تكليف دياب تشكيل الحكومة اللبنانية يفاقم الاستياء السنّي

الحريري مقابل باسيل معادلة مرفوضة... ومسار «الإحباط» بدأ في 2008

تكليف دياب تشكيل الحكومة اللبنانية يفاقم الاستياء السنّي
TT

تكليف دياب تشكيل الحكومة اللبنانية يفاقم الاستياء السنّي

تكليف دياب تشكيل الحكومة اللبنانية يفاقم الاستياء السنّي

يشعر المسلمون السنة في لبنان منذ عام 2008 - وهو العام الذي استخدم فيه حزب الله سلاحه في الداخل - أن تأثيرهم يتضاءل على حساب الشيعة والمسيحيين. وبعدما اعتقدوا أن التسوية السياسية التي قرّر رئيس تيار «المستقبل» سعد الحريري السير بها في عام 2016، والتي أسست لشراكة مع رئيس الجمهورية العماد ميشال عون و«التيار الوطني الحر»، الواسع التمثيل لدى المسيحيين، من شأنها أن تعزز موقعهم في الحياة السياسية، اضطر الحريري للاستقالة. والأسوأ أن استقالته جاءت على خلفية اندلاع الانتفاضة الشعبية المستمرة منذ 17 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وتلاها تكليف وزير التربية الأسبق حسان دياب - المقرّب من الثنائي الشيعي (حزب الله وحركة أمل) وعون - لتشكيل الحكومة الجديدة بـ6 أصوات نيابية سنّية فقط. وهو ما فاقم من الاستياء السنّي الذي بات يظهر بوضوح من خلال عمليات الاعتراض المتواصلة في المناطق ذات الغالبية السنّية.

يعدّ القسم الأكبر من المسلمين السنة في لبنان اليوم، أن المطالب التي رفعتها الانتفاضة والتي نادت بإسقاط كل زعماء الطوائف دون استثناء، أتت على حسابهم وحدهم، وذلك لأن سعد الحريري، الزعيم السني الأول في البلاد، هو وحده بين الرؤساء الثلاثة الذي استقال، بينما ظل رئيس الجمهورية الماروني ورئيس مجلس النواب الشيعي في منصبيهما.
ثم إن تكليف حسان دياب تشكيل الحكومة الجديدة، بعد امتناع رئيس الجمهورية عن الدعوة لاستشارات مُلزمة فور استقالة الحريري، أثار الاستياء السنّي لسببين؛ الأول: بدء رئيس الجمهورية وحلفائه إجراء مشاورات التشكيل قبل التكليف. والثاني: لأن قسماً كبيراً من السنة يعتبر أن تكليف دياب تولاه «الثنائي الشيعي» والوزير جبران باسيل، رئيس تيار رئيس الجمهورية، وهو ما يعني برأيهم فرض إرادة طوائف أخرى على الطائفة السنّية. والسبب الثاني عبّر عنه بوضوح رئيس الحكومة السابق تمام سلام الذي اعتبر أن «الإتيان برئيس الحكومة المكلف حسان دياب لتشكيل الحكومة وملابسات تسميته يقابَل بما هو أكثر من اعتراضٍ سنّي، فهناك غضب عند السنة بفعل ما تم اعتماده من تكليفٍ مُعَلَّبٍ لدياب وبالرغم عنهم».
دياب، الأستاذ الجامعي في هندسة الاتصالات والكومبيوتر ونائب رئيس الجامعة الأميركية في بيروت، حصل على 69 صوتاً لتشكيل الحكومة الجديدة، بينهم فقط 6 أصوات سنّية؛ وهي أصوات نواب «اللقاء التشاوري» الذي يضم النواب السنة المتحالفين مع حزب الله: عدنان طرابلسي، وعبد الرحيم مراد، والوليد سكّرية، وجهاد الصمد وفيصل كرامي، إضافة إلى النائب قاسم هاشم عضو كتلة «التنمية والتحرير» التي يرأسها رئيس المجلس النيابي نبيه برّي. وفي المقابل، أحجم 21 نائباً سنّياً من أصل 27 عن تسميته من ضمنهم كتلتا «المستقبل» و«الوسط المستقل» التي يرأسها رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي.
النائب في تيار المستقبل عاصم عراجي قال لـ«الشرق الأوسط» في لقاء معه إن «الشارع السنّي يعيش نوعاً من الإحباط نتيجة تكليف دياب، وهذا ليس خافياً على أحد. أضف أن طريقة التشكيل الحاصلة وتوزيع الحصص يفاقمان هذا الإحباط». ولفت إلى أن «الاعتراض السنّي الأساسي هو كيف أن ما أعطي لحسان دياب لم يُعطَ لسعد الحريري، ما يظهر وجود نية واضحة لإقصاء الزعامات السنية». وأضاف عراجي: «لا يقتصر الإحباط السني الحالي على تكليف دياب، بل سبقه الاستياء من محاولة جبران باسيل فرض نفسه بإطار معادلة (سعد مقابل جبران)، وهي معادلة مرفوضة تماماً، باعتبار أن باسيل رئيس تيار، أما الحريري فرئيس حكومة. وبالتالي، لا يصح وضع الحريري إلا في معادلة مع عون وبرّي، وليس ربط ترؤسه الحكومة بوجود باسيل فيها». ثم تساءل: «أليس جبران باسيل نفسه مَن سبق أن تحدث عن وجوب أن يكون رئيس الجمهورية الأقوى في طائفته؟ فلماذا ما يصحّ في رئاسة الجمهورية لا يصح في رئاسة الحكومة؟».
إلا أن الجو الذي ينقله عراجي عن الشارع السني، لا يوافق عليه تماماً النائب السني في كتلة برّي، قاسم هاشم (وهو عضو في حزب البعث - جناح سوريا -) الذي يستبعد أن يكون الإحباط تسلل إلى سنة لبنان على خلفية تكليف دياب، ويقول: «ذلك لم يحصل إلا بعد اعتذار صاحب أكبر كتلة ممثلة للسنة، ألا وهو الرئيس الحريري، علماً بأن القاصي والداني يعلم بأن (الثنائي الشيعي) أصرّ حتى ربع الساعة الأخيرة على أن يتولى رئيس (المستقبل) رئاسة الحكومة». وتابع قاسم في تصريح لـ«الشرق الأوسط» كلامه: «قرار الحريري الاعتذار عن التشكيل استدعى التعاطي وفق الأصول الدستورية التي أدت لتكليف الدكتور دياب». ومن ثم شدّد على أن «الإشكالية الأساسية تتخطى الخلاف الحالي - وتكمن في الروحية الطائفية والمذهبية المتحكمة بالبلد من خلال هذا النظام الطائفي البغيض الذي نعتبر أنه آن أوان التخلص منه».

