الكلام المهلك والكلام المنجي من الهلاك

برزخ رمزي بين الحياة والموت

لوركا - بوشكين - المتنبي
لوركا - بوشكين - المتنبي
TT
20

الكلام المهلك والكلام المنجي من الهلاك

لوركا - بوشكين - المتنبي
لوركا - بوشكين - المتنبي

يكتسب الكلام عند العرب أبعاداً ودلالات مختلفة، يتصل بعضها بالمقدس الديني، وبعضها الآخر بالسلطة والاستحواذ، وبعضها الثالث بالغواية والمروق، وبعضها الرابع بالإشارات المبهمة، وبطقوس السحر التي ترسم المصائر، أو تعدل من مسارها. والكلام وفق الرؤية الدينية هو نفسه الفعل، حيث يقول الله للشيء «كن» فيكون. وهو الذي يستهل العالم؛ حيث يرد في إنجيل يوحنا: «في البدء كان الكلمة». وكما للكلمات قوة الخلق أو التحويل، فإن لها في الآن ذاته مذاق الطعنة والقدرة على اختراق الروح. وهو أمر يؤكده المعجم نفسه، فنقرأ في «لسان العرب» بأن الكلْم هو الجرح، والكليم هو الجريح. ليس بالمستغرب إذن أن يعتبر أحد الشعراء بأن «الحرب أولها كلام»، لا بل إن المقطوعات والأراجيز كانت تستبق على الدوام صليل السيوف، بما لها من قوة نفسية مؤثرة. وقد يكون الكلام امتحاناً من الخالق للمخلوق وابتلاءً له، كما جاء في الآية الكريمة «وإذ ابتلى إبراهيم ربُّه بكلمات».
يبدو الكلام إذن بمثابة برزخ رمزي بين الحياة والموت. إنه أداة للهلاك بقدر ما هو أداة للخلود ومقارعة النسيان. وليس أدَلّ على الكلام المحيي من رواية «ألف ليلة وليلة»، حيث كان صمت النساء اللواتي قتلهن شهريار أحد أسباب قتلهن، إضافة إلى الخيانة. إنه الصمت المريب والمحرض على الشك والباعث على السأم.
وقد أدركت شهرزاد بفطنة أنثوية بالغة أن ما دفع زوجها إلى القتل لم يكن شعوره المرير بالخيانة فحسب، بل شعوره بالضجر ووطأة الوحشة والصمت الثقيل. لذلك وجدت في الكلام ضالتها المنشودة، وراحت تسرد الحكاية تلو الحكاية لكي تضلل الهياج العصبي الموار داخل الرجل المثخن بالوساوس. كأن الكلام هنا يلعب دور الرداء الأحمر الذي يحمله مصارعو الثيران لخداع الثور الهائج وصرف نظره عن الهدف الأصلي. ولعل ما فعلته شهرزاد هو الذي قدم الأمثولة الأهم لفن السرد، كما لروائيي العالم اللاحقين الذين وجدوا في هذا الفن ما يساعد البشر على الاستقالة من حيواتهم الأصلية ومصائرهم الملبدة بالمشقات، ليتماهوا مع حيوات موازية مأهولة بفتنة المتخيل وعوالمه المؤثثة بالأحلام.
«تكلّمْ، أو متْ»، كان الشعار الذي تبناه شهريار في علاقته بالآخر الأنثوي، بما جعل الكلام مرادفاً للحياة نفسها وملاذاً وحيداً من القتل. ومع ذلك فإن شهرزاد قد استطاعت بحنكة بالغة الإمساك بمفاتيح الكلام والصمت على حد سواء، فلم تترك السرد على عواهنه، ولم تشأ لزوجها أن يقع مرة أخرى فريسة للضجر.
ولهذا كانت تصمت في اللحظة المناسبة عن الكلام المباح، محولة المسافة الفاصلة بين ليلة وأخرى إلى فرصة متجددة للترقب والتشويق وانتظار ما سيحدث. وهي كانت تدرك في الآن ذاته أن الكلام الناقص أو المؤجل لن يكون مرادفاً لرمزية الخلق الإبداعي وحدها، بل إنه سيوفر لزواجها الاستمرارية الكافية للحمل والإنجاب والوصول إلى شاطئ الأمان. كأن البذرة التي انزرعت في أحشائها مستلة من الكلمات نفسها، وهي تمنحها الحياة التي تستحقها مرتين، مرة عبر جنينها النابض في باطن الرحم، ومرة عبر الرواية الأشهر في العالم، التي خلدت وستخلد أبد الدهر في ذاكرة البشر ووجدانهم.
على أن الكلام عند العرب لم يتخذ في الأعم الأغلب مثل هذه الوجهة، بل كان في معظم حالاته سبباً لهلاك المتكلم ووصوله السريع إلى حتفه، بخاصة في مجال الشعر. فحيث لم يكن للرواية شأن يذكر، باستثناء بعض المقامات والسير الشعبية، كان الشاعر وحده هو الذي يؤرخ ويروي ويمدح ويهجو ويسرد الوقائع.
وبسلاح الكلمات المنظومة كان الشاعر قادراً على إعلاء شأن هذه الجماعة أو ذلك الحاكم، أو الحط من شأنها وشأنه. وهذا السلاح الساحر الذي وُهبته قلة قليلة من البشر كان يكفي في بدايات الدعوة لكي ينقل بعض القبائل من الكفر إلى الإيمان، كما حدث لبني تميم الذين دخلوا الإسلام إثر المبارزة الشعرية التي حدثت بين شاعرهم الزيرقان وبين حسان بن ثابت، وانتهت بهزيمة الأول أمام الثاني. وإذا كان الشعر في هذه الحالة قد عمل نيابة عن الدم على إيصال المواجهة إلى نهاياتها السعيدة، فإن الأمور في أغلب الحالات لم تسر على النحو، بل بدت بعض القصائد والمقطوعات والأبيات بمثابة أحكام بالإعدام استصدرها الشعراء بحق أنفسهم، عن عمد أو غير عمد. والتاريخ العربي منذ الجاهلية حتى العصور الحديثة، حافل بعشرات الشواهد التي تجعل من الكلام بطاقة سفر إلزامية نحو الموت أو المنفى. وغالباً ما كانت السلطات المتعاقبة تبحث بين سطور الشعراء عن هفوة أو شطط أو إيحاء ما بالتمرد والاعتراض، لكي تجد الذريعة الملائمة للتخلص من أولئك المتربعين على سدة اللغة.
لن تتسع مقالة واحدة بالطبع للحديث عن الشعراء والكتاب الذين وضعتهم ألسنتهم وأقلامهم الجريئة على طرق الهلاك. على أن أغرب حالات القتل هي تلك التي حدثت للغلام القتيل طرفة بن العبد الذي هجا ملك الحيرة عمرو بن هند بكلام مقذع، فما كان من هذا الأخير إلا أن تظاهر بالصفح عن إساءة الشاعر، محملاً إياه رسالة إلى واليه على البحرين تقضي بقتل حامل الرسالة فور تسلمها منه، وهي الحادثة التي تحولت إلى مثل سائر يستعيده العرب في جميع الحالات المماثلة. أما الشاعر العباسي بشار بن برد فقد قضى بدوره جراء هجائه المقذع للخليفة المهدي، ولم ينجح عمى عينيه في تليين قلب الخليفة وإفلاته من العقاب.
وكذلك الأمر بالنسبة لابن الرومي الذي قتله الوزير العباسي القاسم بن وهب، إثر هجائه له.
كما أن الموهبة الفريدة والاستثنائية لأبي الطيب المتنبي لم تشفع له عند فاتك الأسدي الذي كمن له قرب بغداد وقتله مع ولده محسد، بسبب قصيدة هجائية كان الشاعر قد سخر فيها من خال القاتل، ضبة بن يزيد الأسدي. لكن الذرائع المعلنة لقتل الشعراء والكتاب لا تستطيع أن تخفي الأسباب الحقيقية المتصلة باعتراضهم على سلطة الأمر الواقع، وبجعلهم عبرة بالغة الوضوح لكل من تسول له نفسه شق عصا الطاعة على الحاكم. إلا أن من الظلم بمكان أن نحصر مسألة قتل المبدعين المعترضين على سلطة الفساد والقمع بالعرب وحدهم، إذ إن التاريخ البشري حافل بشواهد مماثلة لدى الكثير من الشعوب والأمم التي تسلم مبدعيها الكبار إلى القتل، وبخاصة في حقب الفوضى والانهيار والتخبط السياسي والاجتماعي.
حتى إذا خرجت الأمة من غيبوبتها، عمدت إلى التكفير عما ارتكبته، أو سكتت عن حدوثه، عبر إحاطة رموزها القتيلة بكل أنواع التكريم والتبجيل. وإذا كان ت. س. إليوت قد اعتبر عن وجه حق بأن «ما من فن يجسد الروح القومية الحقيقية كما هو الحال مع الشعر»، فإن المرء لا يستطيع إلا أن يتوقف ملياً عند المصائر الفاجعة لثلاثة من الشعراء الذين جسدوا هذه الروح بامتياز، ومنحوا لغاتهم الأم أثمن ما حصلت عليه عبر تاريخها الطويل، وأعني بهؤلاء: المتنبي العربي، وبوشكين الروسي، ولوركا الإسباني، حيث قتل الأول على يد قاطع طريق متعطش للثأر، وقتل الثاني بمكيدة من القيصر الروسي الذي لم يرق له انحياز الشاعر إلى الثورة، بينما قضى الثالث بقرار من فرانكو، قائد الانقلاب الفاشي على الجمهوريين، في ذروة الحرب الأهلية الإسبانية.



