رئيساً للجمهورية على الفور». وتابع زعيم الحزب الحاكم أن الرئيس لم يعترف بأن إعلانه فرض الأحكام العرفية إجراء غير قانوني وخاطئ، وكان ثمة «خطر كبير» من إمكانية اتخاذ قرار متطرف مماثل مرة أخرى إذا ظل في منصبه.

بالتوازي، ذكرت تقارير إعلامية كورية أن يون يخضع حالياً للتحقيق بتهمة الخيانة إلى جانب وزير الدفاع المستقيل كيم يونغ - هيون، (الذي ذُكر أنه حاول الانتحار)، ورئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن - سو، ووزير الداخلية لي سانغ - مين. وحقاً، تمثل الدعوة التي وجهها هان، وهو وزير العدل وأحد أبرز منافسي يون في حزب «قوة الشعب»، تحولاً حاسماً في استجابة الحزب الحاكم للأزمة.

خلفية الأزمة

تولى يون سوك - يول منصبه كرجل دولة جديد على السلطة، واعداً بنهج عصري مختلف في حكم البلاد. إلا أنه في منتصف فترة ولايته الرئاسية الوحيدة التي تمتد لخمس سنوات، شهد حكمه احتكاكات شبه دائمة مع البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وتهديدات «بالإبادة» من كوريا الشمالية، ناهيك من سلسلة من الفضائح التي اتهم وعائلته بالتورّط فيها.

وعندما حاول يون في خطابه التلفزيوني تبرير فرض الأحكام العرفية، قال: «أنا أعلن حالة الطوارئ من أجل حماية النظام الدستوري القائم على الحرية، وللقضاء على الجماعات المشينة المناصرة لنظام كوريا الشمالية، التي تسرق الحرية والسعادة من شعبنا»، في إشارة واضحة إلى الحزب الديمقراطي المعارض، مع أنه لم يقدم أي دليل على ادعائه.

إلا أن محللين سياسيين رأوا في الأيام الأخيرة أن الرئيس خطّط على الأرجح لإصدار مرسوم «الأحكام العرفية الخرقاء» أملاً بحرف انتباه الرأي العام بعيداً عن الفضائح المختلفة والإخفاق في معالجة العديد من القضايا المحلية. ولذا اعتبروا أن عليه ألا يطيل أمد حكمه الفاقد الشعبية، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من دون انتظار إجراءات العزل، ومن ثم، السماح للبلاد بانتخاب رئيس جديد.

بطاقة هوية

ولد يون سوك - يول، البالغ من العمر 64 سنة، عام 1960 في العاصمة سيول لعائلة من الأكاديميين اللامعين. إذ كان أبوه يون كي - جونغ أستاذاً للاقتصاد في جامعة يونساي، وأمه تشوي سيونغ - جا محاضرة في جامعة إيوها للنساء قبل زواجها. وحصل يون على شهادته الثانوية عام 1979، وكان يريد في الأصل أن يدرس الاقتصاد ليغدو أستاذاً، كأبيه، ولكن بناءً على نصيحة الأخير درس الحقوق، وحصل على شهادتي الإجازة ثم الماجستير في الحقوق من جامعة سيول الوطنية - التي هي إحدى «جامعات النخبة الثلاث» في كوريا مع جامعتي يونساي وكوريا - وأصبح مدّعياً عاماً بارزاً قاد حملة ناجحة لمكافحة الفساد لمدة 27 سنة.

ووفق وسائل الإعلام الكورية، كانت إحدى محطات حياته عندما كان طالب حقوق عندما لعب دور القاضي في محاكمة صورية للديكتاتور (آنذاك) تشون دو - هوان، الذي نفذ انقلاباً عسكرياً وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أعقاب ذلك، اضطر يون إلى الفرار إلى الريف مع تمديد جيش تشون الأحكام العرفية ونشر القوات والمدرّعات في الجامعة.

بعدها، عاد يون إلى العاصمة، وصار في نهاية المطاف مدعياً عاماً، وواصل ترقيه الوظيفي ما يقرب من ثلاثة عقود، بانياً صورة له بأنه حازم وصارم لا يتسامح ولا يقدّم تنازلات.

مسيرته القانونية... ثم الرئاسة

قبل تولي يون سوك - يول رئاسة الجمهورية، كان رئيس مكتب الادعاء العام في المنطقة المركزية في سيول، وأتاح له ذلك محاكمة أسلافه من الرؤساء. إذ لعب دوراً فعالاً في إدانة الرئيسة السابقة بارك غيون - هاي التي أُدينت بسوء استخدام السلطة، وعُزلت وأودعت السجن عام 2016. كذلك، وجه الاتهام إلى مون جاي - إن، أحد كبار مساعدي خليفة الرئيسة بارك، في قضية احتيال ورشوة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انخرط يون في السياسة الحزبية قبل سنة واحدة فقط من فوزه بالرئاسة، وذلك عندما كان حزب «قوة الشعب» المحافظ - وكان حزب المعارضة يومذاك - معجباً بما رأوه منه كمدّعٍ عام حاكم كبار الشخصيات، وأقنع يون، من ثم، ليصبح مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2022 تغلّب يون على منافسه الليبرالي لي جاي - ميونغ، مرشح الحزب الديمقراطي، بفارق ضئيل بلغ 0.76 في المائة... وهو أدنى فارق على الإطلاق في تاريخ الانتخابات في البلاد.

