العراق... بين «درون» واشنطن و«صواريخ» طهران

قراءة في عملية تصفية قاسم سليماني وتداعياتها

العراق... بين «درون» واشنطن و«صواريخ» طهران
TT

العراق... بين «درون» واشنطن و«صواريخ» طهران

العراق... بين «درون» واشنطن و«صواريخ» طهران

نام رئيس وزراء حكومة تصريف الأعمال في العراق عادل عبد المهدي في وقته المعتاد كل يوم في الساعة التاسعة والنصف مساء. ومع أن اليوم التالي يوم جمعة، وهو عطلة اعتيادية في العراق، فإن عبد المهدي كان على موعد في الساعة الثامنة والنصف صباحاً مع ضيف من نوع مختلف ووزن مختلف؛ كان ذلك الضيف المنتظر هو الجنرال قاسم سليماني، قائد «فيلق القدس» في «الحرس الثوري» الإيراني.
سليماني كان آتياً من دمشق على متن رحلة طيران عادية لشركة طيران «أجنحة الشام». وحطت الطائرة في مطار بغداد متأخرة ساعة عن موعد وصولها المعتاد. وكان أبو مهدي المهندس، نائب رئيس هيئة «الحشد الشعبي»، بانتظار ضيفه «مهندس» معظم التحولات في المنطقة في غضون الأربعين سنة الماضية.
إلا أن الرجلين لم يصلا إلى بغداد التي تبعد عن المطار مسافة 20 كم تقريباً، وبالسيارة يمكن قطعها في غضون 10 دقائق، إذ كانت «الدرون» -التي بدت من نوع مختلف هذه المرة- تترصّد الصيد الثمين بعد مغادرته المطار في موكب من سيارتين عاديتين غير مصفّحتين. وتوقفت الرحلة إلى الأبد عند تخوم بغداد بعد مقتل سليماني والمهندس ومرافقيهم، وتغيّر في الحال ليس جدول مواعيد عادل عبد المهدي فحسب، بل جداول كل المواعيد أيضاً. وظهرت على الفور جداول جديدة ومواعيد جديدة على طاولات «الكبار»، خصوصاً بين واشنطن وطهران.

مع تصفية قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، وجدت بغداد صعوبة في استيعاب كل هذه التحوّلات، وهي التي تعيش منذ ثلاثة شهور أزمة حادة، تتمثّل في الانتفاضة الشعبية الواسعة التي أدت إلى إقالة الحكومة وعجز الكتل السياسية عن المجيء برئيس وزراء بديل لعبد المهدي.
وهنا نشير إلى أن العراق كان يعيش على وقع عدة صدمات طوال أسبوع، بدأت مع قصف قاعدة الـ«كي 1» في كركوك بنحو 30 صاروخاً من قبل الفصائل المسلحة، أدت إلى مقتل متعاقد أميركي (ظهر فيما بعد أنه عراقي الأصل)، ثم شهدت قصف الطائرات الأميركية النفاثة «اللواء 45» التابع لـ«الحشد الشعبي»، وبالذات لـ«كتائب حزب الله» (في غرب البلاد)، الذي راح ضحيته أكثر من 70 شخصاً بين قتيل وجريح، وبعد ذلك اقتحام مجمّع السفارة الأميركية وسط «المنطقة الخضراء» في بغداد.

- سياسة السيادة
في أعقاب قتل سليماني، وكما كان متوقعاً، تصاعدت حدة المواجهة بين إيران والولايات المتحدة الأميركية. وما كان المسرح المرتقب للمواجهة سوى العراق المشكوك في سيادته من كلا الطرفين العدوين المتخاصمين؛ ذلك أن إيران ترى أن العراق سيبقى منقوص السيادة ما دام الجند الأميركان على أراضيه، وأميركا ترى أن العراق منقوص السيادة ما لم يتخلص من نفوذ طهران وأذرعها، ممثلة في الفصائل المسلحة الموالية لها.
لقد كان الصيف الماضي، حتى مقتل قاسم سليماني، هو الأسخن على صعيد المواجهة بين طهران وواشنطن على الأرض العراقية، إذ استهدفت طائرات «الدرون» على مدى أشهر الصيف كثيراً من معسكرات «الحشد الشعبي» في مناطق مختلفة من العراق، واتهمت فصائل «الحشد» إسرائيل، مع الإشارة إلى أن رئيس الوزراء عادل عبد المهدي ذكر أن الأميركيين أبلغوه أن إسرائيل هي من تولى قصف تلك المعسكرات، ولكن عملياً «قُيدت العملية ضد مجهول».
ومن جهة ثانية، انهالت على مدى شهور الصيف حتى اليوم صواريخ «الكاتيوشا» على «المنطقة الخضراء»، في محاولات لاستهداف السفارة الأميركية. ومع أن الاتهامات توجّه دائماً إلى الفصائل المسلحة الموالية لإيران في التورط بمثل هذه العمليات، فإن أياً منها لم تعترف بتنفيذ مثل هذه العمليات. وهكذا، بين القصف بـ«الدرون» إسرائيلياً و«الكاتيوشا» والهواوين من قبل الفصائل المسلحة المؤيدة لإيران... ظلت السيادة العراقية محل انتقاد بين واشنطن وطهران، وتبادل اتهامات بين العاصمتين، إذ تتهم كل منهما منافستها بخرق السيادة العراقية، إلى أن وقعت الواقعة بقتل قاسم سليماني.

- ترمب يفتخر وينتظر
طوى الليل ساعاته التي بدت سريعة، وحل الصباح باكراً في بغداد، حيث أيقظ عبد المهدي على غير العادة، ليعلم بأن ضيفه الذي كان ينتظره في ساعة مبكّرة من صباح الغد توقفت رحلته في منتصف المسافة بين بغداد ومطارها. وأيضاً جرى الأمر نفسه مع المرشد الأعلى في إيران علي خامنئي. أما اللاعب الأساسي الوحيد الذي كان مستيقظاً في حينه، فكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب، بسبب فارق التوقيت.
وكما شاهد العالم، أعلن ترمب أنه هو مَن أمر بتنفيذ العملية، من دون أن يتطرّق إلى مسألة السيادة العراقية. ليس هذا فحسب، بل افتخر الرئيس الأميركي بأنه قضى على ما عدّه «الشخص المسؤول عن كل مشاريع إيران التوسعية في المنطقة»، حين أمر بتنفيذ العملية التي أدت إلى مقتله، والتي أطلق عليها اسم «البرق الأزرق».
بطبيعة الحال، هنا أسقط في يد بغداد التي لم يعد أمامها سوى انتظار رد الفعل الإيراني الذي لن يكون إلا في الأرض العراقية، بحجة وجود القواعد العسكرية الأميركية في العراق. كذلك بات واجباً عليها انتظار رد الفعل الأميركي على رد الفعل الإيراني، بينما أعلن البرلمان العراقي عن التوجه لعقد جلسة طارئة، جدول أعمالها فقرة واحدة، هي إخراج القوات الأميركية من العراق. وعند هذه النقطة، توحّدت القوى الشيعية الرئيسة المختلفة فيما بينها عند هذا الهدف، بينما اتخذ الكرد والعرب السنة موقفاً مناقضاً لموقف قوى الشيعة. ومع نجاح النواب الشيعة في التصويت على قرار يطالب الحكومة بإخراج الوجود الأجنبي من البلاد، لم يصوّت معهم نواب الكرد والسنة.

- تداعيات وتوقعات
بين كون التصويت مُلزماً أو أنه مجرد توصية غير ملزمة للحكومة، التي هي أصلاً باتت «حكومة تصريف أعمال»، مضى تصويت البرلمان العراقي بإخراج القوات الأجنبية من البلاد من دون أن يخلف تداعيات كبيرة، لا سيما مع بدء انتظار الرد الإيراني على تصفية سليماني الذي لم يوارَ الثرى إلا بعد خمسة أيام من التشييع الجماهيري بين المدن العراقية والإيرانية. وكما هو معروف، راح ضحية التدافع في أثناء مراسم التشييع أكثر من 60 قتيلاً وعشرات الجرحى في مدينة كرمان الإيرانية، مسقط رأس القائد القتيل.
وعلى صعيد آخر، فإن التداعيات التي خلفها قتل الجنرال سليماني أربكت الأجواء السياسية في العراق والمنطقة، لا سيما أن العملية غيّرت قواعد اللعبة والاشتباك معاً. وفي هذا السياق، فإن للخبراء والمعنيين رأيهم في الحدث وتداعياته الآنية والمستقبلية، إذ توقّع الدكتور إحسان الشمري، رئيس مركز التفكير السياسي في العراق، خلال لقاء مع «الشرق الأوسط»، أنه «ستكون لمقتل سليماني وأبو مهدي المهندس تداعيات على كل المستويات، ليس فقط على مستوى الأرض العراقية، بل على مستوى المنطقة. وإن الرد الإيراني سيكون حاضراً على أرض العراق كأرض هشة، وكذلك المناطق الأخرى مثل سوريا ولبنان واليمن، فضلاً عن الدول الأوروبية، عن طريق خلايا تابعين لـ(الحرس الثوري) الإيراني».
وتابع الشمري أنه «قد لا يكون له (أي الرد الإيراني) هدف المضي بالحرب الشاملة التقليدية، لأن من شأن ذلك أن يؤدي إلى إسقاط النظام في إيران التي لا تمتلك القدرة على هذه الحرب الشاملة المفتوحة، بعكس أميركا وحلفائها»، وبيّن أن «التداعيات الأقوى ستكون داخل الأراضي العراقية التي تحوّلت من أرض احتكاك إلى أرض اشتباك، وهذا سيكون له عواقب على المستوى الأمني، خصوصاً إذا استمر استهداف المصالح الأميركية... وبالذات مع وجود القوات الأميركية في العراق».
أما رئيس مركز الدراسات الاستراتيجية، الدكتور معتز محيي الدين، فرأى في حديثه لـ«الشرق الأوسط» أن «هناك عدة تداعيات مهمة ستظهر على السطح خلال الفترة المقبلة، لا سيما مع وجود تعزيزات أميركية جديدة لحماية المصالح الأميركية التي بدأت تتهدد بشكل واضح، الأمر الذي سيغير من قواعد اللعبة والاشتباك معاً»، وأضاف أن «القوة الجديدة الأميركية ستكون لها مهمات محدّدة من بين مهمات أخرى، وهي استهداف قيادات في الحشد، وبالأخص تلك التي شاركت في عملية اقتحام السفارة الأميركية والمظاهرات، والتي أشار إليها الرئيس الأميركي، وكذلك وزير الخارجية».
وتوقّع محيي الدين أن «تستهدف قيادات الفصائل المسلحة القواعد والمصالح الأميركية، سواءً قرب مطار بغداد أو أماكن أخرى، وهو ما يعني أن رد الفعل الأميركي سيكون أقوى مما حصل على طريق المطار، وعُرف بـ(البرق الأزرق)، إذ يمكن أن تكون هناك عمليات تصفية حتى لسياسيين ليس لديهم فصائل مسلحة، ولكنهم محسوبون على إيران بشكل أو بآخر». كذلك توقّع محيي الدين أن «تطال قائمة الاستهدافات الأميركية مصالح أخرى لهذه القيادات، كالمصارف وغيرها، من أجل إضعاف قدراتها، لا سيما أن الخزانة الأميركية قد فرضت بالفعل عقوبات على شخصيات، وهو ما يعني متابعة ما تملكه من أموال في دول كثيرة».

- ضربة بضربة
لقد تصاعدت ردود الفعل الغاضبة بانتظار ما يمكن أن تفعله القيادة الإيرانية، وما إذا كان رد الفعل الأساسي سيوازي حجم خسارة جنرال بحجم قاسم سليماني بكاه بحرقة المرشد الإيراني علي خامنئي.
حتى مراجع الدين الكبار في العراق، وفي مقدمهم المرجع الأعلى آية الله علي السيستاني، نعوا سليماني والمهندس، وأدانوا العملية. كذلك كان آية الله محمد رضا السيستاني، نجل المرجع الأعلى، على رأس مستقبلي الجثمان عند وصوله إلى مدينة النجف، بينما كان آية الله بشير النجفي -وهو أحد المراجع الأربعة العظام في النجف- هو مَن أمّ المصلين عليه.
عموماً، في العراق، يمكن القول إن ردود الفعل تراوحت بين ضبط النفس والتصعيد. فقد حث على ضبط النفس كل من المرجعية الدينية، ورئيس الجمهورية برهم صالح... وحتى رئيس الوزراء عادل عبد المهدي الذي سرعان ما رمى الكرة في ملعب البرلمان، على صعيد تنظيم الوجود الأجنبي في البلاد. أما الاتجاه نحو التصعيد، فتبنّته دعوات الفصائل المسلحة المدعومة من إيران للردّ والانتقام مما حصل.
أما في إيران، فقد بدا المشهد مختلفاً، حيث تصاعدت الدعوات إلى الثأر، بينما أصدر كاظم الحائري، المرجع الديني العراقي المقيم في مدينة قُم بإيران، فتوى تقضي بـ«تحريم الوجود الأجنبي في العراق». ومع أن البرلمان العراقي استجاب لهذه الدعوة، عبر تصويت الكتل الشيعية، في غياب ومعارضة الكتل السنّية والكردية، فإن الرد الأميركي جاء واضحاً صريحاً، وهو تعزيز الوجود العسكري الأميركي في العراق.
وسط كل هذا، كان الجميع ينتظر الرد الإيراني الذي حبس الأنفاس لعدة أيام. وفي تفسير ذلك، يرى الدكتور حسين علاوي، رئيس مركز «أكد» للدراسات والرؤى المستقبلية، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «لحظات صعبة تمرّ على العراق والمنطقة. وعمليات التصعيد واضحة، والانتقال الأميركي من استراتيجية الاقتراب المباشر، بدل استراتيجية الاقتراب غير المباشر، غيّر المعادلة الآن»، وتابع أن «تغيير قواعد اللعبة الآن من قبل الجانب الأميركي أعطى فرصة للقوى السياسية، ووفّر هامش حركة أمام الإيرانيين الضاغطين بقوة من أجل تثبيت مصالحهم وإرثهم في المعادلة السياسية الجديدة للبلاد».
وأوضح علاوي أن «الوجود الأميركي أمام تحدّ نتيجة انهيار قدرة السلطة العراقية، وعجز مؤسسات الحكومة التنفيذية على الصعيد السياسي عن تحقيق إجماع على أن الوجود الأميركي مفيد، وهذا ما دفع الفصائل المسلحة (الشيعية) إلى أن تدفع نحو خيار عدم الفائدة من الوجود الأميركي، وهو ما ولد تحد أمام اتفاقية الإطار الاستراتيجي بين البلدين».
وفي المقابل، عد السياسي العراقي أثيل النجيفي، في حديث لـ«الشرق الأوسط»، أن «القوة الإيرانية تراجعت كثيراً بعد مقتل المهندس وسليماني، وما كانت الفصائل تعوّل عليه من دفع الشعب العراقي كدريئة لصراعها مع الولايات المتحدة الأميركية ضعف كثيراً». وأردف النجيفي أن «الفصائل المسلحة يمكن أن تهدّد وتتوعّد، وقد تضرب للحفاظ على وضعها، وقد تتملّص من المسؤولية، ولكنها بينما تريد أن تجعل من محاربة الأميركان قضية عراقية... فإن معظم الشعب العراقي لا يراها معركته».


مقالات ذات صلة

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

حصاد الأسبوع Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

سطرت نيتومبو ناندي ندايتواه، 72 عاماً، اسمها في التاريخ بوصفها أول امرأة تتولى رئاسة ناميبيا منذ استقلال البلاد عام 1990، بعدما حصدت 57 في المائة من الأصوات في

فتحية الدخاخني ( القاهرة)
رياضة سعودية السعودية تستمر في تشكيل خريطة مختلف الرياضات العالمية بتنظيم واستضافات غير مسبوقة (الشرق الأوسط)

السعودية ستُشكل خريطة الرياضة العالمية في 2025

شارف عام حافل بالأحداث الرياضية بما في ذلك الألعاب الأولمبية التي حظيت بإشادة واسعة وأربع بطولات قارية لكرة القدم على الانتهاء ومن المتوقع أن يكون عام 2025 أقل.

«الشرق الأوسط» (لندن)
حصاد الأسبوع فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية بقيادة ميشال بارنييه في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)،

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع خافيير ميلي (أ.ب)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار

شوقي الريّس (مدريد)

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».