في وقت أكد فيه تقرير أممي أن «تنظيم (داعش) الإرهابي، أعاد تأسيس نفسه من جديد في العراق وسوريا، تحت قيادة أبو إبراهيم الهاشمي القرشي». أشارت دراسة أعدها «مرصد الفتاوى المتشددة» التابع لدار الإفتاء المصرية، نهاية يناير (كانون الثاني) الماضي، إلى «استعادة التنظيم مجدداً أساليب إرهابية قديمة عُرفت بـ(العمليات منخفضة التكاليف) بسبب افتقاره لموارده اللوجستية والبشرية والمادية». وقال حسن محمد، مدير مرصد دار الإفتاء المصرية، إن «لجوء (داعش) إلى (العمليات منخفضة التكاليف) كانت عبر مرحلتين، الأولى في مرحلة التأسيس لاستهداف المدن ومحاولة السيطرة عليها من خلال بث الرعب، والأخرى عندما يتعرض للهزائم ويفقد السيطرة على المدن»، موضحاً أن «النداء الأخير لـ(داعش) بالعودة للأساليب القديمة، يأتي في سياق النوع الثاني، بعدما مُني بخسائر هائلة خلال الأشهر الماضية، وتحول في استراتيجيته إلى ما يسمى (النكاية والإنهاك) وفق منهجه في (إدارة التوحش)، والتي تتضمن القيام بعمليات (الإرهاب الرخيص) التي تتميز بكونها قليلة التكلفة، ولا تحتاج إلى خبرة أو حنكة عسكرية»، مضيفاً لـ«الشرق الأوسط»، أن «اللجوء إلى تلك العمليات يكشف عن تراجع في أعداد عناصر التنظيم القادرين على شن هجمات إرهابية كبرى، وتكشف سعي التنظيم لاستعاضته عن فقدانه العناصر البشرية بـ(الذئاب المنفردة)».
لامركزية
ففي أعقاب مقتل أبو بكر البغدادي، زعيم «داعش» السابق، نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، نشطت منصات «داعش» الإعلامية للتحريض على استراتيجيات «الإرهاب الرخيص». وقال مراقبون إن «ذلك كشف عن تراجع حجم إمكانياته المالية وفقدانه للقدرات البشرية، بالإضافة إلى فقدان قدرات التخطيط والتدبير والتنفيذ للنشاط الإرهابي، وهو ما يمثل انتقال التنظيم من التخطيط المركزي إلى اللامركزي بشكل كامل».
من جانبه، أكد مدير مرصد الإفتاء المصرية، أن «اتجاه التنظيم نحو اللامركزية فيما يطلق عليها الأفرع والولايات، بدأ منذ فترة البغدادي؛ لكنه زاد في أعقاب مقتل البغدادي، وتولي القرشي الذي واجه عدداً من الانشقاقات الكبيرة وما زالت حتى الآن، وقد كشفت صحيفة (النبأ) الأسبوعية الناطقة باسم التنظيم عن تلك الانشقاقات، كما كشفت عنها الكلمة الأخيرة لأبو حمزة القرشي، التي توعد فيها المنشقين عن التنظيم والخارجين عليه، الأمر الذي دفع القرشي لمنح الأفرع والولايات مساحات أكبر من اللامركزية... كما أن مقتل البغدادي أثّر بشكل سلبي كبير على التنظيم وتماسكه، كون البغدادي كان يميل إلى المركزية أكثر من القرشي، ما يعني أنه في حالة مقتل القرشي، فإن التنظيم مُعرض لهزات ونكسات كبرى... وبالتالي فإن الحفاظ على بقاء التنظيم بعد مقتل قياداته يتطلب بشكل أساسي لامركزية في الإدارة، وهو المنحى الجديد الواضح في فكر القرشي».
وذكرت الدراسة المصرية أن «المنصات الإعلامية التابعة للتنظيم حرّضت عناصر التنظيم أخيراً على تنفيذ عمليات (الإرهاب الرخيص)، وتنفيذ أنماط أقل تكلفة؛ لكنها تضر مباشرة باقتصاديات الدول والأفراد، ويعد (الإرهاب الرخيص) أحد خيارات الجماعات الإرهابية في تنفيذ عمليات إرهابية بأقل تكلفة، تعتمد على تقنيات بسيطة، يصعب الكشف عنها، أو التنبؤ بها، وتتسم بسهولة نقلها، مبتعدة بذلك عن نمط العمليات ذات الأسلحة الثقيلة المكلفة مادياً ولوجستياً، التي يُمكن إفشالها بالتتبع والمراقبة». فيما أكد باحثون في «الإفتاء» أن «منصة موالية لـ(داعش) تسمى (الذئب المنفرد) دعت منذ عدة أشهر إلى استخدام أنماط جديدة منها (القتل بالسم، والدخان، والأسهم المسمومة، والصعق الكهربائي)، وتم طرح ملصقات أخرى في أعقاب مقتل البغدادي تدعو إلى استخدام (البالونات الحارقة)، واستخدام (المناطيد) لعمليات المسح بالقرب من المناطق العسكرية، وتوظيفه في عمليات النقل والاختباء والهجرة وتطوير إمكانياته عن طريق التحكم فيه عن بعد».
مؤشر على التراجع
وعن استخدام «البالونات الحارقة» واستخدام المناطيد. قال حسن محمد، إن «الدعوة إلى استخدام (البالونات الحارقة) تمثل مؤشراً على تراجع قدرات التنظيم التقنية والعسكرية، خصوصاً أن البالونات تمثل البديل عن الطائرة المسيّرة التي استخدمها التنظيم بكثرة في سوريا والعراق»، مضيفاً: «عقب تراجع التنظيم العسكري والتقني، لجأ إلى البالونات، وزادت الدعوات إلى استخدامها بشكل كبير على منصات التنظيم، خصوصاً على تطبيقات الهواتف التي شهدت تزايداً كبيراً في استخدام عناصر التنظيم لها»، موضحاً أن «استخدام (البالونات الحارقة) بوصفها وسيلة جديدة، يُصعّب بشكل كبير نجاحها لما تمثله من صعوبة التخفي في المراقبة والرصد، كما أنه يسهل التعامل معها من خلال القوات العسكرية على الأرض بأقل التكاليف والإمكانيات؛ لكنها تظل وسيلة فعالة في مراقبة المدن والمحاور، بعيداً عن الاشتباكات المسلحة، فهي توفر ميزة المسح والرصد الفعال للمناطق الحضرية والمدن».
كان التقرير الأممي، الذي أعده «فريق الأمم المتحدة للمراقبة»، نهاية الشهر الماضي، الذي يتتبع تهديدات الإرهاب العالمي، قد ذكر في هذا الصدد أنه «من الواضح أن من ضمن أسباب صمود (داعش) في سوريا والعراق أخيراً، جيوبه العميقة؛ لكن في ظل انخفاض النفقات العامة الآن، لم يعد التنظيم قادراً على إدارة بقايا الدولة المزعومة هناك».
وسبق أن حرضت مجلة «رومية» التابعة لـ«داعش» على تنفيذ هجمات عبر «إشعال الحرائق المتعمد»، وقد تسبب التنظيم خلال الأشهر الماضية في إشعال الحرائق في عدد من المزارع بالعراق. واستمر التنظيم في التحريض على هذا النمط بعد مقتل البغدادي، حيث ما زالت منصات التنظيم تُحرض على إشعال الحرائق في «شاحنات نقل النفط»، و«خطوط أنابيب الغاز»، و«محطات الوقود»، وذلك باستخدام أدوات بسيطة مثل «السيجارة» بحيث تبدو كحادثة.
إلى جانب الأنماط السابقة. قالت دراسة دار الإفتاء، إن «(داعش) سيعمل على استغلال أوضاع مناطق النزاعات في كل من (جنوب آسيا، وغرب ووسط أفريقيا، وشمال أفريقيا، ومنطقة الشام والعراق) لتنفيذ (حروب العصابات)، وعمليات الكر والفر؛ لكن سوف يُركز بشكل أساسي على أنماط وأسلحة خفيفة، حسب قدراته في تلك المناطق وأبرزها (عمليات إطلاق النار العشوائي على الأهداف الأمنية والعسكرية، واستهداف شخصيات عامة وأمنية، وزرع عبوات ناسفة محلية الصنع، فضلاً عن عمليات الاختطاف، والذبح، وإعدام المختطفين، واستهداف الكنائس والأديرة والمساجد، وحرق المزارع ونهب المحال التجارية)».
