الكلام المهلك والكلام المنجي من الهلاك

برزخ رمزي بين الحياة والموت

لوركا - بوشكين - المتنبي
لوركا - بوشكين - المتنبي
TT

الكلام المهلك والكلام المنجي من الهلاك

لوركا - بوشكين - المتنبي
لوركا - بوشكين - المتنبي

يكتسب الكلام عند العرب أبعاداً ودلالات مختلفة، يتصل بعضها بالمقدس الديني، وبعضها الآخر بالسلطة والاستحواذ، وبعضها الثالث بالغواية والمروق، وبعضها الرابع بالإشارات المبهمة، وبطقوس السحر التي ترسم المصائر، أو تعدل من مسارها. والكلام وفق الرؤية الدينية هو نفسه الفعل، حيث يقول الله للشيء «كن» فيكون. وهو الذي يستهل العالم؛ حيث يرد في إنجيل يوحنا: «في البدء كان الكلمة». وكما للكلمات قوة الخلق أو التحويل، فإن لها في الآن ذاته مذاق الطعنة والقدرة على اختراق الروح. وهو أمر يؤكده المعجم نفسه، فنقرأ في «لسان العرب» بأن الكلْم هو الجرح، والكليم هو الجريح. ليس بالمستغرب إذن أن يعتبر أحد الشعراء بأن «الحرب أولها كلام»، لا بل إن المقطوعات والأراجيز كانت تستبق على الدوام صليل السيوف، بما لها من قوة نفسية مؤثرة. وقد يكون الكلام امتحاناً من الخالق للمخلوق وابتلاءً له، كما جاء في الآية الكريمة «وإذ ابتلى إبراهيم ربُّه بكلمات».
يبدو الكلام إذن بمثابة برزخ رمزي بين الحياة والموت. إنه أداة للهلاك بقدر ما هو أداة للخلود ومقارعة النسيان. وليس أدَلّ على الكلام المحيي من رواية «ألف ليلة وليلة»، حيث كان صمت النساء اللواتي قتلهن شهريار أحد أسباب قتلهن، إضافة إلى الخيانة. إنه الصمت المريب والمحرض على الشك والباعث على السأم.
وقد أدركت شهرزاد بفطنة أنثوية بالغة أن ما دفع زوجها إلى القتل لم يكن شعوره المرير بالخيانة فحسب، بل شعوره بالضجر ووطأة الوحشة والصمت الثقيل. لذلك وجدت في الكلام ضالتها المنشودة، وراحت تسرد الحكاية تلو الحكاية لكي تضلل الهياج العصبي الموار داخل الرجل المثخن بالوساوس. كأن الكلام هنا يلعب دور الرداء الأحمر الذي يحمله مصارعو الثيران لخداع الثور الهائج وصرف نظره عن الهدف الأصلي. ولعل ما فعلته شهرزاد هو الذي قدم الأمثولة الأهم لفن السرد، كما لروائيي العالم اللاحقين الذين وجدوا في هذا الفن ما يساعد البشر على الاستقالة من حيواتهم الأصلية ومصائرهم الملبدة بالمشقات، ليتماهوا مع حيوات موازية مأهولة بفتنة المتخيل وعوالمه المؤثثة بالأحلام.
«تكلّمْ، أو متْ»، كان الشعار الذي تبناه شهريار في علاقته بالآخر الأنثوي، بما جعل الكلام مرادفاً للحياة نفسها وملاذاً وحيداً من القتل. ومع ذلك فإن شهرزاد قد استطاعت بحنكة بالغة الإمساك بمفاتيح الكلام والصمت على حد سواء، فلم تترك السرد على عواهنه، ولم تشأ لزوجها أن يقع مرة أخرى فريسة للضجر.
ولهذا كانت تصمت في اللحظة المناسبة عن الكلام المباح، محولة المسافة الفاصلة بين ليلة وأخرى إلى فرصة متجددة للترقب والتشويق وانتظار ما سيحدث. وهي كانت تدرك في الآن ذاته أن الكلام الناقص أو المؤجل لن يكون مرادفاً لرمزية الخلق الإبداعي وحدها، بل إنه سيوفر لزواجها الاستمرارية الكافية للحمل والإنجاب والوصول إلى شاطئ الأمان. كأن البذرة التي انزرعت في أحشائها مستلة من الكلمات نفسها، وهي تمنحها الحياة التي تستحقها مرتين، مرة عبر جنينها النابض في باطن الرحم، ومرة عبر الرواية الأشهر في العالم، التي خلدت وستخلد أبد الدهر في ذاكرة البشر ووجدانهم.
على أن الكلام عند العرب لم يتخذ في الأعم الأغلب مثل هذه الوجهة، بل كان في معظم حالاته سبباً لهلاك المتكلم ووصوله السريع إلى حتفه، بخاصة في مجال الشعر. فحيث لم يكن للرواية شأن يذكر، باستثناء بعض المقامات والسير الشعبية، كان الشاعر وحده هو الذي يؤرخ ويروي ويمدح ويهجو ويسرد الوقائع.
