تحولت مدينة جدة ليلة أمس إلى معرض فنّي شامل مع افتتاح النسخة السابعة من معرض الفنون السنوي 21,39، الذي يأتي هذا العام محملا بهموم بيئية ورسالة حب واعتذار لكوكب الأرض. وتفاعل مع موضوع العام الحالي، وعنوانه "أيتها الأرض" عدد ضخم من الفنانين، قدم كلّ منهم تصوّره لقضايا البيئة مع نظرة محلية تحاول فهم دور الإنسان في إصلاح الضرر الذي وقع على البيئة وأيضا محاولة فهم العلاقات مع الكائنات التي تشاركنا الحياة على هذا الكوكب.
تجوّل الزوار بين المعروضات باهتمام واضح، ودارت المحادثات مع الفنانين حول رؤاهم وأعمالهم، وكان من اللافت أيضا الإقبال على حضور عروض الفيديو المشاركة التي تميّز منها عرض الفنان أيمن زيداني المعنون بـ"عودة القدماء 2020".
وخلال جولة خاصة بـ«الشرق الأوسط»، مع منسقة العرض مايا الخليل، التي استعرضت لنا الفكرة وراء العرض والمفهوم الذي استند إليه.
بداية الانطباع الذي يتركه المعرض لدى المشاهد هو الإحساس بالحب لهذه الأرض والحزن لمعاناتها، كما يخالطنا شعور بالحنين لأزمنة مضت ولطرق حياة تغيرت، أما الإحساس بالقلق من القادم فهو متغلغل في كل الآمال الموجودة. المعرض طموح وغني بالأفكار والتحليلات والتجليات المرئية وممتع على أكثر من مستوى.
لكل معرض محور ونقطة محددة ينطلق منها محملاً بالأفكار والمعاني، وفي معرض «أيتها الأرض» ننطلق من أعمال فراي أوتو الفنان والمصمم المعماري العالمي الحائز على جائزة بريتزكر للهندسة المعمارية (1925 - 2015)، وهو رائد هندسة وتصميم الهياكل الخفيفة والمحاكاة الحيوية. في جولة ممتعة جداً وموجعة في أحيان ولكن مليئة بالأفكار والتحليلات والاكتشافات، انطلق مع منسقة المعرض مايا خليل لاستعراض الأعمال المشاركة. تبدأ الحديث معي عن فراي أوتو وتأثيره على الكثيرين وأعماله التي نفذها في السعودية، بعض منها ما زال موجوداً وعدد آخر لم ير النور. «الفكرة من المعرض اعتمدت في الأساس على أعمال فراي أوتو، الذي نرى بعضاً من تصميماته المعمارية هنا في السعودية. أوتو يعد والد مذهب محاكاة الطبيعة (بيو ميميكري) وهو أسلوب معماري يبحث عن الحلول المستدامة في الطبيعة، وذلك عن طريق محاكاة الأشكال الطبيعية. التعريف الموسوعي للفلسفة التي قامت عليها فلسفة وطريقة عمل فراي أوتو يفتح لنا الباب لفهم الأعمال المختلفة التي شارك بها 60 فناناً في معرضنا هذا». وهو أيضاً ما تعبر عنه المنسقة مايا الخليل بقولها: «أوتو كان قريباً جداً من الطبيعة في أعماله»، وتستطرد: «أعتقد أنه أمر هام جداً أن نعيد التفكير في علاقتنا بالطبيعة في هذه المرحلة تحديداً».
كانت نقطة التواصل مع الفنانين نابعة من فلسفة فراي أوتو، تشرح لنا: «بدأت التواصل مع الفنانين على أساس مفهوم واضح ومحدد وهو التفاعل مع البيئة وتأثيرنا عليها، أدركت أن الموضوع كان بعيداً عن الممارسات الفنية التي قاموا بها حتى الآن. قررنا سوياً أننا نريد أن نقدم لمحة وفكرة مرتبطة بالقضية البيئية»، تشير إلى أن الوقت المتاح أمام الفنانين للبحث والقراءة وتكوين مفهوم فني متماش مع الموضوع كان محدوداً ولكن ذلك أمر يمكن تفهمه، «فقليل يعرفون عن أعمال أوتو في السعودية وبعض تلك الأعمال لم ير النور».
تقدم مايا الخليل مع جورج فراشليوتيس، أستاذ نظرية العمارة ومدير مجموعة الهندسة المعمارية في معهد كارلسروه للتكنولوجيا، فرصة للتأمل في رؤية المصمم فراي أوتو وكيف ساهمت في المشهد الحضري للمملكة العربية السعودية، التي أصبحت موطناً لبعض مشاريعه الأكثر ابتكاراً.
