من كاليفورنيا إلى صحراء العلا... الفن المعاصر في حوار مع الطبيعة

«ديزرت إكس» معرض يقدم أعمال لـ 14 فناناً

احتضنت العلا معرضاً فنياً مفتوحاً
احتضنت العلا معرضاً فنياً مفتوحاً
TT

من كاليفورنيا إلى صحراء العلا... الفن المعاصر في حوار مع الطبيعة

احتضنت العلا معرضاً فنياً مفتوحاً
احتضنت العلا معرضاً فنياً مفتوحاً

في الصحراء نتواضع ونشعر بحجمنا الحقيقي في هذا الكون، يراودني الشعور أثناء رحلة نحو العلا السعودية لمعاينة معرض فني ضخم بعنوان «ديزيرت إكس». ويمثل معرض «ديزرت إكس العلا» أول تعاون دولي لـ«ديزرت إكس» الذي يقام في «كونشيلا فالي» بكاليفورنيا الأميركية وتأسس لربط المجتمعات والثقافات الصحراوية من خلال الفن المعاصر. وينظم المعرض بالتعاون مع المخرج الفني في «ديزيرت إكس» نيفيل ويكفيلد والقيّمتين والمختصتين في الفن المعاصر من المملكة رنيم فارسي وآية علي رضا.
الحافلة التي تقلنا نحو العلا محملة بجمع كثيف ومتنوع الجنسيات واللغات، كل فرد في انتظار المفاجأة المعدة لنا، وعدنا بمعر ض فني كبير وعرفنا بعض الأسماء المشاركة، وها نحن نقترب من ذلك العرض، نشغل الوقت بالأحاديث الجانبية وبالنظر من نوافذ الحافلة لتصافح أعيننا التشكيلات الصخرية الشهيرة في العلا... ولكن لنا حديث آخر مع تلك الإبداعات الصخرية، نحن الآن في الموقع حيث تبدأ عناصر المفاجأة في الظهور شيئاً فشيئاً... على مسافات تكاد تكون متساوية نرى تشكيلات فنية بعضها مكون من قطعة واحدة فقط، وبعضها الآخر من أكثر من قطعة، كل منها يبدو متواضعاً في ظلال الجبال الصخرية، لن يبزها جلالا ولكن يكتفي بأن يكون وجوده هنا نوعاً من الحوار البصري، بين الإنسان والطبيعة، بين ما شكلته الرياح والمياه على مدى قرون لا تعد من أخاديد وأحافير وفجوات في الصخور الممتدة على مدى البصر، وبين ما شكلته يد إنسانية تقدم التساؤلات والتأملات في الحياة ومعانيها.
حسناً، يجب أن نرى بأنفسنا وأن نمشي عبر الرمال الكثيفة في رحلة البحث، البديع في الأمر أن الرمال والهواء الصحراوي البارد والهدوء الشامل كلها تعمل في تناغم، يستفيد العمل الفني هنا من كل ذلك، ويصبح التسلق على صخور متكسرة ممتعا بينما تجد الرمال طريقها نحو أحذيتنا لتزيد من المجهود، نشتكي أنا وصديقتي من الرمال في أحذيتنا ولكن الفنان مهند شونو الذي يرشدنا لاستكشاف عمله يقول بصبر وهدوء إنه أصبح يجد في حبيبات الرمال تدليكاً خاصاً لقدميه.
مع مهند شونو نمضي لنستكشف عمله الذي رأيناه من بعيد وكأنه أنبوب ضخم يتلوى حول الصخور، نغوص في الرمال وننظر من قرب، ليس أنبوبا بل مجموعة ضخمة من الأنابيب السوداء، شكلها الفنان لتشبه الطريق الملتف، يبدو كثيفا في أماكن ويتقلص في أماكن أخرى، نلاحظ أن الفنان لم يرد لعمله أن يكون ضيفا ثقيلا على البيئة حوله، تتفادى الأنابيب النباتات الصحراوية الصغيرة وتلف حول الصخور. يؤكد أن ذلك مقصده، ومع صعودنا لأعلى تلتف الأنابيب حول صخور أضخم وتختفي عن أنظارنا ثم تعود لتطل من خلف تشكيلة صخرية أبعد، يقول الفنان إن عمله يحمل عنوان «الطريق المفقود» ويضيف: «نحن كمن يسير في طريق متعرج يحدوه الأمل في العثور على الكنز ولكن الحقيقة أنه لا كنز ينتظرنا في مرحلة لاحقة، الطريق مستمر ومتعرج ومتفرع، أعلق قائلة: (لا أرى أن الطريق مفقود، فالأنابيب السوداء تتفرع أكثر وأكثر وكأنما تمد أطرافها لاستكشاف أكثر ولمعرفة ما يختبئ)»، «يومئ بابتسامة ويمضي أمامنا يجمع في طريقه ما يلوث الطريق، يحمل قوارير مياه بلاستيكية وقطعاً من البلاستيك ومغلفات أطعمة خلفها آخرون». في حديثه حول العمل يقول إنه يثير فينا حس المغامرة لنصبح كمن يبحث عن صندوق الكنز ولكن بشكل من الأشكال هنا يصبح الطريق هو المكافأة، «أن تجد نفسك وحيداً في مكان بعيد وسري وفي صمت مطبق».
في البداية تبدو الأنابيب غير هامة لا تلفت النظر كثيراً كما يقول شونو، ولكنها تتضخم وتتكاثر وتتمدد وتجذبك لها. يقول عن استخدام الأنابيب السوداء إنها مثل خطوط مرسومة بقلم الحبر: «كما أرسم على الورق بالحبر، أردت لهذه الأنابيب أن تكون خطوطاً مرسومة ليس على الورق ولكن في الطبيعة وعلى الرمل». يشير إلى أنه استخدم في عمله هذا 56 ألف أنبوب على امتداد 300 متر قام 15 شخصاً بتشكيلها على الرمل وبين الصخور. يؤكد أن عمله أيضا تعامل مع الطبيعة بود واحترام، فلم «يخل بالطبيعة ولم يتعد على نبتة أو حتى صخرة».
- منال الضويان شاعرية المياه في الصحراء
كعادتها تطلق الضويان عنوانا شعريا على عملها، هنا هو «يا ترى هل تراني؟» عملها جذب مجموعات من الزوار، وكان الأكثر تفاعلاً، ما يبدو أمامنا هو دوائر مغطاة بطبقات مطاطية سوداء (ترامبولين) مختلفة في الأحجام، تحيط بها مصابيح إنارة تضيئها ليلاً، تشجعني الضويان على الوقوف على الدائرة التي تتهادى وتتجاوب مع حركات الواقف عليها، في لحظات تأخذنا الدائرة ويتنافس الزوار على القفز لأعلى عليها، تتعالى ضحكاتهم كالأطفال وكيف لا والترامبولين لعبة الكبار والصغار المفضلة، تعبر الضويان بالدوائر السوداء عن برك مياه الأمطار التي تحن بها السماء على الصحراء في بعض الأحيان، نراها بعد المطر ونلهو فيها كالأطفال، نقفز وننثر ضحكاتنا على الرمال والصخور حولنا، وبحكم قانون الطبيعة الصحراوية، ستختفي البرك والدوائر ونعود ننتظر المطر لتعود معه الضحكات.
وفي المساء، تبدو أشبه بأشكال البدر المكتمل، ويتم تفعيلها باستخدام سلسلة من تقنيات الإضاءة حتى يتفاعل الناس معها. وعندما يصبح هذا التفاعل جسدياً، تتضاعف مساحة التبادل المادي للسبب والنتيجة، ويزداد معها الوعي بالبيئة وحساسياتها وتقبّل أفعالها. لقد كان تغير المناخ وممارسات الري العشوائية المبالغ فيها سبباً في ندرة المياه التي باتت اليوم واحدة من أهم التحديات العالمية. وبالتمعّن جيداً في أسباب اختفائها، تجعل الضويان من هذه البِرَك رمزاً ومؤشراً على أزمة المياه الوشيكة. تقول لنا: هذه البحيرة الصغيرة «تحكي معكم، هنا مكانها الطبيعي، كأنما تتحدث معنا، وجودها قصير ومحدود».
- {أما قبل} لناصر السالم
يبدو عمل ناصر السالم أشبه ببادرة بسيطة تمتد بين الماضي والحاضر على شكل ممر يرتسم محيطه بأشكال حروف عربية تشكّل عبارة «أمّا قبل». وتمتد هذه الكلمات على مسافة 9 أمتار لتتحول بأسلوب هندسي بديع إلى نفق يربط نقطة مجهولة في الصحراء بأخرى عصية على الوصف أيضاً. وليس لهذه العبارة القصيرة ما يماثلها تماماً في اللغة الإنجليزية، وكما هو حال المصطلح الرسمي المشتقة منه: «أمّا بعد»؛ تجمع هذه العبارة أُطُراً ومحاور زمنية من لحظة أو مكان ما إلى اللحظة أو المكان التالي. يكوّن هذا العمل جزءاً من سلسلة «أمّا بعد» للفنان السالم، وهو من معرضه الذي أطلقه في لندن في شهر يوليو (تموز) الماضي. يجذب العمل الزوار ليمروا داخل الأنبوب محاولين قراءة الأحرف الممتدة التي كون منها السالم جملته «أما قبل».
في نظر الفنان الكلمات تعبر عن أحداث كثيرة مضت وتركناها خلفنا ولكننا ننتظر ما الذي سيأتي بعد ذلك، ما بين «أما قبل» والذي نراه أمامنا في شكل أنبوب طويل إلى أعماله الأخرى التي تستكشف الأبعاد الفلسفية لجملة «أما بعد». بنظرة أقرب إلى الواقع المحلي يرى السالم أن ذلك المعنى ينطبق على التغييرات المتلاحقة في السعودية، إذ يقول: «أحس أن التجربة جديدة علينا، وإن فيها رؤية قادمة. أصبح أمامنا هدف نسعى للوصول إليه». يجسد النفق في هذا العمل حالة المرور، ويعبّر التقدّم من هنا إلى هناك عن حالة الانتقال بين الهويات الماضية والمستقبلية.
- خلخال علياء لشيرين جرجس
تجذبنا دائرة معدنية سوداء وباطنها ذهبي تتوسط صخرتين عاليتين. الاقتراب يتطلب مجهوداً ولكن العمل يتضح أكثر وأكثر، به جاذبية بصرية، يبدو كقيد حديدي لي، لكن الفنانة تقول لنا إنه خلخال مثل الذي ترتديه النساء في صعيد مصر. النقوش داخل الحلقة غير مقروءة لنا وتساعدنا الفنانة بالقول إنها قصيدة بدوية لامرأة من العلا، علياء بنت ضاوي العتيبي. تضيف أن الخلخال يجمع بين شخصين فهو هدية الزواج وهنا يجمع بين صخرتين.