- مسار طويل من الإحباط
في هذه الأثناء، يرى وزير ونائب سابق من تيار «المستقبل» - فضل إغفال الإشارة إلى هويته - أن تكليف دياب «ليس إلا نتيجة طبيعية للمسار الذي تسلكه الأمور منذ عام 2008 عندما أخذ السنة في لبنان يشعرون من وقتها حينها بالإحباط لوجود انطباع سائد بسيطرة حزب الله على كل شيء وضمناً مقدرات الطائفة». وأشار في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إلى أنه بعد اغتيال رئيس الحكومة رفيق الحريري في عام 2005، كان هناك نوع من استنهاض سنّي ما لبث أن تلاشى بعد 3 سنوات. وأردف المسؤول «المستقبلي» السابق: «توالت الانتكاسات سواءً في عام 2011 بعد إقالة الرئيس سعد الحريري من رئاسة الحكومة وفرض نجيب ميقاتي رئيساً جديداً ووصولاً إلى إقرار قانون انتخاب في عام 2017 جاء على حساب تيار المستقبل». وعدّ النائب السابق أن «أزمة السنة ليست محصورة في لبنان، إنما تمتد إلى سنة سوريا والعراق الذين حُمّلوا مسؤوليات كبيرة بموضوع الإرهاب وسواه من المواضيع... أضف إلى أن الهجمة الإيرانية على منطقتنا لعبت دوراً كبيراً في الإحباط السنّي، من دون أن ننكر أن الطائفة لم تتمكن، وبالتحديد في لبنان، من أن تفرز قيادات تكون على مستوى الأحداث أو أنه لم يُسمح لها بذلك».
«مركز كارنيغي للشرق الأوسط» يعتبر من جهته أن رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري - وهو أحد الزعماء السنة ذوي الشعبية - كان في النتيجة ركناً أساسياً في إعادة بناء وتعزيز المؤسّسات التي دمرتها الحرب الأهلية في البلاد بين عامي 1975 و1990. غير أن اغتياله في عام 2005 غيّر هذه المعادلة بصورة كبيرة. ويشير المركز في دراسة سابقة له إلى أنه مع اغتيال الحريري، ظلّ السنة من دون زعيم «كاريزمي» ذي نفوذ في هرم الدولة.
عودة إلى النائب عراجي، الذي يتحدث عن «تحوّل» في طريقة تعاطي السنة في لبنان مع المسار العام للأمور، «فهم لم يفكروا يوماً خلال الحرب الأهلية بتشكيل ميليشيات على غرار باقي الطوائف، فكان الفلسطينيون هم من يقودون الجبهة». ويضيف: «هم لطالما شعروا أنهم طائفة كبيرة على مستوى العالم العربي، وبالتالي لا مكان للوهن والضعف في نفوسهم، بل على العكس كانوا يعتبرون أنهم من المفترض أن يحتضنوا كل الطوائف. غير أن ما حصل في سوريا، بشكل أساسي، كما الدور الإيراني المتعاظم في المنطقة، كانا من العوامل التي زرعت القلق في نفوسهم وجعلت الإحباط يتسلل إليها».
وفي هذا السياق، كتبت الدكتورة منى فياض، الأستاذة في الجامعة اللبنانية ببيروت، في أحد مقالاتها أنه «من الظلم حصر مظلومية الطائفة السنيّة، التي حوصرت بتهم (التكفير) و(التخوين) و(الدعشنة)، حتى طرابلس - عروس الثورة - وُسمت بأنها (قندهار لبنان)، بكيفية تعيين الرئيس المكلف». وأشارت إلى أن «الإحباطات تتراكم منذ اغتيل رفيق الحريري عام 2005 مروراً بغزوة 7 مايو (أيار) التي تسببت في مقتل أكثر من 100 ضحية. وتوالت المحطات المشابهة، فوصل الأمر إبّان حصار السراي الحكومية إلى الاعتداء على رجال دين سنة من صبية حي اللجاه والخندق الغميق نفسه فحلقوا ذقونهم. ناهيك بشيطنة (الرئيس فؤاد) السنيورة الذي أصبح الممثل الحصري للفساد الذي يغرقون به جميعهم». وأضافت: «وليس إسقاط الحريري، في سابقة لا مثيل لها، من الرابية في لحظة دخوله البيت الأبيض هو الذي سيرفع معنويات السنة، كما اللبنانيين، ولا وضع البلد في الثلاجة لعامين ونصف العام من أجل الإتيان بالرئيس الذي فرضته الثنائية الشيعية».
ورأت الدكتورة فياض (وهي شيعية) أنه «تم إضعاف الطائفة السنّيّة عندما وافق الحريري على التسوية التي جعلته الغطاء (الميثاقي) لفرض قانون انتخاب (أرثوذكسي) على الطريقة الفرزلية (اقترحه نائب رئيس مجلس النواب إيلي الفرزلي، حليف الرئيس عون) سمح لحزب الله بالحفاظ على دولته وسلاحه وعلى احتكاره للتمثيل الشيعي، بصورة دستورية هذه المرة». ثم لفتت إلى أن «الحريري وحلفاءه برّروا التسوية - الصفقة تحت شعار تجنب الفراغ؛ فوقعنا في الهاوية». وأيضاً، رأت فياض أنه «من الطبيعي أن يورث تراكم هذه الجروح الشارع السني، المرارة والإحباط الشديدين حتى الغليان. ليس لأنه يريد استعادة الحريري (سوى بجزء ضئيل منه)، بل لأن الثورة لم تعنِ إسقاطه وحده لتعويم أركان السلطة الباقين».

