هناك نحو 10 صناعات وصلت إلى آفاق بعيدة في الابتكار، منها البرمجيات والمستحضرات الصيدلانية وأشباه الموصلات ومعالجات البيانات. ويحمل معظم العاملين في هذه المجالات شهادات علمية أو تقنية. وتستثمر هذه القطاعات تحديداً بكثافة في البحث والتطوير، فيما لا تمثل سوى 3 في المائة فقط من إجمالي سوق التوظيف، غير أنها تمثل 6 في المائة من الناتج الاقتصادي للولايات المتحدة الأميركية.
وإذا كنت لا تعيش في واحدة من المناطق الحضرية على امتداد السواحل، فإنه من غير المرجح أن تحصل على وظيفة في واحدة منها، حيث استحوذت مدن بوسطن وسياتل وسان دييغو وسان فرانسيسكو ووادي السيليكون على 9 من كل 10 وظائف وفرتها هذه الصناعات بين عامي 2005 و2017، وفقاً لتقرير صدر مؤخراً. وبحلول عام 2017، تكدس في هذه المناطق الحضرية الخمس ما يقرب من ربع هذه الوظائف، بزيادة 18 في المائة عن الحال منذ 10 سنوات. وعلى الجانب الآخر، فقدت نحو نصف المناطق المطلة على المترو (قطار الإنفاق) الأميركية، البالغ عددها 382 منطقة، بما في ذلك المدن الكبرى مثل لوس أنغلوس وشيكاغو وفيلادلفيا، مثل هذه الوظائف.
وبات عدم المساواة الواضح في الولايات المتحدة سبباً للقلق، وأصبحت صورة بلد محصور بين مجموعة صغيرة من «الأثرياء» الحضريين المزدهرين ومجموعة كبيرة «ممن لا يملكون» واضحة جلية، بعد أن تفشت كالوباء في مناطق واسعة من البلاد. ولفت ذلك انتباه النخبة السياسية في البلاد عام 2016، عندما تبنى الناخبون في جميع أنحاء البلاد الصناعية رسالة دونالد ترمب الشعبوية.
إن البحث عن الأفكار التي يمكن أن تحسن من الظروف الاقتصادية للمناطق المحرومة التي سخر منها الاقتصاديون لفترة طويلة، بصفتها مهمة حمقاء، حيث جادلوا في جدوى إنفاق المال على تحسين كثير من الأماكن، بدلاً من إنفاقها على الناس أنفسهم، وهي القضية التي باتت الآن على رأس قائمة الأولويات أمام صانعي السياسة.
أعد هذا التقرير كل من مارك مورو وجاكوب وايتون من برنامج سياسة المتروبوليتان بمعهد بروكينغز، وروب أتكينسون من مؤسسة تكنولوجيا المعلومات والابتكار، وهي مجموعة بحثية تحصل على تمويل من شركات التكنولوجيا والاتصالات.
فقد حددوا 13 «صناعة ابتكارية»، تشمل صناعة الطيران وإنتاج معدات الاتصالات والصناعات الكيماوية، حيث يحمل ما لا يقل عن 45 في المائة من القوى العاملة شهادات في العلوم أو التكنولوجيا أو الهندسة أو الرياضيات، وحيث تبلغ الاستثمارات في البحث والتطوير ما لا يقل عن 200 ألف دولار لكل عامل.
ويجادل معدوا التقرير بأن هناك حاجة إلى دفعة فيدرالية واسعة لنشر الاختراعات خارج المدن العشرين التي تهيمن عليها. إن توسيع نطاق اقتصاد المعرفة في جميع أنحاء الولايات المتحدة قد يكون في الواقع مهمة خادعة. وبحسب ملاحظات أتكينسون، فإن مناطق مثل إيري في بنسلفانيا، وفلينت في ميشيغان، قد لا تجتذب «غوغل» أو شركة بحجم «أبل». لكن المدن متوسطة الحجم، مثل «سانت لويس» و«بيتسبيرغ» و«كولومبوس» بولاية أوهايو، يمكن أن تتحول بشكل عملي إلى مراكز ريادة للأعمال التكنولوجية.
ويقترح مؤلفو التقرير تحديد من 8 إلى 10 مدن بعيدة عن السواحل لديها بالفعل جامعة بحثية وعدد كبير من الأشخاص الحاصلين على درجات علمية متقدمة. وستنفق الحكومة بعد ذلك نحو 700 مليون دولار في السنة على البحث والتطوير في كل منها لمدة 10 سنوات. ويمكن للمشرعين إعطاء شركات التكنولوجيا الفائقة التي أقيمت في هذه المدن إعفاءات ضريبية وتنظيمية. واقترح أتكنسون التخلي لفترة بسيطة عن قانون مكافحة الاحتكار للسماح للشركات بتنسيق القرارات الخاصة بالموقع.
وستكون محاربة تركيز القوى الدافعة مهمة صعبة. وعلى عكس الصناعات التحويلية في القرن العشرين التي تنافست إلى حد كبير على التكلفة، فإن شركات التكنولوجيا ستتنافس على الحصول على أفضل تكنولوجيا قادمة. والعمالة الرخيصة التي يمكن أن تساعد في جذب المصنعين إلى المناطق التي تعاني من الكساد لن تكون حافزاً بحال. وبدلاً من ذلك، تتجمع صناعات الابتكار في المدن التي يوجد بها كثير من العمال المتعلمين تعليماً عالياً والموردين المتطورين والمؤسسات البحثية.
وعلى عكس الشركات في تجارة التجزئة أو الرعاية الصحية، على سبيل المثال، تواجه شركات الابتكار ارتفاعاً حاداً في إنتاجية عمالها إذا وجدوا في أماكن تضم كثيراً من العمال الآخرين، وفقاً للبحث الذي أجراه أنريكو مورتي، وهو خبير اقتصادي بجامعات كاليفورنيا وبيركلي وغيرها.
كما أن الصناعات والعمال الآخرين أفضل حالاً، إذ ساعهم الحظ بالوجود بالقرب من الشركات الرائدة، حيث يشير التقرير إلى أن متوسط الإنتاج لكل عامل في المدن العشرين التي تتمتع بأكبر قدر من العمالة في صناعات التكنولوجيا المتقدمة البالغ عددها 13 يبلغ 109.443 ألف دولار، أي أكثر بمقدار الثلث عن مثيلاتها في 363 منطقة قريبة من محطات المترو المنتشرة في جميع أنحاء البلاد.
ومن الصعب كسر هذه الدورة: حيث سيتدفق العمال المتعلمون الشباب إلى المدن التي تضم صناعات معرفة كبيرة لأن هذا هو المكان الذي سيجدون فيه أفضل الفرص للكسب والتعلم والترفيه، وستذهب الشركات الناشئة إلى هناك للبحث عنها.
وحتى تكاليف الإسكان المرتفعة لم توقف تركيز المواهب في بعض المدن الخارقة. فغالباً ما تذهب شركات التكنولوجيا الكبيرة التي تبحث عن أماكن أرخص لتأسيسها خارج مراكزها إلى «بنغالور» في الهند، بدلاً من برمنغهام في ألاباما مثلاً.
وقال أتكينسون: «إنهم يحتفظون بالفريق الأساسي في وادي السيليكون أو سياتل، لكنهم يضعون الأشياء الأخرى في شنتشن أو فانكوفر أو بنغالور». وأضاف أن شنتشن في الصين قد لا تكون أرخص بكثير من إنديانابوليس، لكن شنتشن هي بالفعل مركز تقني بحد ذاته.
ومن غير المؤكد ما إذا كان الدعم الحكومي يمكن أن يسحب الابتكار من براثن المدن الخارقة. إن اقتراح بروكينغز ومؤسسة تكنولوجيا المعلومات لن يكون رخيصاً بحال: إذ يقدران السعر بنحو 100 مليار دولار على مدار 10 أعوام.
ومع ذلك، فإن المردود سوف يمتد إلى ما هو أبعد من مراكز التكنولوجيا الجديدة. فقد أشار جون غروبر، الخبير الاقتصادي بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، إلى أنه في عالم أصبحت فيه ولاية سينسيناتي مركزاً لريادة الأعمال، فإننا «لسنا في حاجة إلى إصلاح الصرعة في أبالاتشي»، ذلك لأن كثيراً من هذه المناطق تقع على بعد مسافة قصيرة من سينسيناتي.
والأهم من ذلك أن عدم المحاولة ينطوي على مخاطر أيضاً. ففي كتابه «Jump - Start America»، يعرض غروبر، والمؤلف المشارك سيمون جونسون من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، جهداً وطنياً متواصلاً لنشر مجموعات التكنولوجيا الجديدة على نطاق واسع. وقال غروبر إنه من غير المحتمل أن تنتج الولايات المتحدة كثيراً من مراكز التكنولوجيا الفائقة دون دعم الحكومة الفيدرالية.
وقال إن الخطر لا يتمثل فقط في أن كثيراً من مناطق الولايات المتحدة سوف تترك للمؤسسين، حيث ستصبح المدن الخارقة أكثر ازدحاماً وأقل تكلفة، وسوف ينهار الدعم السياسي للبحوث الممولة من القطاع العام، ما لم تتمتع المزيد من مناطق البلاد بمزايا الابتكار.
تقرير جديد يبحث مخاطر عدم توزيع الثروة على الابتكار
5 مدن أميركية تحتكر ربع وظائف صناعة البرمجيات
تقرير جديد يبحث مخاطر عدم توزيع الثروة على الابتكار
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة