بريطانيا تطل على 2020 بأمل «استعادة عظمتها» وقلق تهاوي اقتصادها

جونسون يواجه تحدي الحفاظ على الوحدة وكسب رهان «بريكست»

بوريس جونسون لدى عودته إلى «10 داونينغ ستريت» في 13 ديسمبر (رويترز)
بوريس جونسون لدى عودته إلى «10 داونينغ ستريت» في 13 ديسمبر (رويترز)
TT

بريطانيا تطل على 2020 بأمل «استعادة عظمتها» وقلق تهاوي اقتصادها

بوريس جونسون لدى عودته إلى «10 داونينغ ستريت» في 13 ديسمبر (رويترز)
بوريس جونسون لدى عودته إلى «10 داونينغ ستريت» في 13 ديسمبر (رويترز)

لم يكن عام 2019 في بريطانيا ككل الأعوام. فيه تعاقب رئيسا وزراء، وحُدّد جدول زمني نهائي للخروج من الاتحاد الأوروبي، وتغيرت الخريطة السياسية بشكل لا سابق له. وصفه رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون بـ«عام إنجاز بريكست» واحترام إرادة الناخبين، فيما نعت فيه المعارضة العمالية سقوط «جدارها الأحمر» الذي عزّز موقعها في مجلس العموم لعقود مضت كممثّل شرعي لقلب بريطانيا الصناعي. أما الملكة إليزابيث الثانية فاعتبرته عاما «مليئا بالعثرات»، خاصة بعد فضيحة أخلاقية تكشّفت تفاصيلها بعدما اختار نجلها الأمير أندرو، مواجهة الاتهامات ضده في مقابلة نادرة على شاشة الـ«بي بي سي».
اليوم، تستعدّ لندن لتوديع جيرانها الأوروبيين بإيجابية تستمدّها من جونسون، وقلق تلمسه لدى مجتمع المال والأعمال. يعد رئيس الوزراء بـ«استعادة عظمة» بلاده، في الوقت الذي يحذّر فيه الاقتصاديون من «هجرة» رؤوس الأموال في غياب اتفاق تجارة حرة مع بروكسل، أو «إغراق» السلع البريطانية بمنافساتها الأميركية في حال إبرام اتفاق يرضي سيد البيت الأبيض أكثر من قاطن «داونينغ ستريت». سيكون لـ«بريكست» في العام المقبل تداعيات تتجاوز التحديات الاقتصادية إلى وحدة المملكة المتحدة، مع تمسك الحزب القومي في اسكوتلندا بتنظيم استفتاء جديد على استقلال الإقليم الذي صوّت لصالح البقاء في التكتل الأوروبي.

«بريكست»... أخيراً

هيمنت «ملحمة بريكست» على الحياة السياسية في المملكة المتحدة منذ يونيو (حزيران) 2016، واستمرت في ضبط إيقاع السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية في السنوات الثلاث التي تلتها. إلا أن جونسون، عكس سلفه تيريزا ماي ومنافسه العمالي جيريمي كوربن، كان واضحا في رسالته وهدفه، فاعتمد عبارة «لننجز بريكست» شعارا لحملته الانتخابية، وأزاح كبار النواب الداعمين للبقاء في الاتحاد الأوروبي من صفوف حزبه المحافظ، وجاب مناطق بلاده الصناعية والزراعية في ويلز وشمال إنجلترا مردّدا وعد احترام رغبتهم و«استعادة عظمة بريطانيا».
ووفاء بوعده الانتخابي الأبرز، وضع جونسون إنجاز «بريكست» في مقدّمة أولوياته التشريعية، ونجح في تمرير مشروع قانون أولي حول «بريكست» في مجلس العموم قبل عطل نهاية العام، ما فتح الباب أمام خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي بحلول 31 يناير (كانون الثاني). ومن المتوقع أن يمنح البرلمان موافقته النهائية على القانون في الأسبوع الثاني من يناير، وهو ما ضمنه جونسون في الانتخابات المبكرة الماضية بتأمين غالبية حاسمة.
تفاؤل جونسون بإنجاز «بريكست» ونجاحه في تمرير مشروعات قانون متتالية في مجلس العموم، نجحا في «إخفاء» تفاصيل مثيرة للجدل كانت شبه «تابو» في البرلمان قبل أشهر قليلة. أبرز هذه التفاصيل قضية التفتيش الجمركي في البحر الآيرلندي، الذي اعتبرت تيريزا ماي أن «أي رئيس وزراء سيرفضها لأنها تهدد الوحدة الدستورية للمملكة المتحدة». تجاوز جونسون بعض هذه «المحظورات» واعترف بإمكانية فرض نقاط تفتيش جمركية في بحر الآيرلندي (الذي يفصل بريطانيا عن آيرلندا الشمالية) لبعض السلع البريطانية المتجهة نحو الجمهورية الآيرلندية، ما قد يطرح تحديا سياسيا غير مسبوق لوحدة المملكة المتحدة.