وبسلاح الكلمات المنظومة كان الشاعر قادراً على إعلاء شأن هذه الجماعة أو ذلك الحاكم، أو الحط من شأنها وشأنه. وهذا السلاح الساحر الذي وُهبته قلة قليلة من البشر كان يكفي في بدايات الدعوة لكي ينقل بعض القبائل من الكفر إلى الإيمان، كما حدث لبني تميم الذين دخلوا الإسلام إثر المبارزة الشعرية التي حدثت بين شاعرهم الزيرقان وبين حسان بن ثابت، وانتهت بهزيمة الأول أمام الثاني. وإذا كان الشعر في هذه الحالة قد عمل نيابة عن الدم على إيصال المواجهة إلى نهاياتها السعيدة، فإن الأمور في أغلب الحالات لم تسر على النحو، بل بدت بعض القصائد والمقطوعات والأبيات بمثابة أحكام بالإعدام استصدرها الشعراء بحق أنفسهم، عن عمد أو غير عمد. والتاريخ العربي منذ الجاهلية حتى العصور الحديثة، حافل بعشرات الشواهد التي تجعل من الكلام بطاقة سفر إلزامية نحو الموت أو المنفى. وغالباً ما كانت السلطات المتعاقبة تبحث بين سطور الشعراء عن هفوة أو شطط أو إيحاء ما بالتمرد والاعتراض، لكي تجد الذريعة الملائمة للتخلص من أولئك المتربعين على سدة اللغة.
لن تتسع مقالة واحدة بالطبع للحديث عن الشعراء والكتاب الذين وضعتهم ألسنتهم وأقلامهم الجريئة على طرق الهلاك. على أن أغرب حالات القتل هي تلك التي حدثت للغلام القتيل طرفة بن العبد الذي هجا ملك الحيرة عمرو بن هند بكلام مقذع، فما كان من هذا الأخير إلا أن تظاهر بالصفح عن إساءة الشاعر، محملاً إياه رسالة إلى واليه على البحرين تقضي بقتل حامل الرسالة فور تسلمها منه، وهي الحادثة التي تحولت إلى مثل سائر يستعيده العرب في جميع الحالات المماثلة. أما الشاعر العباسي بشار بن برد فقد قضى بدوره جراء هجائه المقذع للخليفة المهدي، ولم ينجح عمى عينيه في تليين قلب الخليفة وإفلاته من العقاب.
وكذلك الأمر بالنسبة لابن الرومي الذي قتله الوزير العباسي القاسم بن وهب، إثر هجائه له.
كما أن الموهبة الفريدة والاستثنائية لأبي الطيب المتنبي لم تشفع له عند فاتك الأسدي الذي كمن له قرب بغداد وقتله مع ولده محسد، بسبب قصيدة هجائية كان الشاعر قد سخر فيها من خال القاتل، ضبة بن يزيد الأسدي. لكن الذرائع المعلنة لقتل الشعراء والكتاب لا تستطيع أن تخفي الأسباب الحقيقية المتصلة باعتراضهم على سلطة الأمر الواقع، وبجعلهم عبرة بالغة الوضوح لكل من تسول له نفسه شق عصا الطاعة على الحاكم. إلا أن من الظلم بمكان أن نحصر مسألة قتل المبدعين المعترضين على سلطة الفساد والقمع بالعرب وحدهم، إذ إن التاريخ البشري حافل بشواهد مماثلة لدى الكثير من الشعوب والأمم التي تسلم مبدعيها الكبار إلى القتل، وبخاصة في حقب الفوضى والانهيار والتخبط السياسي والاجتماعي.
حتى إذا خرجت الأمة من غيبوبتها، عمدت إلى التكفير عما ارتكبته، أو سكتت عن حدوثه، عبر إحاطة رموزها القتيلة بكل أنواع التكريم والتبجيل. وإذا كان ت. س. إليوت قد اعتبر عن وجه حق بأن «ما من فن يجسد الروح القومية الحقيقية كما هو الحال مع الشعر»، فإن المرء لا يستطيع إلا أن يتوقف ملياً عند المصائر الفاجعة لثلاثة من الشعراء الذين جسدوا هذه الروح بامتياز، ومنحوا لغاتهم الأم أثمن ما حصلت عليه عبر تاريخها الطويل، وأعني بهؤلاء: المتنبي العربي، وبوشكين الروسي، ولوركا الإسباني، حيث قتل الأول على يد قاطع طريق متعطش للثأر، وقتل الثاني بمكيدة من القيصر الروسي الذي لم يرق له انحياز الشاعر إلى الثورة، بينما قضى الثالث بقرار من فرانكو، قائد الانقلاب الفاشي على الجمهوريين، في ذروة الحرب الأهلية الإسبانية.