«قاع البحر» للتشكيلية اللبنانية ندى عيدو: نداء لمراجعة مشاعر دفينة

تحمل لوحات عيدو حركة فرشاة تُشبه «قاع البحر» (الشرق الأوسط)
تحمل لوحات عيدو حركة فرشاة تُشبه «قاع البحر» (الشرق الأوسط)
TT
20

«قاع البحر» للتشكيلية اللبنانية ندى عيدو: نداء لمراجعة مشاعر دفينة

تحمل لوحات عيدو حركة فرشاة تُشبه «قاع البحر» (الشرق الأوسط)
تحمل لوحات عيدو حركة فرشاة تُشبه «قاع البحر» (الشرق الأوسط)

تعكس لوحات الفنانة التشكيلية اللبنانية ندى عيدو، في معرض «قاع البحر»، مشاعرها الدفينة؛ إذ تصوّرها مرآةً تتلألأ فيها أفكارٌ عميقة، فتنتابها حالة من الحلم الواقعي، وتخرجها في جرعات ملوّنة بأحاسيسها الشخصية. تتلفّت يميناً ويساراً لتبدأ رحلتها مستكشفةً أقاصي الهاوية.

يُقام المعرض في غاليري «آرت ديستريكت» بمنطقة الجميزة في بيروت. وفي صالة شاسعة تتوزّع الأعمال الـ15. فبأحجام كبيرة وجولات وصولات بفرشاة سميكة مشبَّعة بالألوان الزيتية، تنثر الفنانة موضوعاتها. ويطبع هذه الأعمال صدى عمق التجربة مُترجَمة بألوان داكنة، ومرات أخرى بالأبيض الطاغي لتولّد حالات اعتراف صريحة.

النور في اللوحات ينساب من عتمة الأعماق (الشرق الأوسط)
النور في اللوحات ينساب من عتمة الأعماق (الشرق الأوسط)

توضح ندى عيدو لـ«الشرق الأوسط»: «جميع لوحاتي تُحاكي مشاعري الخاصة في أعماقي. كلّ منّا يملك هذه المشاعر التي علينا محاكاتها بين وقت وآخر. نُخرج ما نخاف أن نجاهر به علناً، ونحاول من خلالها تفريغ هذا الداخل من أحمال ثقيلة».