من «القاعدة» لـ«داعش»
وعن جذور «الإرهاب الرخيص»، أرجعته دراسة دار الإفتاء المصرية، إلى تنظيم «القاعدة» الإرهابي عام 2010، حينما حرّض التنظيم على استهداف الأجانب، وتنفيذ عمليات إرهابية في أوروبا، عبر استخدام تقنيات وأدوات بسيطة، ومن ثم بدأت مجلة التنظيم «إنسباير» الناطقة بالإنجليزية في التعريف بكيفية صُنع «عبوة ناسفة» عن طريق أدوات المطبخ، وامتزجت تلك العمليات مع تنامي الإرهاب في الولايات المتحدة الأميركية، خصوصاً عمليات «إطلاق النار» العشوائي على التجمعات وفي أثناء الاحتفالات... وتطورت تلك الأنماط مع ظهور «داعش» في العراق وسوريا، واعتماده على العمليات المعقدة، وعمليات الاستحواذ على الأرض، وتعددت هنا أدواته في «الإرهاب الرخيص» منها «عمليات الطعن، والدهس، والتفجيرات، والسيارات المفخخة، وإطلاق النار العشوائي، والخطف، والهجمات الإلكترونية»، ولم تتوانَ منصات «داعش» الإعلامية عن شرح كيفية صنع قنابل بسيطة.
وفي ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلن التنظيم ذبح 11 رهينة مسيحية جميعهم من الرجال في نيجيريا... وسبق أن تبنى التنظيم أكثر من عملية طعن.
وحول مسببات توجه «داعش» إلى التحريض على «الإرهاب الرخيص» خلال الفترة الأخيرة. أرجعته الدراسة المصرية إلى «تعويض عجز التنظيم المالي واللوجيستي، والحفاظ على مقومات القدرات البشرية، ونشر الخوف بين السكان المستهدفين، وإحداث ارتباك شامل داخل المجتمعات».
وحذرت الدراسة ذاتها من «احتمالية تزايد التحريض من عناصر التنظيم على (العمليات منخفضة التكاليف)؛ لأنها تحقق عدة منافع للتنظيم، منها تكلفة أقل من العمليات الإرهابية المركبة والمعقدة، ونشر الخوف والرعب، والإضرار بالمصالح الاقتصادية والخدمات العامة، وإنهاك الدول اقتصادياً، وإمكانية التوسع فيها، وتقليل عدد الخسائر البشرية لدى التنظيم، وسهولة اختراق الاستنفارات الأمنية في عدد من المناطق، والتغطية على مخططات التنظيم لتنفيذ عمليات معقدة ومركبة، والتسبب في إرهاق وتشتيت أجهزة الأمن والاستخبارات بالبحث والتتبع، ومن هنا ستتنوع تلك الأنماط وفقاً لطبيعة كل مجتمع».
وعن الأنماط الجديدة التي دعا إليها «داعش»، أكد حسن محمد، أنه «من أبرز هذه الأنماط الكبيرة والمؤثرة ما يُعرف باسم (الإرهاب الهاتفي) الذي يعد صورة من صور (الإرهاب الإلكتروني)، عبر استخدام الوسائل العلمية الحديثة، من أجل إلحاق الأذى النفسي والمادي بالآخرين، ويعتمد على استخدام شبكات الاتصالات، الأمر الذي يجعلها هدفاً سهل المنال، وأقل تكلفة من استخدام الجماعات الإرهابية للأدوات التقليدية في العمليات الإرهابية ونشر الذعر والفوضى في المجتمعات، خصوصاً المتفجرات والعبوات الناسفة، لذلك فإن أنظمة الاتصالات باتت محل استهداف من هذه المجتمعات».
وحول لجوء «داعش» إلى مثل هذه الأساليب مجدداً، قال محمد: «هذه الآليات موجودة في فكر واستراتيجيات التنظيم منذ نشأته؛ لكنّ اللجوء إليها مرة أخرى يكشف أوضاع التنظيم وما يواجه من مشكلات وصعوبات، وفي الحالة الراهنة للتنظيم الإرهابي، فإننا يمكننا القول إن الخسائر المادية والبشرية والتقنية التي تعرض لها التنظيم هي الدافع الأهم للجوء التنظيم إلى هذه الآليات، فقبل أسابيع تمكن الاتحاد الأوروبي من حذف نحو 26 ألف حساب ومنصة إلكترونية تابعة للتنظيم على مواقع الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي، هذا إلى جانب الهزائم العسكرية التي مُني بها التنظيم في معاقله في سوريا والعراق».