فرح بهبهاني... أغاني البحر وبلاستيك ملون على قاع المحيط
نمر في جولتنا على الفنانة الكويتية فرح بهبهاني التي تقدم عملاً مستوحى من الحياة قديماً في الكويت، من علاقة السكان بالبحر والمحيط، تختار بهبهاني مفرداتها الفنية بوعي وحساسية، تقول ملخصة في كلمات بليغة عملاً نراه أمامنا يحتل مساحة كبيرة ويطغى بحضوره على ما عداه: «عملي هنا يتعلق بحماية التنوع البيئي في الخليج العربي». عملها يبدو كموجة ضخمة من الورق الأبيض المطوي وكأنه موجة من البحر على طاولة سطحها زجاجي وتحدها حبال. هل هي المراكب التي كان السكان يستخدمونها لطلب الرزق في الخليج، وما هذه الأشكال المنتظمة على الأرض أسفل ذلك المجسم الورقي، الأشكال منتظمة وهندسية وملونة. تشير الفنانة إلى أن الأشكال المنتظمة أمامنا تكون كلمات لقصيدة لشاعر كويتي عنوانها «رحال». تشرح لنا أكثر: «ما فعلته هو التأمل في الأشكال الهندسية في الطبيعة، قرأت عن نوع من الحياة الفطرية البحرية متعدد الأشكال (4000 شكل)، هي أشكال ميكروسكوبية. ما أثار اهتمامي هنا هو الأشكال المتماثلة التي تتخذها، اخترت أحد هذه التشكيلات وبدأت العمل معها وتكوين عملي هنا، في ثنايا الورق أدخلت كلمات قصيدة «رحال» للشاعر بو رسلي، وذلك باستخدام أسلوب من التراث الإسلامي يطلق عليه «التأبير»، وهو عبارة عن إحداث ثقوب في الورق باستخدام الإبرة. القصيدة تتحدث عن تاريخ الكويت قبل اكتشاف النفط وأهمية الحياة البحرية لأهلها.
استخدمت الفنانة الخط الكوفي لتكون كلمات القصيدة باستخدام ثقوب الإبرة. «تأثير أسلوب التأبير بصرياً مذهل بالفعل، يخترق الضوء تلك الثقوب الصغيرة ويطرح الظلال على الأرضية تحتها»، تقول: «أردت أن أبدأ المحادثة حول التلوث والبحار». كلمات القصيدة نراها على الأرض وكأنما تسللت من الثقوب في موجة الورق الموضوعة أعلى، تقول كلماتها: «هيلي يلاا... يلاا... رحال يطوي البحور يبحر ليالي القوس يبني الحياة...». هل سيكون التأثير أكبر لو كان هناك صوت يؤدي تلك الكلمات ليغلف المشهد الفني ويحول الأمر إلى تجربة مكتملة؟ أتساءل وأترك سؤالي مع الفنانة وأنتقل مع المنسقة الخليل لجانب آخر من المعرض.
في عرض الفنانة دانية الصالح، تشير المنسقة إلى أن الفنانة تتناول فكرة تعتمد على العمل الجيد أو الفكرة الجيدة تحمل داخلها الطاقة للتكاثر، وتضيف: «الفنانة تستنسخ التواصل مع الطبيعة وكأنها تحمل رسالة تقول: (نحن متصلون ببعضنا، ما هي طبيعة التواصل الذي نريد أن يتكاثر ويتكرر؟)».
الرجل الأخضر يعود دائماً
الفنان مهند شونو يجلس منكباً على إكمال عمله الضخم والمعتمد على أسطورة عالمية هي «الرجل الأخضر»، أتحدث معه سريعاً عن النقوش والخطوط التي يخطها، ويقول: «حذرونا من الصغر من محاولة تقليد الكائنات الحية أو إعادة رسمها، كان الحل وقتها هو رسم خط بالعرض على رقبة الشخص أو الحيوان المرسوم حتى تنتفي شبهة تقليد الحياة». يلتقط الفنان فكرته الفنية من ذلك الخط، وتتطور الفكرة معه بشكل مبدع، أن ترسم خطاً على الرسم فكأنما تقطع رأسه. يربط بين الفكرة وبين شخصية موجودة في أدبيات وأساطير عالمية وهي شخصية «الرجل الأخضر» الذي يتعرض لتقطيع أجزائه ولكنه يستعيد حياته في كل مرة. هو أوزوريس وهو أيضاً الرجل الأخضر في قصة الملك آرثر. يرى الفنان في العودة الدائمة للرجل الأخضر بعد كل مرة يتم قطع رأسه، نوعاً من التحدي والانبعاث والتجديد.
معرض «أيتها الأرض» يحمل من الأعمال الكثير وكل عمل يستحق التوقف أمامه ومحاولة فك رموزه، أكتفي بجولتي الأولى وأخرج من المعرض محملة بالأفكار والصور والمعاني، ولكن المعرض يستحق العودة مرة ثانية لاستكمال ما أراد بقية الفنانين الـ60 قوله. وأستعيد جملة قالتها المنسقة مايا الخليل في المؤتمر الصحافي أمس: «قد انفصلنا عن الطبيعة، ببناء علاقة متزايدة من الهيمنة والاستغلال. نحن بحاجة إلى إعادة النظر في قيمة تربطنا ليس فقط مع الطبيعة ولكن مع بعضنا البعض. من خلال مراقبة ومحاكاة أنماط واستراتيجيات الطبيعة التي تم اختبارها عبر الزمن، لدينا بالفعل حلول لمستقبل مستدام».
إقبال جماهيري على معرض «أيتها الأرض» الفني بجدة
المعمار والفن يوجهان رسالة حب عاجلة واعتذار للبيئة
إقبال جماهيري على معرض «أيتها الأرض» الفني بجدة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة