«بطون» تنظر للطعام كحالة شعورية وفنية وإنسانية

مشروع تفاعلي في القاهرة يتضمن ورش عمل وزيارات ميدانية

التفاعل فنياً مع الصورة التقليدية لعروس المولد
التفاعل فنياً مع الصورة التقليدية لعروس المولد
TT

«بطون» تنظر للطعام كحالة شعورية وفنية وإنسانية

التفاعل فنياً مع الصورة التقليدية لعروس المولد
التفاعل فنياً مع الصورة التقليدية لعروس المولد

عادة ما يرتبط الطعام بتجارب شعورية واجتماعية خاصة، كالمذاق الطيب، أو الحنين للتجمع العائلي، أو دفء الطهي، أو حتى سد الجوع، ولكن هل نُناقش علاقتنا الخاصة والشخصية بالطعام؟ هذا ما تسعى تجربة جديدة يُنظمها «مركز الصورة المعاصرة» في القاهرة لتطويرها، عبر مشروع تفاعلي بعنوان «بطون» يستلهم الطعام كتجربة إنسانية واجتماعية وفنية.
تستمر فعاليات المشروع حتى 23 يناير (كانون الثاني) الحالي، وتتضمن ورش عمل، وعرضاً لأعمال فنية ونصوص تُحاكي تجارب أصحابها الخاصة بالأكل، التي تم تطويرها من خلال عدد من الفعاليات، منها ورشتا عمل هما «طعم الحروف»، و«إثنوغرافيا الأكل» التي تقول عنها منظمتها الباحثة المصرية مي عامر لـ«الشرق الأوسط»، «عادة ما ترى العلوم الاجتماعية أن أنماط الحياة اليومية دالة على أوضاع الناس السياسية والاقتصادية والجندرية والدينية، والإثنوغرافيا هي إحدى الأدوات البحثية المُهمة القائمة على المعايشة، ومن الوسائل المستخدمة، خصوصاً في البحث الاجتماعي، والسينما، والمسرح، وفكرة الورشة عبارة عن دعوة لقراءة فكرة الأكل بطريقة مختلفة، وانقسمت الورشة لجانب نظري تحدثنا فيه عن دراسات تناولت فكرة الأكل وطريقة البحث الإثنوغرافي، والجانب الثاني كان يضم زيارة ميدانية يتم من خلالها تجربة معايشة إثنوغرافية».
كانت الزيارة الميدانية الأولى للمشاركين بالورشة إلى حي التوفيقية وسط القاهرة، الذي تم اختياره نموذجاً لحي يُمثل الطبقة المتوسطة، ورصد المشاركون من خلال مشاهداتهم به المطاعم المختلفة، ونماذج للمحلات القديمة التي كانت موجودة منذ أربعينات القرن الماضي، ومحلات الحلويات الشرقية الأحدث، وطريقة عرض كل منهم للحلويات، بصورة جعلت لكل مكان منه هويته الخاصة، أما الزيارة الميدانية الثانية فكانت لمنطقة باب البحر، وهي منطقة مركزية في القاهرة لبيع لوازم صناعة الحلويات، على رأسها صناعة عرائس المولد الشعبية.
وتضيف عامر: «لاحظنا في الورشة ثمة ارتباطاً بين فكرة الأكل وطقوس الاحتفالات الدينية، واخترنا نموذجين، وهما الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، بالحلوى، وكذلك الطعام الذي يصاحب الاحتفالات ببداية العام الميلادي الجديد، وخلال زيارة منطقة باب البحر، قام المشاركون بالورشة بالتقاط صور للحلوى المعروضة باختلاف أشكالها، وإجراء حوارات تلقائية مع باعة تلك الحلوى، والاقتراب من التعرف على أسعارها، والخامات التي تتكون منها، ومن خلال تلك المشاهدات أنتجنا نصوصاً حول علاقتنا الشخصية بتلك الحلوى منذ الطفولة، واختفائها مع الوقت لتحل محلها عرائس بلاستيكية، وكذلك قمنا بإعادة تشكيل مُجسمات الحلوى كمشروعات فنية متكاملة مع فكرة الورشة والقراءة الإثنوغرافية للطعام».
ويقول معتز الصاوي، وهو أحد المشاركين بالورشة، لـ«الشرق الأوسط»، «بعد قيامنا بمعايشة عملية في (باب البحر)، وتحدثنا إلى الباعة هناك، أنتجت بعدها عملاً يدوياً عن عروسة المولد، وكذلك قمت بتصوير فيديو عن (باب البحر) وأنتجت نصاً أدبياً عن إثنوغرافيا الطعام (حلاوة المولد) وهو معروض ضمن مشروع (بطون) في مركز (الصورة المعاصرة)، والحقيقة أنني اكتسبت خبرة جديدة عن الإثنوغرافيا التي لم أكن أعلم عنها شيئاً».
وكذلك أنتج المشاركون في ورشة «طعم الحروف» العديد من النصوص التي يتحدث فيها أصحابها عن علاقتهم الشخصية بمفهوم الطعام، بكل ما تحمله العلاقة من فردية واجتماعية، مشاعر بالشغف، وأخرى تجتر لدى البعض ذكريات مؤلمة.
تتذكر الفنانة المصرية مريم أحمد خليل، كيف كانت والدتها تُحدثها عن أن ثمرة الرمان تحتوي بذوراً من الجنة، وظلت هذه الرواية مُثيرة للتأمل بالنسبة لها، ولفت نظرها مع الوقت تلك العلاقة الوثيقة بين الرمان كفاكهة والاحتفاء التاريخي به لدى أغلب حضارات الإنسانية، حتى أنه اعتبر رمزاً للحكمة لدى البعض، وتقول مريم لـ«الشرق الأوسط»: «حاولت تصوير الرمان كثيراً، لكي أقترب منه بصرياً، ووجدت حبات الرمان أحياناً أشبه بالجواهر، وأحياناً أخرى تشبه كرات الدم، ووجدت أن حبة الرمان نفسها تشبه القلب، وقمت برسم لوحة أشارك بها في مشروع (بطون)، استخدمت فيها حبات الرمان، كأنها حروف مُبهمة في رسالة، وأطلقت على اللوحة اسم (جواب الرُمان)، تاركة لكل من يشاهدها المعنى الذي يتخيل أن تُحدثه به حبّات الرمان».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)