- اختلال ميزان القوى
في أي حال، تتعرض القوى والأحزاب السنّية للانتقاد بسبب تقصيرها الكبير تجاه المجتمع السنّي، ما يجعل المناطق ذات الغالبية السنية، خصوصاً في عكار وطرابلس بشمال لبنان، ومناطق في البقاع بشرق لبنان، ترزح تحت فقر مدقع كان وراء دفع عدد كبير من أبنائها للانضواء في صفوف «الانتفاضة الشعبية» أخيراً.
ووفق مركز «كارنيغي»، فإن «عدداً متزايداً من السنة يشعرون بخيبة أمل بسبب ما يعدّه البعض تخلّي تيار (المستقبل) عن نضاله ضد النفوذ السوري والإيراني في لبنان، الذي يشكّل أحد البرامج التي قام على أساسها». إلا أن الوزير والنائب «المستقبلي» السابق يردّ السبب الرئيسي لتراجع دور السنة في لبنان وتيار «المستقبل» إلى «كون البلد من دون سيادة، ولتحكم لعبة توازن القوى به واختلال الميزان بميله بوضوح لمصلحة حزب الله، بدل أن نكون في كنف قوة التوازن». ويصف الإحباط السنّي بـ«المخيف» مشدداً على أنه لا يمكن تبيان إلى أين يمكن أن يؤدي، ومضيفاً: «هناك عنصر أساسي لا يجري كثيراً التوقف عنده، وهو يشكل تحولاً جذرياً بالطائفة السنّية في لبنان التي لطالما كانت (مدينية)، أي تتمركز في مدن بيروت وطرابلس وصيدا، فإذا بها اليوم وبنسبة تفوق 50 في المائة تتحول ريفية... بحيث بات سنة لبنان يتمركزون بشكل لافت في مناطق عكار والبقاع الغربي والبقاع الشمالي وزحلة وشبعا وغيرها من المناطق الريفية، ما يعني نظرة مختلفة للأمور ولكيفية مقاربتها».
على صعيد متصل، لاحظت دراسة لـ«معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى» أن الطائفة السنّية اللبنانية، والتي تشهر صفات الانفتاح والعصرية، قد تمكنت بالفعل من مقاومة الضغوط المتعددة باتجاه التطرف والتشدد، وذلك نتيجة بناها الذاتية الداخلية وتواصلاتها الاجتماعية الاقتصادية مع الطوائف الأخرى. إلا أنها ترى أن الزعامات السنّية، التي تعرضّت لقدر جديد من التشظّي بعد اغتيال رفيق الحريري، لم تواكب الجهد الأهلي في مقاومة هذه الضغوط. وترد الدراسة السبب لكون هؤلاء الزعماء يواجهون صعوبات مشهودة وتحديات متواصلة لمواقعهم، وتعتبر أن «التعويل على الدفاعات الداخلية للطائفة السنّية لن يكون كافياً لمواجهة السعي القائم من جانب محور المقاومة (أي حزب الله وخلفه نظام إيران) لوسم الطائفة بالتطرف ولدفعها إليه».

