الجزائر: عبد العزيز جرّاد... رئيس حكومة تخصّصه السياسة الدولية

مهمة صعبة لإنقاذ اقتصاد متهالك ومواجهة أزمات في الجوار

الجزائر: عبد العزيز جرّاد... رئيس حكومة تخصّصه السياسة الدولية
TT

الجزائر: عبد العزيز جرّاد... رئيس حكومة تخصّصه السياسة الدولية

الجزائر: عبد العزيز جرّاد... رئيس حكومة تخصّصه السياسة الدولية

يصف رئيس الوزراء الجزائري الجديد عبد العزيز جرّاد، نفسه بأنه «من أوائل ضحايا نظام بوتفليقة»، الرئيس السابق الذي أطاحت به انتفاضة شعبية في ربيع العام الماضي. ومردّ ذلك إلى إقالته من منصبه بصفته أمينا عاما لوزارة الخارجية عام 2004، عقاباً له على قربه من الخصم اللدود لبوتفليقة آنذاك، رئيس حكومته علي بن فليس، الذي «تجرّأ» وترشّح ضده في انتخابات شهدها العام نفسه.
ولقد اختفى جرّاد من الشأن العام مدة طويلة، وقال لمقربيه في وقت لاحق إن أبناءه وأفراد عائلته تعرضوا لمضايقات بسبب خياراته السياسية، التي لم يعلن عنها قط للإعلام. كما يقول عن بن فليس إنه «تخلى عنه في أحلك الظروف»، بعدما افترق الرجلان على إثر هزيمة كبيرة لبن فليس أمام بوتفليقة في الانتخابات.

عاد الدكتور عبد العزيز جرّاد إلى الواجهة السياسية في الجزائر بعد سنوات طويلة عن طريق الجامعة، فأصبح أستاذا بكلية العلوم السياسية بجامعة الجزائر العاصمة. ثم التحق بحزب «جبهة التحرير الوطني»، الذي يرأسه الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة.
كان ذلك إيذاناً عن «توبة» منه، بحسب خصوم له، بينما رأى مراقبون في ذلك «تطبيعا مع السلطة، سيتبعه دور سياسي ينتظر جرّاد في المستقبل». وهذا ما حصل فعلاً، بعدما أصبح «الرجل الثاني» في السلطة التنفيذية، بعد رئيس الجمهورية. وهنا نشير إلى أن هامش رئيس الوزراء كسلطة في الجزائر، ضاق قياساً إلى الصلاحيات الكبيرة التي يمنحها الدستور لرئيس الجمهورية. فهو لا يملك صلاحيات التعيين في المناصب العليا ولا تعيين مسؤولين سامين. بل جرى تقليص سلطة رئيس الحكومة بدرجة كبيرة، في تعديل أدخله بوتفليقة على الدستور عام 2008، غير بموجبه تسمية المنصب إلى «وزير أول».