سقوط «الجدار الأحمر»

مني حزب العمال في 12 ديسمبر (كانون الأول) بأسوأ هزيمة انتخابية منذ عام 1923، وخسر معاقله ومقاعد لم تصوّت لصالح المحافظين منذ تأسيسها. يرجع البعض هذه النتيجة إلى تأرجح موقف الحزب من قضية «بريكست»، فيما يلوم آخرون زعيم الحزب جيريمي كوربن الذي أثار قلق أوساط المال بسياساته الاقتصادية، وحمّله البعض مسؤولية تفشي معاداة السامية في صفوف حزبه.
فاز المحافظون بـ48 مقعدا إضافيا، كثير منها كانت جزءا من «الجدار الأحمر» العمالي؛ حيث تحدّت النقابات مارغريت ثاتشر وحمّلتها مسؤولية أزمتها الاقتصادية. وسارع جونسون إلى اقتناص فرصة فوزه التاريخي، وتوجه غداة الانتخابات إلى دائرة رئيس الوزراء العمالي السابق توني بلير التي تلونت بالأزرق للمرة الأولى منذ عام 1935 ودعا مواطنيه «الشماليين» إلى تجاوز خلافاتهم وتوحيد البلاد. وقال: «أتخيل وضع الناخبين الذين حملوا قلمهم وكانوا مترددين قبل أن يضعوا الإشارة قرب خانة المحافظين. أعلم أن بعض الأشخاص قد يكونون غيّروا عادتهم بالتصويت التي كانوا درجوا عليها منذ أجيال، وصوتوا لصالحنا»، واعدا الناخبين «بأن يكون على قدر ثقتهم».
صوت كثير من الناخبين العماليين التقليديين لصالح جونسون على أمل تحقيق طفرة اقتصادية بعد «بريكست». ووعد رئيس الوزراء بضخّ المليارات في البنى التحتية، والخدمات العامة من الصحة إلى التعليم مرورا بأنظمة الرعاية الاجتماعية ووسائل النقل العام. وفيما رحّبت الأسواق بنتيجة الانتخابات لما تمنحه من وضوح سياسي لم تحظ به منذ استفتاء عام 2016 حول «بريكست»، إلا أنها حثّت الحكومة المحافظة على إبرام اتفاقات تجارة حرة تحافظ على نفس مستويات التبادل التجاري والقواعد المالية مع الجيران الأوروبيين. فيما كان اقتصاديون آخرون أقل تفاؤلا، واعتبروا أن الطفرة التي يعد بها جونسون في الاستثمار والاستهلاك والعقار لن تكون كافية لتفادي تباطؤ اقتصادي في السنوات العشر المقبلة. وتوقع مركز الدراسات «ذي يو كاي إن إيه تشينجينغ يوروب» (المملكة المتحدة في أوروبا متغيرة) أن يؤدي الاتفاق الذي توصل إليه جونسون حول بريكست إلى «خفض إجمالي الناتج الداخلي للفرد في بريطانيا بما يتراوح بين 2.3 و7 في المائة بالمقارنة مع مستواه لو بقيت في الاتحاد الأوروبي»، على مدى عقد من الزمن.