- الصراع السني ـ الماروني على الصلاحيات
لا يرتبط «الإحباط السنّي» المستجد حصراً بتكليف حسان دياب تشكيل الحكومة، إذ لطالما شهدنا في الآونة الأخيرة صراعاً بين القوى السنّية في لبنان من جهة ورئيس الجمهورية ميشال عون وصهره الوزير جبران باسيل من جهة ثانية. وهذان الأخيران تتهمهما القوى السنّية بمحاولة استعادة صلاحيات أخذها «اتفاق الطائف» من موقع رئيس الجمهورية وأعطاها لمجلس الوزراء مجتمعاً.
ويركز رؤساء الحكومات السابقون في الفترة الأخيرة على ما يرون أنها «خروقات متكررة للطائف»، كان آخرها برأيهم تأخير إتمام الاستشارات النيابية. وفي بيان أصدره أخيراً رؤساء الحكومات السابقون نجيب ميقاتي وتمام سلام وفؤاد السنيورة، تحدثوا عن «اعتداء سافر على صلاحيات النواب بتسمية الرئيس المكلف من خلال الاستشارات النيابية المُلزمة لرئيس الجمهورية بإجرائها وبنتائجها، ومن ثم الاعتداء على صلاحيات رئيس الحكومة عندما يتمّ تكليفه تشكيل الحكومة بعد إجراء الاستشارات اللازمة، وذلك من خلال استباق هذه الاستشارات وابتداع ما يسمى رئيساً محتملاً للحكومة، وهو ما قام به فخامة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون والوزير جبران باسيل كما أعلنه الوزير باسيل بذاته». وذهبوا إلى حد اعتبار «الاعتداء غير المسبوق، لا قبل الطائف ولا بعده، على موقع رئاسة الحكومة، جريمة خطيرة بحق وحدة الشعب اللبناني وبحق أحكام الدستور».
وكانت رئاسة الجمهورية ردت على رؤساء الحكومات السابقين، معتبرة أنهم «لو أدركوا ما كان سيترتّب على الإسراع في إجراء الاستشارات النيابية المُلزمة من انعكاسات سلبية على الوضع العام في البلاد وعلى الوحدة الوطنية والشرعية الميثاقية، لما أصدروا هذا البيان وما تضمنه من مغالطات ولكانوا أدركوا صوابية القرار الذي اتخذه رئيس الجمهورية».
لكن خلدون الشريف، المستشار السياسي للرئيس نجيب ميقاتي قال في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إن «الانطباع العام السائد هو أن الموقع السنّي الأول في البلد، أي رئاسة الحكومة، لم يعد يوازن المواقع المارونية والشيعية. إذ لدينا رئيس جمهورية سُمّي (القوي) ورئيس مجلس نواب هناك توافق عام على اعتباره أعتى الأقوياء. وفي المقابل، هناك رئيس حكومة مكلف، صحيح أنه أتى بغطاء دستوري، لكنه يفتقد للتمثيل الشعبي، كما السياسي، اللذين يحظى بهما عون وبرّي. وهذا ما أدى لشعور الطائفة السنّية أنها همّشت من المعادلة السياسية في لبنان». ويضيف الشريف: «لكن الطائفة السنّية تبقى في نهاية المطاف طائفة مؤسسة للوطن ولا يمكن لأي كان تجاوزها، وإن كانت تمرّ كما كل الطوائف في مرحلة من المراحل بظروف صعبة... وهي اليوم في أضعف أحوالها».
ويصوّب الشريف باتجاه المشكلة التي يعدّها أساسية ألا وهي «الإحجام عن تطبيق اتفاق الطائف». ويشدد على أن أي حل ينطلق من العودة إلى بنود هذا الاتفاق الذي أمكن التوصل إليه بعد حرب طويلة، قائلاً: «أين ما اتفق عليه بوقتها لجهة انتخاب النواب خارج القيد الطائفي وإنشاء مجلس شيوخ وهيئة عليا لإلغاء الطائفية السياسية بالإضافة للامركزية الإدارية؟».
ولا يخفي الشريف وجود انطباع عام بأن عون وباسيل يتعمدان مصادرة صلاحيات رئيس الحكومة، وآخر هذه المحاولات حصلت في الاستشارات النيابية الملزمة حين روّجت مصادرهما بأن «الاستشارات مُلزمة لكن نتائجها غير مُلزمة. وهذا أمر لا يستدعي حتى التفكير به باعتباره من خارج كل ما تم الاتفاق عليه بالطائف، الذي يجعل من رئيس الجمهورية صندوق بريد تقتصر مهمته على عد الأصوات، أما الترويج لما هو خلاف ذلك، فيندرج في إطار المحاولات المتواصلة لاستعادة الوضع الذي كان قائماً قبل الطائف».
بالمقابل، تنفي مصادر «الوطني الحر» (تيار عون) تهمة محاولة للانقضاض على صلاحيات رئاسة الحكومة، وتقول: «على أن ما يحصل هو ممارسة رئيس الجمهورية دوره وصلاحياته المنصوص عليها في الدستور»، مضيفة في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أنه «إذا كانوا لم يعتادوا ذلك في العهود السابقة، فهذا لا يعني خرق الدستور والطائف بل تطبيقهما فعلياً. فليعودوا إلى النصوص ويدققوا بها وبعدها فليتهمونا بتجاوزها، في حال صح ذلك».


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.