من عناوين لوحات ندى عيدو، تستطيع تكوين فكرة عن كلّ منها: «الباطن»، و«رقصة الطحالب»، و«انعكاس الليل»، و«هاوية ليلية»، وغيرها. جميعها تستوقفك بأشكالها وألوانها المُبهمة، فتحاول إدراك هذا العالم الباطني الذي تُجاريه بفرشاتها. وقد يُخيّل إليك أنّ بعضها يعجّ بزحمة ناس تُصوّرهم على هيئة أشباح متجمّدة. فيما أخرى تجمع الأطفال والكبار في السنّ يلوّحون لك من بعيد. تفرش ندى عيدو مساحات لوحاتها الشاسعة بالحلم، فيغرق ناظرها بموجات وذبذبات تُشبه التنويم المغناطيسي. تقول: «لا بدَّ أن يشعر مُشاهدها بأنه يسبح؛ لأنها تنبع من أعماق عالم مياه البحار. في داخلنا محيطات شاسعة، كلّما تعمّقنا بها، أدركنا حقيقتنا. وأرتكز في رسوماتي على الشفافية، لأسهِّل وصول رسائلي. في داخل أعماقنا حياة وعالم آخر تماماً مثل عالم البحار. واللافت فيها أنها غير مرئية من الآخر». وتضيف: «أنْ نغطس في هذا العالم هو قصة في ذاتها، وما علينا سوى اكتشاف حناياها».

الأبيض يطغى على عدد من لوحات عيدو (الشرق الأوسط)
الأبيض يطغى على عدد من لوحات عيدو (الشرق الأوسط)

تتفرّج على لوحات الفنانة من دون ملل. يستلزمك الوقت لتستقي منها العبرة والرسالة: «الرسالة التي أرغب في إيصالها من خلال لوحاتي، هي أنّ أحداً لا يمكنه سبر أعماقنا. إنها مساحة حرّة وخاصة في آن معاً. ويلزمنا القرار لسبرها بدورنا».

وعن التقنية التي تستخدمها، ردَّت: «أحمل فرشاتي وأغطّسها بالألوان الزيتية، وأولّد لها مساحتها. أختار لها طرقاتها ومسارها فتتملّكني حالة استكشاف. في النهاية القرار لي؛ فأنا مَن يعرف أي طريق سأسلك».

أما الألوان، فتنتقيها وفق مزاجها: «ألوان كلّ لوحة تتحدّث عنها بأسلوب مباشر أو بالعكس. لا أخطّط في خياراتي مسبقاً، وإنما تنساب تلقائياً من فرشاتي».

النزول إلى الهوّة ليس بالأمر السهل، وفق ندى عيدو. فعندما نمارس هواية الغطس في البحار نصل إلى مستوى معيّن مسموح لنا، «لكنني، في لوحاتي، تجاوزتُ هذه الحدود لأصل إلى الأعمق. فالعالم هنا فيه كثير من الهدوء والسكينة. وكلّما غصنا فيه، اكتشفنا ذاتنا بشكل أوضح».

ندى عيدو أمام إحدى لوحاتها (الشرق الأوسط)
ندى عيدو أمام إحدى لوحاتها (الشرق الأوسط)

ترفض الفنانة عدَّ أسلوبها في الرسم من نوع الفنّ التجريدي: «لا ينتمي إليه؛ لأنّ كل لوحة تروي قصة، ويمكننا رؤية خطوطها بوضوح. فعندما نُجري هذه الرحلة في داخلنا، نكتشف بأنّ الأمر لا يقتصر على الهدوء فقط؛ فهو عالم متحرّك بشكل أو بآخر، ويولِّد الاختلاف بالمشاعر».

تتخيَّل ندى عيدو عالم أعماق البحار وتنقله إلى حالات إنسانية، فتُصوّره في إحدى لوحاتها، «شمس الليل»، على خلفية تمزج بين النور والعتمة. وفي لوحة «النور في الظل»، ينساب الأزرق بين طبقات ألوان زيتية داكنة.

وتختم متحدّثة عن تأثير فنّ الرسم عليها: «إنه علاج يشفيني من هموم الحياة. وأعدّ لحظة انتهائي من رسم لوحة إنجازاً لا يشبه غيره. أحياناً، أضطرّ إلى قَلْب معادلة كاملة للوحة ما، فألغيها لأُكوّن أخرى جديدة. هذا التجاذب بيني وبين كل لوحة متعة في ذاتها».