تستوحي شيرين جرجس فكرة «خلخال علياء» من خلخال بدوي يلبس حول الكاحل كانت قد ورثته الفنانة عن والدتها. ولا يُعرف بالضبط تاريخ صنع هذا الخلخال، ولكن لطالما كانت الروايات الخيالية التي أحكيت حول قصص انتقاله عبر الأجيال من الأم إلى ابنتها مصدر إلهام للفنانة، ويوحي شكل الخلخال المذهل، والمزيَّن بمهاميز ضخمة الحجم وتفاصيل دقيقة، بالقوة، والأناقة، والتعبير عن الأنوثة. وباعتباره قطعة حلي، فإنه يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالجسد، إلا أنه رمز عام للوحدة والوعد.
- زهرة الغامدي... وميض من الماضي
«وميض من الماضي» يضم العمل التركيبي للفنانة زهرة الغامدي حوالي 6000 تنك تمر معدني قديم بأحجام مختلفة، تم رصفها لمسافة 80 متراً على شكل تضاريس منطقة العُلا. ويعتبر هذا العمل الفني بمثابة قصيدة تتغنى بالثروة الزراعية لمنطقة العُلا، هذه المنطقة ذات البساتين الغنية بأشجار النخيل التي غذت تجارة المنطقة والينابيع التي روتها لعدة أجيال. وأعادت الفنانة توظيف تنك التمور الذي لطالما استخدمت لتخزين ونقل التمور، لتشكل ما يشبه النهر المتلألئ والمتدفق بقوة من عدة روافد. وقد اختلطت في هذا العمل خمسة ظلال مختلفة من الرمال والمرايا. ولعل الممارسات الفنية المستخدمة في هذا العمل الفني قد طورته إلى درجة أنه لم يعد يتمحور حول زراعة التمور أبداً، وإنما أصبح جزءاً أساسياً من تكوين المشهد الطبيعي للمنطقة؛ حيث يلهب في داخلنا مشاعر الحنين إلى الماضي مع انعكاس صورة الجبال والسماء على الأسطح اللامعة للتنك والمرايا التي تصوغ هذا العمل. الطريف أننا نرى حمامتين بيضاوين تتخذان من الحاويات مقراً لهما، تنتقلان بينهما وتلتقطان ما يبدو وكأنه بذور، تتعجب الغامدي من وجودهما والثقة وعدم الخوف من الجمع المتحلق هنا، يرى فيه البعض تفاعلاً أكثر بين العمل الفني والطبيعة ولعلها الصدفة المناسبة، حيث تضيف الحمامتان عنصراً حياً للعمل يؤكد على رسالته بشكل ما.
- السيد وسراب الحروف
يستخدم الفنان التونسي السيد براعته في تشكيل حروف الخط العربي لتكوين عمل رائع بصريا، تنتظم الأحرف وتتشابك في تشكيل فني بديع. ويقول لنا أحد المتطوعين إن السيد استخدم أبيات شعر من جميل بثينة. السراب تبدو لنا من بعيد كالخيال فهي دائرة بنفس لون الرمال. تعود الأبيات الشعرية التي اختارها الفنان خصيصاً لهذه المنحوتة، إلى جميل بن عبد الله بن معمر، وهو شاعر من وادي القرى كتب هذه الأبيات لمحبوبته بثينة: «ألا ليت ريعان الشبـاب جديـد/ ودهـراً تولـى يا بثيـن يعـود/ ألا ليـت شعري هل أبيتنّ ليلـة/ بـوادي القرى إنـي إذن لسعيـد». تلخص هذه الكلمات حب الشاعر لهذه المنطقة، وقد اختارها الفنان ليلقي الضوء على سكانها وزوارها.
- راشد الشعشعي... ممر مختصر
عمد الشعشعي إلى توظيف رمزين متباينين لـ«الحضارة» و«التجارة»، أحدهما حديث والآخر قديم. فلطالما شكل الهرم موضوع دراسة مثير للإعجاب على مدى قرون عديدة وعبر مختلف المجالات، مثل الهندسة المعمارية والعلوم والروحانيات. وقد استخدم الفنان راشد الشعشعي الهرم نظراً لأهميته الرمزية، وكونه علامة لتقدم الحضارات بسبب تصميمه العبقري، وكونه صرحاً يجسد الحكمة والمعرفة القديمة. كما باتت الطبليات البلاستيكية التي تُستخدم عادة في شحن البضائع عبر أنحاء العالم اليوم أساس منظومة التجارة الحديثة. وهنا يبرز تاريخ منطقة العُلا كمحطة رئيسية على طريق تجارة البخور، وكمركز شهد في مرحلة تاريخية تبادل البضائع بين جميع أنحاء العالم.
وتتألّق الطبليات الزرقاء والممر الملون أمام الألوان الهادئة للمنظر الطبيعي في المنطقة، مما يجعل العمل أشبه بصرح مبهج حقيقي ومعاصر.
وعمد الفنان إلى شطر الهرم في منتصفه ليحثّ المشاهد على دخوله واستكشاف إبداعات الطبيعة والإنسان معاً.