- خبرة اقتصادية محدودة
لا يعرف لرئيس الوزراء الجديد دراية بالشؤون الاقتصادية والمالية، في حين أجرّادن الظروف التي تمر بها الجزائر راهناً بحاجة إلى مسيّر أثبت نجاحاً في تدبير الشأن العام. أما الميدان الذي يشهد الكثير، بأن جرّاد متضلع منه، فهو الإلمام بالقضايا الاستراتيجية والأزمات الدولية، وبالأخصّ، في الدول المجاورة للجزائر كمالي وليبيا. ولذا يعول عليه في تحديد الدور الذي ينبغي على الجزائر أن تلعبه في الملفين، كقوة إقليمية تملك عمقاً في المنطقة.
جرّاد (65 سنة) قال في أول تصريح له بعد تكليفه برئاسة الوزراء، بنهاية العام المنصرم 2019، إن البلاد «مطالبة برفع التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجها البلاد، ويجب العمل سوياً على مواجهتها والتغلب عليها». وتعهد بالعمل «مع كل كفاءات الوطن من أجل الخروج من هذه المرحلة الصعبة». غير أنه تعرض لانتقادات شديدة بعد ظهور التشكيل الحكومي، الذي سينفذ برنامج الرئيس الجديد عبد المجيد تبَون. وقال منتقدوه إن طاقمه الوزاري «فريق غير متجانس، فهو خليط بين تكنوقراطيين ومحسوبين على تيارات آيديولوجية وسياسية». وتركزت انتقادات أخرى على «صلة الصداقة بينه وبين بعض الوزراء، التي كانت معيارا لتوليهم المسؤولية»، في حين أشار آخرون إلى «العدد المبالغ في الحقائب الوزارية» بالحكومة (39 بين وزير ووزير منتدب وكاتب دولة)، وبأن ذلك كان خطأ يتحمّله تبون، بحكم أن البلد يعاني من شحّ في الموارد المالية في حين أنه يترتّب عن كثرة الوزارات أعباء مالية إضافية.
معالجة الاضطرابات الاجتماعية... أولوية قصوى
بعد الإعلان عن تشكيل الحكومة، قال جرّاد إن «مخطط عمل الحكومة» الذي يلزمه الدستور بإعداده وعرضه على البرلمان للمصادقة، «يتكفل بأهم انشغالات المواطنين». وعد الجوانب الاجتماعية في استراتيجية الجهاز التنفيذي «أولوية قصوى».
وأكد بخصوص الاحتجاجات والإضرابات في بعض القطاعات، كالتعليم والضرائب والخدمات العامة، أنه «تلقى، خلال اجتماع مجلس الوزراء (الأول بعد انتخاب تبون) توجيهات وتعليمات من السيد رئيس الجمهورية، تعبر عن إرادته في أن تتمحور أولويات الحكومة حول تجسيد مجمل تعهداته الانتخابية، مع الإلحاح على الطابع الاستعجالي للجانب الاجتماعي. بجانب هذا، لا ينبغي أن نغفل الاضطرابات الاجتماعية التي مست قطاعات مختلفة للنشاط الاقتصادي والخدمات العامة».
وقال بخصوص ما ينتظر طاقمه الوزاري من تحديات داخلية، إن «أهداف حكومتي متعددة ترمي إلى تحسين ظروف معيشة المواطنين، والحفاظ على القدرة الشرائية وإنجاز برنامج كبير للسكن. ففي في هذا الظرف الخاص، تعتزم الحكومة، حتى قبل تقديم مخطط العمل أمام المجلس الشعبي الوطني، إطلاق عهد جديد يقوم على أساس الحوار والتشاور مع جميع الفاعلين السياسيين والاجتماعيين والاقتصاديين، وذلك في كنف المشاركة والشراكة».
ودعا جرّاد نقابات تلوح بالإضراب، إلى «المشاركة في المبادلات التي سنشرع فيها عن قريب، وتخصّ جميع قطاعات النشاط، غرض توفير الشروط المثلى من أجل الانطلاق في بناء أسس جزائر جديدة والعمل، يوماً بعد يوم، على تجسيد الالتزامات المتخذة من قبل السيد رئيس الجمهورية، والتي تعكف الحكومة على وضع الأدوات الضرورية لتحقيقها». وتحدث عن «مشروع ضخم يجري تحضيره ويتطلب آجالاً معقولة لتنفيذه، وجواً يطبعه الهدوء والحكمة والتبصّر».
وتابع جرّاد: «لتحقيق هذا المبتغى، فإن مساهمة ومشاركة الشركاء الاجتماعيين، دون أي إقصاء، هو أمر ضروري وحاسم، وبالأخص في قطاع التربية الوطنية (التعليم) الذي يستحق تكفلاً حقيقياً بصعوبات القطاع برمته. فالحكومة تتعهد بالإصغاء لتطلعات الشركاء الاجتماعيين وتحرص على كسب ثقتهم، خاصة وهي تشعر بالاطمئنان لما أثبتوه من نضج وصبر على وضع صعب عاشته بلادنا، وتجدد مرة أخرى استعدادها وتمام التزامها بمباشرة مسعى مشترك يطبعه الهدوء والحزم».