تحدي اسكوتلندا

لم تنتظر وزيرة اسكوتلندا الأولى، نيكولا ستورجن، العام الجديد لتوجيه تحد وتحذير لقاطن «10 داونينغ ستريت». واستنكرت ستورجن تهديد جونسون للديمقراطية في اسكوتلندا؛ حيث «حزب الأقلية يفرض رأيه على الغالبية». تقصد الزعيمة الاسكوتلندية هنا حق حزبها الذي خرج منتصرا في الانتخابات الأخيرة في الإقليم، في الدعوة إلى تنظيم استفتاء جديد على الاستقلال من المملكة المتحدة.
وسارعت الحكومة البريطانية إلى رفض مطلب ستورجن، معتبرة أنه سيكون «إجراء مدمرا» وأنه قد يقوّض النتيجة الحاسمة لاستفتاء عام 2014 (عندما صوّت 55 في المائة من الاسكوتلنديين ضد الانفصال)، والتعهد الذي قطع لشعب اسكوتلندا بأن مثل هذا الاستفتاء لن يُجرى سوى مرة واحدة خلال جيل.
توقعت ستورجن هذا الرد من لندن، ودعت مواطنيها خلال 6 أسابيع من الحملة الانتخابية إلى منحها تفويضا شعبيا واسعا لتقديم مبرر «ديمقراطي ودستوري» للحكومة البريطانية، وهو ما حصلت عليه. فقد حقق الحزب القومي الاسكوتلندي فوزا ساحقا، وحصل على 47 من 59 مقعدا، ونحو نصف الأصوات. وعليه، ترى ستورجن أن حصول حزبها على نتائج مماثلة في انتخابات 2015 و2017 يجعل من إجراء استفتاء جديد «أمراً مفروغاً منه». وقالت: «أوضحت اسكوتلندا أنها لا تريد حكومة حزب محافظين بقيادة بوريس جونسون تخرجنا من الاتحاد الأوروبي»، مضيفة: «هذا هو المستقبل الذي نواجهه إذا لم تتح لنا الفرصة النظر للبديل وهو الاستقلال».
ويرى مؤيدو الاستقلال أن قرار بريكست «تغيير مادي» في علاقات اسكوتلندا، التي صوتت لصالح البقاء في الاتحاد الأوروبي، مع بقية المملكة المتحدة. وأكّدت ستورجن أن المستقبل الذي اختاره الاسكوتلنديون في 2014 «لم يعد متاحا لهم بعد الآن»، معتبرة أن المملكة المتحدة «ليست اتحاداً جديراً باسمه، ولا يتساوى المشاركون فيه».
بشكل عام، يواجه جونسون تحديا بالغ التعقيد سيقرر ما إذا كان سينجح في الفوز بفترة ثانية كرئيس وزراء. وسيسعى إلى تحقيق توازن صعب بين كسب رهان بريكست عبر إبرام اتفاقات تجارة حرة تدعم النمو الاقتصادي والتوظيف من جهة، وتعزيز أنظمة الرعاية الصحية والاجتماعية والتعليم والحفاظ على وحدة المملكة المتحدة من جهة أخرى.


مقالات ذات صلة

اختيار هاريس قد لا يكفي لتجنيب الديمقراطيين الهزيمة

حصاد الأسبوع كمالا هاريس... أمام الأختبار السياسي الأكبر (رويترز)

اختيار هاريس قد لا يكفي لتجنيب الديمقراطيين الهزيمة

هل نجح انسحاب الرئيس الأميركي جو بايدن من سباق الرئاسة في تجنيب الديمقراطيين هزيمة... كانت تتجمع نُذُرها حتى من قبل «مناظرته الكارثية» مع منافسه الجمهوري

حصاد الأسبوع ديفيد لامي

ديفيد لامي... وجه الدبلوماسية البريطانية الجديد يواجه قضايا عالمية شائكة

انتهت 14 سنة من حكم حزب المحافظين باتجاه بريطانيا يساراً مع تحقيق حزب العمال تحت زعامة السير كير ستارمر فوزاً ساحقاً منحه غالبية ضخمة بلغت 172 مقعداً. وفي حين توقف المحللون طويلاً عند حقيقة أن هذا الفوز الساحق لم يأت نتيجة زيادة كبرى في نسبة التأييد عما حصل عليه العمال في الانتخابات السابقة قبل 4 سنوات، بل بسبب انهيار الأحزاب والقوى المنافسة للحزب في عموم المناطق البريطانية التي كان يسعى إلى كسبها. وحقاً أدى تحدّي حزب الإصلاح الانعزالي اليميني المناوئ للهجرة وللتكامل الأوروبي إلى قضمه نسبة عالية وقاتلة من أصوات المحافظين ما أدى إلى انهيارهم في معاقلهم التقليدية. كذلك انهار الحزب القومي الأسكوتلندي في أسكوتلندا، وكانت الحصيلة إعادة العمال هيمنتهم عليها. ومن جهة ثانية، بينما كانت القضايا الداخلية - والاقتصادية بالذات - في اهتمامات الناخبين، فإن أنظار المتابعين الدوليين اتجهت إلى معالم السياسة الخارجية للحكومة العمالية الجديدة، أما الوجه الجديد الذي سيقود الدبلوماسية البريطانية للسنوات القليلة المقبلة فهو وزير الخارجية الجديد ديفيد لامي.