الواقع أن الحملة الانتخابية لعام 2022 كانت واحدةً من الحملات الانتخابية القاسية في تاريخ البلاد الحديث. إذ شبّه يون غريمه لي بـ«هتلر» و«موسوليني». ووصف حلفاء لي الديمقراطيون، يون، بأنه «وحش» و«ديكتاتور»، وسخروا من جراحة التجميل المزعومة لزوجته.

إضافة إلى ذلك، شنّ يون حملته الانتخابية بناء على إلغاء القيود المالية والموقف المناهض للمرأة. لكنه عندما وصل إلى السلطة، ألغى وزارة المساواة بين الجنسين والأسرة، قائلاً إنها «مجرد مقولة قديمة بأن النساء يُعاملن بشكل غير متساوٍ والرجال يُعاملون بشكل أفضل». وللعلم، تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين في كوريا الجنوبية الأسوأ حالياً في أي بلد عضو في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

أيضاً، أدى استخدام يون «الفيتو» تكراراً إلى ركود في العمل الحكومي، بينما أدت تهم الفساد الموجهة إلى زوجته لتفاقم السخط العام ضد حكومته.

تراجع شعبيته

بالتالي، تحت ضغط الفضائح والخلافات، انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب كوريا» أن شعبيته انخفضت إلى 19 في المائة فقط. وتعد «كارثة» الأحكام العرفية الحلقة الأخيرة في سلسلة من الممارسات التي حددت رئاسة يون وأخطائها.

إذ ألقي باللوم على إدارة يون في التضخم الغذائي، وتباطؤ الاقتصاد، والتضييق المتزايد على حرية التعبير. وفي أواخر 2022، بعدما أسفر تدافع حشود في احتفال «الهالوين» (البربارة) في سيول عن سقوط 159 قتيلاً، تعرضت طريقة تعامل الحكومة مع المأساة لانتقادات واسعة.

زوجته في قلب مشاكله!

من جهة ثانية، كانت كيم كيون - هي، زوجة الرئيس منذ عام 2012، سبباً آخر للسخط والانتقادات في وسائل الإعلام الكورية الجنوبية. فقد اتهمت «السيدة الأولى» بالتهرب الضريبي، والحصول على عمولات لاستضافة معارض فنية عن طريق عملها. كذلك واجهت اتهامات بالانتحال الأدبي في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وغيرها من الأعمال الأكاديمية.

لكن أكبر فضيحة على الإطلاق تورّطت فيها كيم، كانت قبولها عام 2023 هدية هي حقيبة يد بقيمة 1800 جنيه إسترليني سراً من قسيس، الأمر الذي أدى إلى مزاعم بالتصرف غير اللائق وإثارة الغضب العام، لكون الثمن تجاوز الحد الأقصى لما يمكن أن يقبله الساسة في كوريا الجنوبية وشركاؤهم قانونياً لهدية. لكن الرئيس يون ومؤيديه رفضوا هذه المزاعم وعدوها جزءاً من حملة تشويه سياسية.

أيضاً أثيرت تساؤلات حول العديد من القطع الثمينة من المجوهرات التي تملكها «السيدة الأولى»، والتي لم يعلَن عنها كجزء من الأصول الرئاسية الخاصة. وبالمناسبة، عندما فُتح التحقيق في الأمر قبل ست سنوات، كان زوجها رئيس النيابة العامة. أما عن حماته، تشوي يون - سون، فإنها أمضت بالفعل حكماً بالسجن لمدة سنة إثر إدانتها بتزوير وثائق مالية في صفقة عقارية.

يُضاف إلى كل ما سبق، تعرّض الرئيس يون لانتقادات تتعلق باستخدام «الفيتو» الرئاسي في قضايا منها رفض مشروع قانون يمهد الطريق لتحقيق خاص في التلاعب المزعوم بالأسهم من قبل زوجته كيم كيون - هي لصالح شركة «دويتشه موتورز». وأيضاً استخدام «الفيتو» ضد مشروع قانون يفوّض مستشاراً خاصاً بالتحقيق في مزاعم بأن مسؤولين عسكريين ومكتب الرئاسة قد تدخلوا في تحقيق داخلي يتعلق بوفاة جندي بمشاة البحرية الكورية عام 2023.

وهكذا، بعد سنتين ونصف السنة من أداء يون اليمين الدستورية عام 2022، وعلى أثر انتخابات رئاسية مثيرة للانقسام الشديد، انقلبت الأمور ضد الرئيس. وفي خضم ارتباك الأحداث السياسية وتزايد المخاوف الدولية يرزح اقتصاد كوريا الجنوبية تحت ضغوط مقلقة.

أمام هذا المشهد الغامض، تعيش «الحالة الديمقراطية» في كوريا الجنوبية أحد أهم التحديات التي تهددها منذ ظهورها في أواخر القرن العشرين.