العراق... بين «درون» واشنطن و«صواريخ» طهران

قراءة في عملية تصفية قاسم سليماني وتداعياتها

العراق... بين «درون» واشنطن و«صواريخ» طهران
TT

العراق... بين «درون» واشنطن و«صواريخ» طهران

العراق... بين «درون» واشنطن و«صواريخ» طهران

نام رئيس وزراء حكومة تصريف الأعمال في العراق عادل عبد المهدي في وقته المعتاد كل يوم في الساعة التاسعة والنصف مساء. ومع أن اليوم التالي يوم جمعة، وهو عطلة اعتيادية في العراق، فإن عبد المهدي كان على موعد في الساعة الثامنة والنصف صباحاً مع ضيف من نوع مختلف ووزن مختلف؛ كان ذلك الضيف المنتظر هو الجنرال قاسم سليماني، قائد «فيلق القدس» في «الحرس الثوري» الإيراني.
سليماني كان آتياً من دمشق على متن رحلة طيران عادية لشركة طيران «أجنحة الشام». وحطت الطائرة في مطار بغداد متأخرة ساعة عن موعد وصولها المعتاد. وكان أبو مهدي المهندس، نائب رئيس هيئة «الحشد الشعبي»، بانتظار ضيفه «مهندس» معظم التحولات في المنطقة في غضون الأربعين سنة الماضية.
إلا أن الرجلين لم يصلا إلى بغداد التي تبعد عن المطار مسافة 20 كم تقريباً، وبالسيارة يمكن قطعها في غضون 10 دقائق، إذ كانت «الدرون» -التي بدت من نوع مختلف هذه المرة- تترصّد الصيد الثمين بعد مغادرته المطار في موكب من سيارتين عاديتين غير مصفّحتين. وتوقفت الرحلة إلى الأبد عند تخوم بغداد بعد مقتل سليماني والمهندس ومرافقيهم، وتغيّر في الحال ليس جدول مواعيد عادل عبد المهدي فحسب، بل جداول كل المواعيد أيضاً. وظهرت على الفور جداول جديدة ومواعيد جديدة على طاولات «الكبار»، خصوصاً بين واشنطن وطهران.

مع تصفية قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، وجدت بغداد صعوبة في استيعاب كل هذه التحوّلات، وهي التي تعيش منذ ثلاثة شهور أزمة حادة، تتمثّل في الانتفاضة الشعبية الواسعة التي أدت إلى إقالة الحكومة وعجز الكتل السياسية عن المجيء برئيس وزراء بديل لعبد المهدي.
وهنا نشير إلى أن العراق كان يعيش على وقع عدة صدمات طوال أسبوع، بدأت مع قصف قاعدة الـ«كي 1» في كركوك بنحو 30 صاروخاً من قبل الفصائل المسلحة، أدت إلى مقتل متعاقد أميركي (ظهر فيما بعد أنه عراقي الأصل)، ثم شهدت قصف الطائرات الأميركية النفاثة «اللواء 45» التابع لـ«الحشد الشعبي»، وبالذات لـ«كتائب حزب الله» (في غرب البلاد)، الذي راح ضحيته أكثر من 70 شخصاً بين قتيل وجريح، وبعد ذلك اقتحام مجمّع السفارة الأميركية وسط «المنطقة الخضراء» في بغداد.

- سياسة السيادة
في أعقاب قتل سليماني، وكما كان متوقعاً، تصاعدت حدة المواجهة بين إيران والولايات المتحدة الأميركية. وما كان المسرح المرتقب للمواجهة سوى العراق المشكوك في سيادته من كلا الطرفين العدوين المتخاصمين؛ ذلك أن إيران ترى أن العراق سيبقى منقوص السيادة ما دام الجند الأميركان على أراضيه، وأميركا ترى أن العراق منقوص السيادة ما لم يتخلص من نفوذ طهران وأذرعها، ممثلة في الفصائل المسلحة الموالية لها.
لقد كان الصيف الماضي، حتى مقتل قاسم سليماني، هو الأسخن على صعيد المواجهة بين طهران وواشنطن على الأرض العراقية، إذ استهدفت طائرات «الدرون» على مدى أشهر الصيف كثيراً من معسكرات «الحشد الشعبي» في مناطق مختلفة من العراق، واتهمت فصائل «الحشد» إسرائيل، مع الإشارة إلى أن رئيس الوزراء عادل عبد المهدي ذكر أن الأميركيين أبلغوه أن إسرائيل هي من تولى قصف تلك المعسكرات، ولكن عملياً «قُيدت العملية ضد مجهول».
ومن جهة ثانية، انهالت على مدى شهور الصيف حتى اليوم صواريخ «الكاتيوشا» على «المنطقة الخضراء»، في محاولات لاستهداف السفارة الأميركية. ومع أن الاتهامات توجّه دائماً إلى الفصائل المسلحة الموالية لإيران في التورط بمثل هذه العمليات، فإن أياً منها لم تعترف بتنفيذ مثل هذه العمليات. وهكذا، بين القصف بـ«الدرون» إسرائيلياً و«الكاتيوشا» والهواوين من قبل الفصائل المسلحة المؤيدة لإيران... ظلت السيادة العراقية محل انتقاد بين واشنطن وطهران، وتبادل اتهامات بين العاصمتين، إذ تتهم كل منهما منافستها بخرق السيادة العراقية، إلى أن وقعت الواقعة بقتل قاسم سليماني.

- ترمب يفتخر وينتظر
طوى الليل ساعاته التي بدت سريعة، وحل الصباح باكراً في بغداد، حيث أيقظ عبد المهدي على غير العادة، ليعلم بأن ضيفه الذي كان ينتظره في ساعة مبكّرة من صباح الغد توقفت رحلته في منتصف المسافة بين بغداد ومطارها. وأيضاً جرى الأمر نفسه مع المرشد الأعلى في إيران علي خامنئي. أما اللاعب الأساسي الوحيد الذي كان مستيقظاً في حينه، فكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب، بسبب فارق التوقيت.
وكما شاهد العالم، أعلن ترمب أنه هو مَن أمر بتنفيذ العملية، من دون أن يتطرّق إلى مسألة السيادة العراقية. ليس هذا فحسب، بل افتخر الرئيس الأميركي بأنه قضى على ما عدّه «الشخص المسؤول عن كل مشاريع إيران التوسعية في المنطقة»، حين أمر بتنفيذ العملية التي أدت إلى مقتله، والتي أطلق عليها اسم «البرق الأزرق».
بطبيعة الحال، هنا أسقط في يد بغداد التي لم يعد أمامها سوى انتظار رد الفعل الإيراني الذي لن يكون إلا في الأرض العراقية، بحجة وجود القواعد العسكرية الأميركية في العراق. كذلك بات واجباً عليها انتظار رد الفعل الأميركي على رد الفعل الإيراني، بينما أعلن البرلمان العراقي عن التوجه لعقد جلسة طارئة، جدول أعمالها فقرة واحدة، هي إخراج القوات الأميركية من العراق. وعند هذه النقطة، توحّدت القوى الشيعية الرئيسة المختلفة فيما بينها عند هذا الهدف، بينما اتخذ الكرد والعرب السنة موقفاً مناقضاً لموقف قوى الشيعة. ومع نجاح النواب الشيعة في التصويت على قرار يطالب الحكومة بإخراج الوجود الأجنبي من البلاد، لم يصوّت معهم نواب الكرد والسنة.