«الشرق الأوسط» (لندن)
حصاد الأسبوع جيريمي كوربن (رويترز)

سنوات المحافظين الـ14 الأخيرة غيّرت الكثير في بريطانيا

> شهدت السنوات الـ14 الأخيرة تغيّرات مهمة على مشهد الساحة السياسية البريطانية أثّرت في كيميائها داخلياً وبدلت الكثير من الأولويات والمقاربات لمعظم القضايا .

حصاد الأسبوع الرئيس قيس سعيّد ... يعد العدة لاختبار انتخابي مهم. (رويترز)

تونس... على أبواب انتخاباتها الرئاسية الجديدة

تعيش تونس هذه المدة أجواء ما قبل الانتخابات الرئاسية الثالثة منذ إطاحة حكم الرئيس زين العابدين بن علي في يناير (كانون الثاني) 2011. إذ أعلنت السلطات و«الهيئة العليا للانتخابات» عن انطلاق العملية الانتخابية رسمياً يوم 14 يوليو (تموز) الحالي. ومن المقرر الكشف عن القائمة النهائية للمرشحين المقبولين في آخر الأسبوع الأول من أغسطس (آب) المقبل، في حين تنطلق الحملات الانتخابية الرسمية خلال سبتمبر (أيلول) تأهباً ليوم الاقتراع العام وهو 6 أكتوبر (تشرين الأول) المقبل. بيد أن هذه الانتخابات تنظم في «مناخ استثنائي جداً» وفق معظم المراقبين، وسط استفحال مظاهر أزمة اقتصادية اجتماعية سياسية أثرت في خطب غالبية المرشحين والسياسيين وأولوياتهم. وبالتالي، تكثر التساؤلات حول مدى انعكاس الملفات الاقتصادية الاجتماعية «الحارقة» على العملية الانتخابية الجديدة وعلى المشهد السياسي... وهل سيستفيد من هذه الملفات ممثلو المعارضة والنقابات أم الرئيس قيس سعيّد، الذي أعلن رسمياً ترشحه لدورة ثانية، وعاد إلى اتهام «المتآمرين على الأمن القومي للبلاد» بتأزيم الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية وقطع الكهرباء والماء ومواد الاستهلاك عن المواطنين لأسباب سياسية وانتخابية أو «خدمة لأجندات أجنبية».

كمال بن يونس (تونس)
حصاد الأسبوع من لقاء أوربان - بوتين في موسكو (رويترز)

روسيا وأوكرانيا في صميم هموم البرلمان الأوروبي الأكثر يمينية

مطلع الشهر الماضي ذهب الأوروبيون إلى صناديق الاقتراع لتجديد عضوية البرلمان الأوروبي، فيما أجمعت الآراء على وصفها بأنها أهمّ انتخابات في تاريخ الاتحاد،

شوقي الريّس (بروكسل)

اختيار هاريس قد لا يكفي لتجنيب الديمقراطيين الهزيمة

كمالا هاريس... أمام الأختبار السياسي الأكبر (رويترز)
كمالا هاريس... أمام الأختبار السياسي الأكبر (رويترز)
TT

اختيار هاريس قد لا يكفي لتجنيب الديمقراطيين الهزيمة

كمالا هاريس... أمام الأختبار السياسي الأكبر (رويترز)
كمالا هاريس... أمام الأختبار السياسي الأكبر (رويترز)

هل نجح انسحاب الرئيس الأميركي جو بايدن من سباق الرئاسة في تجنيب الديمقراطيين هزيمة... كانت تتجمع نُذُرها حتى من قبل «مناظرته الكارثية» مع منافسه الجمهوري الرئيس السابق دونالد ترمب بكثير؟ الإجابة عن هذا السؤال، لا يختصرها الإجماع السريع الذي توافقت عليه تيارات الحزب لدعم كامالا هاريس، نائبة الرئيس الحالية. ذلك أن الصعوبات التي يواجهها الديمقراطيون، والأزمات التي لم يتمكنوا بعد من ابتكار الحلول لها، أكبر من أن يحتويها استعاضتهم عن مرشح مسنّ ضعيف وغير ملهم، بمرشحة شابة ملوّنة. ولكن مع ذلك، يبدو أن الديمقراطيين مقتنعون الآن بأنه باتت لديهم الفرصة لإعادة تصوير السباق على أنه تكرار لهزيمة مرشح «مهووس بالغرور والانتقام»، في حين يعيد خصومهم الجمهوريون تشكيل سياسات حزبهم، وفق أجندة قد تغير وجهه ووجهة أميركا، التي عدّها البعض، «دعوة للعودة إلى الوراء».