- تحت المجهر
من ناحية أخرى، وضع رجال السياسة، تحت المجهر خيارات جرّاد بشأن أعضاء الطاقم الحكومي. ومن الذين أبدوا اهتماماً بهذا الجانب، عبد الرزاق مقري، رئيس الحزب الإسلامي «حركة مجتمع السلم»، الذي كتب: «هناك شيء جميل في التشكيل الحكومي أعجبني، هو تعيين شخصيات كانت متطرّفة في معارضة النظام، ومعارضة تنظيم الانتخابات. وهناك شيء لافت استغربت له، وهو تعيين شخصيات يرفضها، بل يحاربها، التيار الذي دافع عن الانتخابات وخوّن المقاطعين لها وقسّم الجزائريين، بغير إرادة أغلبهم، على أساس العرق والانتماء للثورة والعروبة والإسلام». وذلك في إشارة إلى ناشطين في الحراك منخرطين في المظاهرات منذ بدايتها قبل قرابة 11 شهرا، وداعمين له من خلال تصريحاتهم ومواقفهم، دخلوا الحكومة، من بينهم الخبير الاقتصادي فرحات آيت علي وزير الصناعة والمناجم، وأستاذ الفلسفة بالجامعة مليكة بن دودة وزيرة الثقافة، والممثل التلفزيوني يوسف سحيري كاتب دولة مكلف بالصناعة السينماتوغرافية.
وبحسب مقري «شيء جيد الانفتاح على المعارضة - ولو كأشخاص - لأن هذا يساعد على التهدئة، إلى أن تظهر النيات الحقيقية، إن كان هناك إرادة فعلا للإصلاح وتجسيد خريطة سياسية على أساس الإرادة الشعبية، خلافا لما كان عليه الحال، أم هي تسكينات موضعية وتآمر على أصول وركائز العملية السياسية الصحيحة».
من جهته، يقول الكاتب الصحافي نجيب بلحيمر عن فريق جرّاد الحكومي إن «الوزارات مناصب سياسية في المقام الأول، والوزير لا يأتي لاستعراض كفاءات نظرية بل لينفذ سياسات شارك في وضعها، أو لتنفيذ سياسات مقتنع بها ولو لم يكن من المشاركين في صياغتها. يطرح مصطلح التكنوقراط كتعبير عن حكومات غير حزبية، لأن الأصل في الحكومات هو أن تتشكل من خلال انتخابات حيث تفرزها الأغلبية البرلمانية وجوبا في الأنظمة البرلمانية، أو تراعى فيها نتائج الانتخابات البرلمانية في نظم رئاسية أو شبه رئاسية بحسب ما يقتضيه الدستور أو العرف السياسي القائم».
ويرى الكاتب أنه «في الحالة الجزائرية طرح مطلب حكومة تكون مهمتها تصريف الأعمال، ضمن شروط الانتقال الديمقراطي وهو ما رفضته السلطة، وفرضت بدلاً عنه خريطة طريق بالقوة انتهت بتنصيب عبد المجيد تبون رئيسا، وبعدها تم الإعلان عن تشكيلة الحكومة والتي شهدت تعيين بعض الشخصيات المعروفة بكفاءتها في ميادين تخصصها، وهذه الكفاءات مطلوب منها إعطاء صورة مشرقة لواجهة نظام الحكم، لكن هناك أسئلة تطرح حول قدرة الكفاءة على إحداث أي تغيير ومن ضمنها كمثال: كيف يمكن الجمع بين وزير المالية الذي عمل في عهد بوتفليقة وبرر خيار طباعة النقود (وهو خيار كان كارثياً على الاقتصاد بحسب خبراء)، مع من كان بالأمس يقدم على أنه خبير مالي وانتقد هذا الخيار؟ الإجابة هنا هي أن الوزير ينفذ خيارات حتى وإن لم يكن مقتنعا بها، وهو بهذا يعمل موظفا ساميا ويقبل بأن ينفذ قرارات تخص قطاعه».

