أشياء العالم تتداعى

أشياء العالم تتداعى
TT

أشياء العالم تتداعى

أشياء العالم تتداعى

لعل الأول من فبراير (شباط) 2020، خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، سيضاف لتلك التواريخ الشهيرة التي شكلت منعطفات حاسمة في التاريخ الأوروبي، والإنساني أيضاً، مثل 1914، الحرب العالمية الأولى، و1934، مجيء هتلر إلى السلطة، و1939، اندلاع الحرب العالمية الثانية، و1945، انتهاء هذه الحرب وهزيمة النازية.
ولعل كل هذه الأحداث الكبرى هي نتاج لظاهرة واحدة بأشكال مختلفة: التشظي، الذي قد يكون أكبر ظاهرة في القرن العشرين أنتجها الوعي الاجتماعي والثقافي الأوروبي عشية الحرب العالمية الأولى، وظل يعيد إنتاجها طوال قرن ونيف تقريباً، بأشكال مختلفة، وآخر تجلياتها «بريكست» البريطانية.
ولعل أفضل من عبر عن هذا التشظي عام 1919، بعد سنة من انتهاء الحرب العالمية الأولى، هو الشاعر الآيرلندي وليم بتلر ييتس، في قصيدته «المجيء الثاني». لقد التقط ييتس بمجساته الإبداعية، كما في كل أدب عظيم، ما هو تحت السطح، الذي لم تكن ملامحه قد توضحت بعد للناس، ليكشفه أمام أعينهم ليفعلوا شيئاً إزاءه:
النسر يدور ويدور في حلقة تتوسع
لا يستطيع أن يسمع مروضه،
الأشياء تتداعى، المركز لا يصمد،
الفوضى سائبة في العالم،
سائب هو المد المغموس بالدم، وفي كل مكان
تغرق طقوس البراءة.
وبعد أربع سنوات من انتهاء الحرب العالمية الأولى، أي في 1922، وبعد 12 سنة من إعلان فرجينيا وولف عن مولد الحداثة في بريطانيا، جاءت قصيدة تي. أس. أليوت «الأرض اليباب»، التي أصبحت علامة فارقة كبرى في الحداثة الشعرية، ومنها العربية. لم تكن ثيمة القصيدة الأساسية سوى التشظي. وقد وظف أليوت كثيراً من الأساطير القديمة، اليونانية والرومانية، والشرقية، لتجسيد هذا التشظي المرعب.
والعمل الثاني هو رواية «يوليسيس» لجيمس جويس، الذي ولد في مثل هذه الأيام من عام 1882، وقد صدرت الرواية في العام نفسه الذي صدرت فيه قصيدة «الأرض اليباب» 1922. والتشظي هو البطل الرئيسي في هذه الرواية، التي هزت العالم، ولم تقعده بعد، كـ«الأرض اليباب».
كان ييتس يدعو، أمام تفكك العالم وتشظيه، إلى وحدة الثقافة بكل أنواعها: الشعر والموسيقى والمسرح والتشكيل والعمارة كشرط أساسي لوحدة الكائنات. لكن يبدو أن لعصرنا الحالي، عصر ثورة المعلومات والاتصالات، رأياً آخر. لقد حلت أدواته الخاصة، و«ثقافته» الخاصة، ووسائل تعبيره، محل المعرفة المعمقة التي راكمتها البشرية عبر قرون، والآيديولوجيا التي نحر على مشنقتها آلاف البشر.
نعم، صار العالم قرية واحدة على السطح، لكن في العمق تحول التشظي إلى حقيقة راسخة، بعد أن كان شبحاً يجول في الأفق، وابتعدت البشرية أكثر فأكثر عما كان يحلم به الشعراء والفلاسفة. وخطورة هذا التشظي أنه يفتح نوافذ في التاريخ قد لا تكون مرئية، لتتسلل عبرها العناكب، كما يحدث الآن مع الصعود السريع لظاهرة الشعبوية، التي أنتجت «بريكست» البريطاني. والمشكلة الأخطر تكمن في «سيولة» هذه الظاهرة.
وإذا كانت النازية والفاشية والديكتاتورية وغيرها من مظاهر القرن العشرين البغيضة، يمكن تفسيرها وفهمها، وبالتالي محاربتها، فإن الشعبوية بلا خصال محددة واضحة. إنها تنزلق دائماً، وترتدي ألبسة عديدة، وتراوغ وتزيغ كامرأة فاتنة، تغري بمظهرها الكاذب أرواحاً مكسورة، وعقولاً نيئة، وتعرف أين تبيع بضاعتها، وكيف تروج لسحرها. وربما لهذا السبب، لا يشعر العالم بعد، أو كما يجب، بخطورتها.
«بريكست» بريطانيا ليس مجرد خروج اقتصادي، أو نتيجة لنزعة قومية آخذة بالتضخم. إنه غطاء لظواهر أكبر: الميل المتنامي إلى العزلة والانغلاق، والخوف والتوجس من الآخر بدل الأخوة الإنسانية، التي كانت من أثمن ما حققته البشرية بعد دم وعذاب وموت.
كأننا الآن نعود إلى بداية القرن الماضي بهدوء و«ديمقراطية»، كما يبدو، لكن الخطر الأكبر كامن تحت السطح، ويحتاج عيوناً حادة البصر لتراه، كعيون ييتس وجويس وإليوت.



أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
TT

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد. كشفت أعمال التصنيف العلمي الخاصة بهذه اللقى عن مجموعة من القطع العاجية المزينة بنقوش تصويرية، منها عدد كبير على شكل أسود تحضر في قالب واحد جامع. كذلك، كشفت هذه الأعمال عن مجموعة من القطع المعدنية النحاسية المتعدّدة الأحجام والأنساق، منها 4 قطع على شكل أسود منمنمة، تحضر كذلك في قالب ثابت.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية، وتنقسم حسب نقوشها التصويرية إلى 3 مجموعات، فمنها ما يمثّل قامات أنثوية، ومنها ما يمثّل قامات آدمية مجرّدة يصعب تحديد هويتها الجندرية، ومنها ما يمثّل بهائم من الفصيلة السنورية. تزين هذه البهائم قطع يتراوح حجمها بين 3 و4.5 سنتيمترات عرضاً، حيث تحضر في تأليف تشكيلي ثابت، مع اختلاف بسيط في التفاصيل الجزئية الثانوية، ويوحي هذا التأليف بشكل لا لبس فيه بأنه يمثّل أسداً يحضر في وضعية جانبية، طوراً في اتجاه اليمين، وطوراً في اتجاه اليسار. يغلب على هذا الأسد الطابع التحويري الهندسي في تصوير سائر خصائصه الجسدية، من الجسم العضلي، إلى الرأس الكبير، إلى الأرجل الصغيرة. نراه فاتحاً شدقيه، رافعاً قائمتيه الأماميتين، وكأنه يستعدّ للقفز، ويظهر ذيله من خلفه وهو يلتف ويمتد إلى أعلى ظهره.

ملامح الوجه ثابتة لا تتغيّر. العين دائرة كبيرة محدّدة بنقش غائر، يتوسّطها ثقب يمثّل البؤبؤ. الأذنان كتلتان مرتفعتان عموديتان، والأنف كتلة دائرية موازية. فكّا الفم مفتوحان، ويكشفان في بعض القطع عن أسنان حادة مرصوفة بشكل هندسي. تحدّ الرأس سلسلة من النقوش العمودية المتوازية تمثل اللبدة، وهي كتلة الشعر الكثيف الذي يغطي الرقبة. يتكون الصدر من كتلة واحدة مجرّدة، تعلوها سلسلة من النقوش الغائرة تمثل الفراء. يتبنى تصوير القائمتين الخلفيتين نسقين متباينين؛ حيث يظهر الأسد جاثياً على هاتين القائمتين في بعض القطع، ومنتصباً عليها في البعض الآخر. في المقابل، تظهر القائمتان الأماميتان ممدّدتين أفقياً بشكل ثابت. أرجل هذه القوائم محدّدة، وهي على شكل كف مبسوطة تعلوها سلسلة من الأصابع المرصوفة. الذيل عريض للغاية، وتعلو طرفه خصلة شعر كثيفة تماثل في تكوينها تكوين أرجله.

عُثر على سائر هذه القطع العاجية في قبور حوت مجموعة كبيرة من اللقى شكّلت في الأصل أثاثها الجنائزي. للأسف، تبعثر هذا الأثاث، وبات من الصعب تحديد موقعه الأصلي. كانت القطع العاجية مثبّتة في أركان محدّدة، كما تؤكد الثقوب التي تخترقها، غير أن تحديد وظيفتها يبدو مستحيلاً في غياب السند الأدبي الذي من شأنه أن يكشف عن هذه الوظيفة الغامضة. تحضر الأسود إلى جانب القامات الآدمية، والأرجح أنها تشكّل معاً علامات طوطمية خاصة بهذه المدافن المحلية.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية

إلى جانب هذه القطع العاجية، يحضر الأسد في 4 قطع معدنية عُثر عليها كذلك ضمن أثاث جنائزي مبعثر. تعتمد هذه القطع بشكل أساسي على النحاس، وهي قطع منمنمة، تبدو أشبه بالقطع الخاصة بالحلى، واللافت أنها متشابهة بشكل كبير، ويمكن القول إنها متماثلة. حافظت قطعتان منها على ملامحها بشكل جلي، وتظهر دراسة هذه الملامح أنها تعتمد نسقاً مميزاً يختلف عن النسق المعتمد في القطع العاجية، بالرغم من التشابه الظاهر في التكوين الخارجي العام. يحضر هذا الأسد في كتلة ناتئة تبدو أشبه بالقطع المنحوتة، لا المنقوشة، ويظهر في وضعية جانبية، جاثياً على قوائمه الـ4، رافعاً رأسه إلى الأمام، ويبدو ذيله العريض في أعلى طرف مؤخرته، ملتفاً نحو الأعلى بشكل حلزوني. العين كتلة دائرية ناتئة، والأذن كتلة بيضاوية مشابهة. الفكان مفتوحان، ممّا يوحي بأن صاحبهما يزأر في سكون موقعه. اللبدة كثيفة، وتتكون من 3 عقود متلاصقة، تحوي كل منها سلسلة من الكتل الدائرية المرصوفة. مثل الأسود العاجية، تتبنى هذه الأسود المعدنية طابعاً تحويرياً يعتمد التجريد والاختزال، غير أنها تبدو أقرب من المثال الواقعي في تفاصيلها.

يظهر هذا المثال الواقعي في قطعة معدنية من البرونز، مصدرها موقع سمهرم، التابع لمحافظة ظفار، جنوب سلطنة عُمان. عُثر على هذه القطعة في ضريح صغير يعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، واللافت أنها وصلت بشكلها الكامل، وتتميز بأسلوب يوناني كلاسيكي يتجلّى في تجسيم كتلة الجسم وسائر أعضائها. يظهر الأسد واقفاً على قوائمه الـ4، مع حركة بسيطة تتمثل في تقدم قائمة من القائمتين الأماميتين، وقائمة من القائمتين الخلفيتين، وفقاً للتقليد الكلاسيكي المكرّس. يحاكي النحات في منحوتته المثال الواقعي، وتتجلّى هذه المحاكاة في تجسيم مفاصل البدن، كما في تجسيم ملامح الرأس، وتبرز بشكل خاص في تصوير خصلات اللبدة الكثيفة التي تعلو كتفيه.

يبدو هذا الأسد تقليدياً في تكوينه الكلاسيكي، غير أنه يمثّل حالة استثنائية في محيطه، تعكس وصول هذا التقليد في حالات نادرة إلى عمق شمال شرقي شبه الجزيرة العربية.