مقالات ذات صلة

منتجع «بانيان تري» العُلا يطلق مجموعة متنوعة من العروض

عالم الاعمال منتجع «بانيان تري» العُلا يطلق مجموعة متنوعة من العروض

منتجع «بانيان تري» العُلا يطلق مجموعة متنوعة من العروض

«بانيان تري العُلا» يكشف عن تقديم مجموعة متنوعة من العروض لموسم العطلات

يوميات الشرق أعضاء اللجنة الوزارية أعربوا عن رغبتهم في تعزيز التعاون بما يعكس الهوية الثقافية والتاريخية الفريدة للمنطقة (واس)

التزام سعودي - فرنسي للارتقاء بالشراكة الثنائية بشأن «العلا»

أكد أعضاء اللجنة الوزارية السعودية - الفرنسية بشأن تطوير «العلا»، السبت، التزامهم بالعمل للارتقاء بالشراكة الثنائية إلى مستويات أعلى.

«الشرق الأوسط» (باريس)
الخليج صورة جماعية لاجتماع اللجنة الوزارية السعودية - الفرنسية في باريس الجمعة (الشرق الأوسط)

اجتماع للجنة السعودية - الفرنسية المشتركة لتطوير محافظة العلا

اجتماع للجنة السعودية - الفرنسية المشتركة لتطوير محافظة العلا، وبيان لـ«الخارجية الفرنسية» يؤكد توجيه فرنسا إمكاناتها وخبراتها لتطوير المنطقة.

ميشال أبونجم (باريس)
يوميات الشرق اجتماع اللجنة الوزارية السعودية - الفرنسية استعرض الإنجازات (وزارة الخارجية السعودية)

اللجنة الوزارية السعودية - الفرنسية بشأن «العُلا» تناقش توسيع التعاون

ناقشت اللجنة الوزارية السعودية - الفرنسية بشأن تطوير العُلا سبل توسيع التعاون المشترك بين الجانبين في مختلف القطاعات، خصوصاً في مجالات الآثار والرياضة والفنون.

«الشرق الأوسط» (باريس)
الخليج الأمير فيصل بن فرحان وزير الخارجية السعودي (الشرق الأوسط)

وزير الخارجية السعودي يصل إلى فرنسا للمشاركة في اجتماع «تطوير العلا»

وصل وزير الخارجية السعودي، إلى العاصمة الفرنسية باريس، اليوم؛ للمشاركة في الاجتماع الثاني لتطوير مشروع العلا.

«الشرق الأوسط» (باريس)

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».