- ليبيا ومالي... أكبر التحديات
ويشرح أستاذ العلوم السياسية قوي بوحنية، الذي تحدثت إليه «الشرق الأوسط»، الوضع الجديد الذي سيتعامل معه جرّاد، خاصة ما تعلَق بالأحداث في بلدان الجوار، فيقول: «هناك مطالب في الداخل كما في الخارج، بتدخل الجيش الجزائري في ليبيا ومالي، لدرء المخاطر التي قد تصل من هذين البلدين. وأتصور أن السيد رئيس الوزراء لن ينساق وراء هذا الضغط، فهو يعلم أن العقيدة العسكرية الأمنية للجيش الجزائري يتحكم فيها الدستور، الذي يقيد الجيش بعدم التدخل خارج الحدود. فهو جيش دفاعي أساساً يتعامل بحذر مع الملفات الحساسة، بعكس كثيرا من العقائد العسكرية لكثير من الجيوش».
وأوضح بوحنية أن «حساسية الجزائر تجاه قضايا التدخل العسكري الخارجي، خصوصاً التدخل الفرنسي ناهيك من تدخل أطراف إقليمية ودولية حالياً، كلها معطيات تأخذها في الحسبان السلطات الجديدة التي جاءت بها انتخابات الرئاسة التي جرت الشهر الماضي. كما تأخذ في الحسبان بوجه خاص، هشاشة الحدود مع ليبيا والتي تتجاوز 900 كلم. وينذر الوضع في هذا البلد بتنامي الخطر الميليشياوي على الحدود وهو ما دفع المؤسسة الرسمية الجزائرية، إلى التعامل مع حفتر كقائد ميليشيا وليس قائد جيش». وأردف: «تتعاطى الجزائر مع الأزمة الليبية، من منطلق الشرعية الدولية، حسب مسؤوليها، الذين يعترفون بفايز السراج وبرلمانه فقط ويطالبون بحل الأزمة وفق مخرج دستوري وقانوني داخلي».
كذلك لاحظ بوحنية أن «قوة الجزائر في هذا الملف، تتمثل في احتفاظها بمسافة واحدة مع الأطراف الإقليمية. فعلاقتها متميزة مع تركيا ودول الخليج ومصر، وهو ما يجعلها تتبنى موقفاً لا يقبل التدخل المباشر حتى تتمكن من فرض دبلوماسية أمنية وإنسانية في آن واحد. ويمكن أن نلاحظ الدور الجزائري في جامعة الدول العربية ودورها الإنساني، في ربط حزام جوي وبري للمساعدات الجزائرية إلى الشقيقة ليبيا... يجب برأيي عدم إنكار الركود الدبلوماسي الذي عاشته الجزائر في العقد الأخير، بسبب شلل مؤسسة الرئاسة دبلوماسيا وسياسيا بسبب مرض الرئيس بوتفليقة واحتكاره للدبلوماسية، وهو ما جعل أطرافاً تتمدد في الفراغ الدبلوماسي الذي تركته الجزائر».

< بطاقة هوية
- ولد في مدينة خنشلة (شمال شرقي الجزائر) عام 1954، وهو متزوج وأب لأربعة أولاد.
- تخرّج شهادة عليا في العلوم السياسية من معهد العلوم السياسية في الجزائر عام 1976، وحصل على الدكتوراه في العلوم السياسية والعلاقات الدولية من جامعة باريس - نانتير (فرنسا) عام 1981.
- حصل على درجة بروفسور عام 1992، بعد التدريس في عدة مؤسسات جامعية في الجزائر وخارجها.
- شغل منصب مستشار دبلوماسي في عهد الرئيس علي كافي عام 1992، وأمين عام للرئاسة في عهد الرئيس اليامين زروال، وكان مدير المدرسة العليا للإدارة لمدة 5 سنوات بين عامي (1989 - 1992).
- شغل منصب الأمين العام لوزارة الخارجية 2001 و2003.
- كُلّفَ بتشكيل الحكومة الجديدة عام 2019.


مقالات ذات صلة

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

حصاد الأسبوع Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

سطرت نيتومبو ناندي ندايتواه، 72 عاماً، اسمها في التاريخ بوصفها أول امرأة تتولى رئاسة ناميبيا منذ استقلال البلاد عام 1990، بعدما حصدت 57 في المائة من الأصوات في

فتحية الدخاخني ( القاهرة)
رياضة سعودية السعودية تستمر في تشكيل خريطة مختلف الرياضات العالمية بتنظيم واستضافات غير مسبوقة (الشرق الأوسط)

السعودية ستُشكل خريطة الرياضة العالمية في 2025

شارف عام حافل بالأحداث الرياضية بما في ذلك الألعاب الأولمبية التي حظيت بإشادة واسعة وأربع بطولات قارية لكرة القدم على الانتهاء ومن المتوقع أن يكون عام 2025 أقل.

«الشرق الأوسط» (لندن)
حصاد الأسبوع فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية بقيادة ميشال بارنييه في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)،

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع خافيير ميلي (أ.ب)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار

شوقي الريّس (مدريد)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.