في حملة الانتخابات الرئاسية الأميركية، ثمة انزياح الجمهوريين إلى سياسات انعزالية خارجياً وحمائية اقتصادية داخلياً، معطوفة على سياسات اجتماعية يمينية متشددة، قد يكون من الصعب إقناع بعض الشارع بخطورتها. وفي المقابل، ما لم يقدم الديمقراطيون حلولاً للمشاكل التي أبعدت ولا تزال تبعد، شريحة واسعة من أبناء الطبقة العاملة إلى التصويت مرتين لمصلحة دونالد ترمب، فإنهم سيفقدون السيطرة على حملتهم.

الأمر لا يقتصر على أفراد الطبقة العاملة البيضاء الذين غادروا الحزب الديمقراطي بأعداد كبيرة خلال العقود الأخيرة، إذ أظهرت استطلاعات الرأي أن ترمب يُعد لاجتذاب الناخبين السود واللاتينيين من الطبقة العاملة بنسب تاريخية محتملة. ومع اعتناق ترمب ومرشحه لمنصب نائب الرئيس، جي دي فانس، لسنوات، سياسات «شعبوية» فإنهما سعيا أيضاً إلى استخدام حتى بعض الانتقادات «التقدمية» للسوق الحرة، ولو كانا سيخدمان الأثرياء في نهاية المطاف.

ترمب يهاجم هاريس خلال مهرجان انتخابي في ولاية نورث كارولينا (آب)

ولاغتنام هذه الفرصة، قد يفكر الديمقراطيون في قراءة كيف تمكّن حزبهم من التعافي من الأزمات الخطيرة في ماضيهم. ومعلوم أنه في حين كانت الانتخابات الماضية تدور حول السياسات، وليس التدهور الذهني للمرشحين والتشكيك بقدرتهم على الفوز، كما كان الحال مع بايدن في هذه الانتخابات، فإنهم لم ينجحوا إلا عندما قدّموا أجندة اقتصادية، تروّج لرأسمالية أكثر أخلاقية وأقل ضراوة وقسوة.

توحد حول «أجندة تقدمية»يقول مايكل كوزين، أستاذ التاريخ في جامعة جورجتاون، إنه منذ القرن التاسع عشر، لم ينجح الديمقراطيون في قلب هزائمهم، إلّا بعد توحيد صفوفهم خلف أجندة، قدمت مساراً مختلفاً لمعالجة الأزمات، من «الكساد الكبير» إلى التصدي للعنصرية، وكسر الخطاب الشعبوي - الذي هدف إلى كسب تأييد المزارعين وعمال المناجم - ومن ثم طرحوا حلولاً بشأن العمل والضمانات الاجتماعية والصحية والمال.

في العشرينات من القرن الماضي، دارت أزمة الديمقراطيين حول قضايا الثقافة والعِرق بدلاً من تحديد من فاز ومن خسر فيما كان آنذاك اقتصاداً مزدهراً. ولقد تطلب الأمر أسوأ كساد في تاريخ البلاد، لإعطاء الديمقراطيين الفرصة لوضع هذه الاختلافات وراء ظهورهم. وعام 1932، تحت قيادة فرانكلين روزفلت، فازوا بغالبية كبيرة في الكونغرس وأنشأوا أكبر توسع في السلطات المحلية للحكومة الفيدرالية في تاريخ الولايات المتحدة.

وبعدها، في عام 1968، بدا أن انسحاب ليندون جونسون من السباق أشبه بانسحاب جو بايدن هذا العام... إذ كان الرجلان يخطّطان للترشح لإعادة الانتخاب، لكن المعارضة الشرسة داخل حزبهما أثنتهما عن ذلك. واليوم، كما حصل سابقاً، أخذ نائب الرئيس مكانه على رأس القائمة. غير أن معارضة عودة جونسون كانت بسبب أكثر أهمية بكثير من القلق بشأن أداء الرئيس في مناظرة، أو على قدراته الجسدية والمعرفية التي قسا عليها الزمن. كان الخلاف يومذاك حول «حرب فيتنام» يقسم الديمقراطيين، والأميركيين عموماً، وهو ما أدى إلى خسارتهم أمام الجمهوريين وفوز المرشح الجمهوري ريتشارد نيكسون.