- تداعيات وتوقعات
بين كون التصويت مُلزماً أو أنه مجرد توصية غير ملزمة للحكومة، التي هي أصلاً باتت «حكومة تصريف أعمال»، مضى تصويت البرلمان العراقي بإخراج القوات الأجنبية من البلاد من دون أن يخلف تداعيات كبيرة، لا سيما مع بدء انتظار الرد الإيراني على تصفية سليماني الذي لم يوارَ الثرى إلا بعد خمسة أيام من التشييع الجماهيري بين المدن العراقية والإيرانية. وكما هو معروف، راح ضحية التدافع في أثناء مراسم التشييع أكثر من 60 قتيلاً وعشرات الجرحى في مدينة كرمان الإيرانية، مسقط رأس القائد القتيل.
وعلى صعيد آخر، فإن التداعيات التي خلفها قتل الجنرال سليماني أربكت الأجواء السياسية في العراق والمنطقة، لا سيما أن العملية غيّرت قواعد اللعبة والاشتباك معاً. وفي هذا السياق، فإن للخبراء والمعنيين رأيهم في الحدث وتداعياته الآنية والمستقبلية، إذ توقّع الدكتور إحسان الشمري، رئيس مركز التفكير السياسي في العراق، خلال لقاء مع «الشرق الأوسط»، أنه «ستكون لمقتل سليماني وأبو مهدي المهندس تداعيات على كل المستويات، ليس فقط على مستوى الأرض العراقية، بل على مستوى المنطقة. وإن الرد الإيراني سيكون حاضراً على أرض العراق كأرض هشة، وكذلك المناطق الأخرى مثل سوريا ولبنان واليمن، فضلاً عن الدول الأوروبية، عن طريق خلايا تابعين لـ(الحرس الثوري) الإيراني».
وتابع الشمري أنه «قد لا يكون له (أي الرد الإيراني) هدف المضي بالحرب الشاملة التقليدية، لأن من شأن ذلك أن يؤدي إلى إسقاط النظام في إيران التي لا تمتلك القدرة على هذه الحرب الشاملة المفتوحة، بعكس أميركا وحلفائها»، وبيّن أن «التداعيات الأقوى ستكون داخل الأراضي العراقية التي تحوّلت من أرض احتكاك إلى أرض اشتباك، وهذا سيكون له عواقب على المستوى الأمني، خصوصاً إذا استمر استهداف المصالح الأميركية... وبالذات مع وجود القوات الأميركية في العراق».
أما رئيس مركز الدراسات الاستراتيجية، الدكتور معتز محيي الدين، فرأى في حديثه لـ«الشرق الأوسط» أن «هناك عدة تداعيات مهمة ستظهر على السطح خلال الفترة المقبلة، لا سيما مع وجود تعزيزات أميركية جديدة لحماية المصالح الأميركية التي بدأت تتهدد بشكل واضح، الأمر الذي سيغير من قواعد اللعبة والاشتباك معاً»، وأضاف أن «القوة الجديدة الأميركية ستكون لها مهمات محدّدة من بين مهمات أخرى، وهي استهداف قيادات في الحشد، وبالأخص تلك التي شاركت في عملية اقتحام السفارة الأميركية والمظاهرات، والتي أشار إليها الرئيس الأميركي، وكذلك وزير الخارجية».
وتوقّع محيي الدين أن «تستهدف قيادات الفصائل المسلحة القواعد والمصالح الأميركية، سواءً قرب مطار بغداد أو أماكن أخرى، وهو ما يعني أن رد الفعل الأميركي سيكون أقوى مما حصل على طريق المطار، وعُرف بـ(البرق الأزرق)، إذ يمكن أن تكون هناك عمليات تصفية حتى لسياسيين ليس لديهم فصائل مسلحة، ولكنهم محسوبون على إيران بشكل أو بآخر». كذلك توقّع محيي الدين أن «تطال قائمة الاستهدافات الأميركية مصالح أخرى لهذه القيادات، كالمصارف وغيرها، من أجل إضعاف قدراتها، لا سيما أن الخزانة الأميركية قد فرضت بالفعل عقوبات على شخصيات، وهو ما يعني متابعة ما تملكه من أموال في دول كثيرة».