المخرج السعودي عبد المحسن الضبعان: تُرعبني فكرة «العنف المكبوت»

مشهد من الفيلم السعودي «ثقوب» (القاهرة السينمائي)
مشهد من الفيلم السعودي «ثقوب» (القاهرة السينمائي)
TT

المخرج السعودي عبد المحسن الضبعان: تُرعبني فكرة «العنف المكبوت»

مشهد من الفيلم السعودي «ثقوب» (القاهرة السينمائي)
مشهد من الفيلم السعودي «ثقوب» (القاهرة السينمائي)

أبدى المخرج السعودي عبد المحسن الضبعان سعادته بردود الفعل التي لمسها لدى عرض فيلمه الجديد «ثقوب» في افتتاح مسابقة «آفاق عربية» ضمن فعاليات الدورة 45 من مهرجان «القاهرة السينمائي الدولي»، مؤكداً أنه لم يتوقَّع اختياره للافتتاح.

وأكد لـ«الشرق الأوسط» أنه حاول خلال الأحداث التعبير عن فكرة «العنف المكبوت» التي تُرعبه، بكونها الأساس الذي يُنتج الإرهابيين، مشيراً إلى قناعته بأنّ الإرهاب ليس مجرّد خيار أو فعل، وإنما حالة داخلية متأصّلة تنبع من أعماق الفرد.

تدور الأحداث حول «راكان» الذي خرج إلى العالم بعد فترة قضاها في السجن على خلفية تورّطه في قضية مرتبطة بالتطرُّف الديني، ليحاول بدء حياة جديدة بعدما تغيَّرت أفكاره. لكن حياته على المستوى المادي لم تكن الأفضل في ظلّ معاناته الضيق، وعمله في ورشة إصلاح سيارات بجانب إشرافه على بعض أعمال المقاولات.

ورأى الضبعان أنّ المشاركة في المهرجانات السينمائية تمنح الفيلم فرصة أكبر للوصول إلى جمهور أوسع قد لا يشاهده حين يُطرح في دُور العرض المحلّية، بالإضافة إلى أنها تساعد العمل على تحقيق «سمعة أفضل»، مشيراً إلى أنّ تجاربه السابقة التي عُرضت في مهرجانات كانت إيجابية رغم اختلاف المهرجانات التي شارك فيها كل عمل.

المخرج السعودي عبد المحسن الضبعان يتطلّع لأفكار مختلفة (القاهرة السينمائي)

وعن أبطال الفيلم، أوضح أنّ «اختيار مشعل المطيري لدور البطل جاء مناسباً مع طبيعته بوصفه فناناً مثقّفاً، يتمتّع بوعي عميق حيال الفنّ ورسالته، وقد فرض نفسه على الدور منذ كتابته».

ووصف التعاون بينهما بـ«الممتع»، فالمطيري «يقدّم الدور كما يريد المخرج عندما يثق في رؤيته الفنّية؛ الأمر الذي سهَّل عليَّ كثيراً خلال التحضيرات، في ظلّ مناقشات مستفيضة بيننا حول الشخصية والتفاصيل قبل التصوير».

وأضاف: «الفيلم كان مليئاً بالصعوبات خلال التحضير والتصوير. لكن الأصعب ارتبط بميزانيته المُحدَّدة قبل 3 سنوات من بدء المشروع، أي قبل الجائحة. وبعد انتهائها واستئناف التصوير، واجهنا صعوبات أخرى مرتبطة بارتفاع الأسعار وتغيُّر تكلفة جوانب ضرورية لخروج الفيلم إلى النور».

وردّاً على انتقادات واجهت الفيلم لاستخدامه الرمزية في بعض المَشاهد، ثم إعادتها بالحوار بين الأبطال ضمن الأحداث، أكد المخرج السعودي أنّ «السينما تُوفّر أدوات عدّة لتقديم المضمون الذي يُريده المبدع، ولا يروقني شرح الفكرة»، مشيراً إلى أنّ المونتاج يمنحه، بوصفه مخرجاً، فرصة لإعادة اكتشاف الفيلم والثغرات والمَشاهد غير المفهومة.

فيلم «ثقوب» يتناول ظاهرة العنف المكبوت (القاهرة السينمائي)

وأوضح أنه بمجرّد شعوره بتكرار يتعلّق بالرسالة، سيتراجع على الفور، مؤكداً حرصه على الإخلاص للفكرة التي يقدّمها، وقناعته بأنه ينبغي تقديمها بصورة يعتقد أنها الأفضل.

وعن اختيار الأفكار، أكد بحثه عن أفلام تحتوي أفكاراً وعناصر غير مألوفة لتقديمها في تجاربه الجديدة. فهو لا يتعجَّل بخطوته السينمائية التالية بعد «ثقوب»، ويقول: «سأتابع عروض الفيلم في الفترة المقبلة والانطباعات حوله»، لافتاً إلى أنه سيرغب لاحقاً في الحصول على «فترة من التأمل»، والبحث عن مشروعات سينمائية تتناسب والتطوّرات، بجانب عمله على مشروعات لأعمال درامية.