- ضربة بضربة
لقد تصاعدت ردود الفعل الغاضبة بانتظار ما يمكن أن تفعله القيادة الإيرانية، وما إذا كان رد الفعل الأساسي سيوازي حجم خسارة جنرال بحجم قاسم سليماني بكاه بحرقة المرشد الإيراني علي خامنئي.
حتى مراجع الدين الكبار في العراق، وفي مقدمهم المرجع الأعلى آية الله علي السيستاني، نعوا سليماني والمهندس، وأدانوا العملية. كذلك كان آية الله محمد رضا السيستاني، نجل المرجع الأعلى، على رأس مستقبلي الجثمان عند وصوله إلى مدينة النجف، بينما كان آية الله بشير النجفي -وهو أحد المراجع الأربعة العظام في النجف- هو مَن أمّ المصلين عليه.
عموماً، في العراق، يمكن القول إن ردود الفعل تراوحت بين ضبط النفس والتصعيد. فقد حث على ضبط النفس كل من المرجعية الدينية، ورئيس الجمهورية برهم صالح... وحتى رئيس الوزراء عادل عبد المهدي الذي سرعان ما رمى الكرة في ملعب البرلمان، على صعيد تنظيم الوجود الأجنبي في البلاد. أما الاتجاه نحو التصعيد، فتبنّته دعوات الفصائل المسلحة المدعومة من إيران للردّ والانتقام مما حصل.
أما في إيران، فقد بدا المشهد مختلفاً، حيث تصاعدت الدعوات إلى الثأر، بينما أصدر كاظم الحائري، المرجع الديني العراقي المقيم في مدينة قُم بإيران، فتوى تقضي بـ«تحريم الوجود الأجنبي في العراق». ومع أن البرلمان العراقي استجاب لهذه الدعوة، عبر تصويت الكتل الشيعية، في غياب ومعارضة الكتل السنّية والكردية، فإن الرد الأميركي جاء واضحاً صريحاً، وهو تعزيز الوجود العسكري الأميركي في العراق.
وسط كل هذا، كان الجميع ينتظر الرد الإيراني الذي حبس الأنفاس لعدة أيام. وفي تفسير ذلك، يرى الدكتور حسين علاوي، رئيس مركز «أكد» للدراسات والرؤى المستقبلية، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «لحظات صعبة تمرّ على العراق والمنطقة. وعمليات التصعيد واضحة، والانتقال الأميركي من استراتيجية الاقتراب المباشر، بدل استراتيجية الاقتراب غير المباشر، غيّر المعادلة الآن»، وتابع أن «تغيير قواعد اللعبة الآن من قبل الجانب الأميركي أعطى فرصة للقوى السياسية، ووفّر هامش حركة أمام الإيرانيين الضاغطين بقوة من أجل تثبيت مصالحهم وإرثهم في المعادلة السياسية الجديدة للبلاد».
وأوضح علاوي أن «الوجود الأميركي أمام تحدّ نتيجة انهيار قدرة السلطة العراقية، وعجز مؤسسات الحكومة التنفيذية على الصعيد السياسي عن تحقيق إجماع على أن الوجود الأميركي مفيد، وهذا ما دفع الفصائل المسلحة (الشيعية) إلى أن تدفع نحو خيار عدم الفائدة من الوجود الأميركي، وهو ما ولد تحد أمام اتفاقية الإطار الاستراتيجي بين البلدين».
وفي المقابل، عد السياسي العراقي أثيل النجيفي، في حديث لـ«الشرق الأوسط»، أن «القوة الإيرانية تراجعت كثيراً بعد مقتل المهندس وسليماني، وما كانت الفصائل تعوّل عليه من دفع الشعب العراقي كدريئة لصراعها مع الولايات المتحدة الأميركية ضعف كثيراً». وأردف النجيفي أن «الفصائل المسلحة يمكن أن تهدّد وتتوعّد، وقد تضرب للحفاظ على وضعها، وقد تتملّص من المسؤولية، ولكنها بينما تريد أن تجعل من محاربة الأميركان قضية عراقية... فإن معظم الشعب العراقي لا يراها معركته».


مقالات ذات صلة

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

حصاد الأسبوع Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

سطرت نيتومبو ناندي ندايتواه، 72 عاماً، اسمها في التاريخ بوصفها أول امرأة تتولى رئاسة ناميبيا منذ استقلال البلاد عام 1990، بعدما حصدت 57 في المائة من الأصوات في

فتحية الدخاخني ( القاهرة)
رياضة سعودية السعودية تستمر في تشكيل خريطة مختلف الرياضات العالمية بتنظيم واستضافات غير مسبوقة (الشرق الأوسط)

السعودية ستُشكل خريطة الرياضة العالمية في 2025

شارف عام حافل بالأحداث الرياضية بما في ذلك الألعاب الأولمبية التي حظيت بإشادة واسعة وأربع بطولات قارية لكرة القدم على الانتهاء ومن المتوقع أن يكون عام 2025 أقل.

«الشرق الأوسط» (لندن)
حصاد الأسبوع فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية بقيادة ميشال بارنييه في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)،

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع خافيير ميلي (أ.ب)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار

شوقي الريّس (مدريد)

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.