اصطفاف التيار التقدمياليوم، باستثناء الحرب في غزة، وانتقاد التيار التقدمي لإسرائيل، فإن الديمقراطيين متّحدون بشكل ملحوظ حول القضايا التي ركّز عليها بايدن في حملته الانتخابية. وبدا أن تمسك هذا التيار به والاصطفاف اليوم وراء نائبته كامالا هاريس، دليل على إجماع على أن «خطر» إدارة ترمب أخرى قد طغى على استيائه منهما. وفي غياب أي استثناءات تقريباً، يتفق ممثلوهم مع أعضاء الحزب في مجلسي الشيوخ والنواب، على تشجيع العمال على تشكيل النقابات ويريدون القيام باستثمارات جادة في مجال الطاقة المتجددة، ويؤيدون بالإجماع زيادة الضرائب على الأغنياء وتسليح أوكرانيا.

بيد أن تغير موقف «التيار التقدمي» بشأن هاريس - التي لطالما تعرضت للانتقادات منه - يعكس إلى حد كبير الديناميكيات السياسية المتغيرة داخل الحزب الديمقراطي نفسه. وحقاً، منذ التراجع المطّرد لدور اليساري المخضرم بيرني ساندرز وتحوّله إلى شيء من الماضي، وكون النجوم التقدميين مثل النائبة ألكساندريا أوكازيو كورتيز، ما زالوا أصغر من أن يتمكنوا من الترشح للرئاسة، لا يوجد بديل واضح عند هذا التيار. وأيضاً، مع تهميش أولويات «التقدميين» التشريعية السابقة كالتعليم الجامعي المجاني والرعاية الصحية الشاملة، واستمرار تعثر القضايا الحالية كالحرب في غزة من دون نهاية واضحة، تقلصت فرص «تيارهم» في لعب دور أكبر داخل الحزب.

ولكن إذا أعطى انسحاب بايدن الديمقراطيين فرصة لإحياء حظوظهم فيما بدا لفترة وكأنه سباق خاسر، فإنه قد لا يفعل ذلك الكثير لمعالجة الأزمة الأعمق التي واجهوها منذ أعاد ترمب تشكيل الحزب الجمهوري.

الديمقراطيون تجنّبوا الانقسامفإجماع الديمقراطيين على الدفع بكامالا هاريس خياراً لا بد منه، قد يكون جنبهم على الأقل خطر الانقسام. ورغم كونها خطيبة مفوهة، على خلفيتها بوصفها مدعية عامة وسيناتوراً سابقاً عن كاليفورنيا - كبرى الولايات الأميركية وأهمها - يظل العديد من الأميركيين ينظرون إليها على أنها «ليبرالية» و«تقدمية» تهتم بشدة بالحقوق الإنجابية والتنوع العرقي. وهم أيضاً يأخذون عليها أنها لم تظهر، حتى الآن على الأقل، قدرتها على التواصل بالقوة نفسها مع ناخبي الطبقة العاملة الذين يعتقدون أن لا الحزب الديمقراطي ولا الحكومة أظهرا الاهتمام نفسه بمشاكلهم الاقتصادية... وخوفهم من أن حياة أطفالهم قد تتعرض للخطر.

واستناداً إلى استطلاعات رأي تشير منذ عدة سنوات إلى أن أغلب الناس يعتقدون أن الولايات المتحدة «تسير على المسار الخطأ»، استخدم جي دي فانس، نائب ترمب، هذه المخاوف التي عرضها في كتابه «مرثية هيلبيلي» لتصعيد الخطاب الشعبوي، الذي عدّه البعض دعوة إلى إعادة عقارب الزمن عبر إحياء الصناعات المنقرضة، بدلاً من الاستثمار في المستقبل.

صعود المظالممع هذا، إذا اكتفت هاريس بالترويج والدفاع عن إنجازاتها وبايدن فقط، فقد تفشل في معالجة هذه المخاوف، وربما تسمح لترمب بالفوز مرة أخرى. الاعتراف باللامساواة بين الجنسين وقبول «الهويات» الجنسية، ونقد الاستعمار والعنصرية وكراهية الأجانب، وصعود حركة حماية البيئة، كلها مظالم وتحديات لشرائح واسعة تعتقد أنها تتعرّض للخطر وتدعو الساسة للعودة إلى الأنماط القديمة دفاعاً عنها. كما أن اضطرابات أخرى لعبت أيضاً دوراً في صعود هذه المظالم، من تغير المناخ والتحديات الاقتصادية التي فرضها، واستمرار التفاوت في الدخل، وموجات المهاجرين إلى أوروبا والولايات المتحدة، والانهيار الاقتصادي عام 2008، وجائحة «كوفيد-19» التي ألحقت أضراراً بالغة بالاقتصادات في جميع أنحاء العالم.

ومع تصاعد الشكوى من الهجرة والمهاجرين والتغير الديموغرافي والعولمة في كل مكان، يهدّد خطاب «الشعبوية» الجديد الديمقراطيات الليبرالية القديمة. وبدا أن احتضان الناخبين الأميركيين لترمب، يشبه تحول الناخبين الفرنسيين نحو حزب «التجمّع الوطني» اليميني المناهض للمهاجرين بزعامة مارين لوبان، الذي يدّعي أنه يمثل «فرنسا الحقيقية»، ومعه صعود العديد من أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا، وفق الكاتب الأميركي إدواردو بوتر.

فشل ديمقراطي

مع ذلك، فشل الديمقراطيون منذ عهد باراك أوباما في تقديم برنامج سياسي متماسك حول الوجهة التي يريدون أخذ أميركا إليها، والتكلم عن أولئك الذين يكافحون من أجل تغطية نفقاتهم، وهذا، بصرف النظر عن دفاعهم عن مصالح الطبقة الوسطى والتسامح مع الاختلافات الثقافية والتحرك نحو اقتصاد أكثر خضرة.

ومع أن ترشيح كامالا هاريس قد يعطيهم الفرصة للبدء في تغيير تلك الصورة، يظل الخطر كامناً في أنهم قد يعتقدون أن الأزمة الأخيرة التي مروا بها، أمكن حلها بتغيير المرشحين من دون معالجة حالة السخط التي تعصف بالبلاد. وهذا ما بدا من خطابهم الذي عاد للتشديد على أن المهمة الرئيسية هي منع عودة ترمب. فقد التحمت الأصوات الديمقراطية في خطاب شبه موحّد لتصوير الانتخابات على «أنها بين مجرم مُدان لا يهتم إلا بنفسه ويحاول إعادة عقارب الساعة إلى الوراء بما يخص حقوقنا وبلدنا، ومدعية عامة سابقة ذكية ونائبة رئيس ناجحة تجسد إيمانناً بأن أفضل أيام أميركا لا تزال أمامنا»، على ما كتبته الثلاثاء، هيلاري كلينتون في مقالة رأي في «نيويورك تايمز».

ربما لا حاجة إلى التذكير بأن خسارة كلينتون نفسها للسباق الرئاسي أمام ترمب عام 2016، كان بسبب إحجام ناخبي ولايات ما يعرف بـ«حزام الصدأ» - حيث قاعدة العمال البيض - عن تأييدها، بعدما خسر مرشحهم بيرني ساندرز الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي، الذي كان ينظر إليه على أنه مرشح واعد للدفاع عن حقوق الطبقة العاملة، ومنحهم أصواتهم لترمب الذي نجح في مخاطبة هواجسهم.

فرصة هاريس

اليوم، في ضوء انتزاع هاريس - إلى حد بعيد - بطاقة الترشيح قبل انعقاد مؤتمر الحزب في 19 أغسطس (آب) المقبل، ما يوفر عليها خوض انتخابات تمهيدية جديدة والفوز فيها، فإنها تحظى بفرصة لإعادة تقديم نفسها. وخلال الأيام الأخيرة، تعززت حملتها بفضل زيادة الحماسة والدعم وجمع التبرعات الذي حقق أرقاماً قياسية خلال 48 ساعة، وكل ذلك كان مفقوداً في حملة بايدن وسط مخاوف بشأن عمره وصحته.

لكن الحزب ما زال منقسماً حيال الرد على هجمات الجمهوريين، إذ يشعر البعض بالقلق من أن الغرق في مناقشات حول العنصرية والتمييز الجنسي، يمكن أن يستهلك حملة هاريس لدى انشغالها بمخاطبة جمهور الناخبين الأوسع. ولذا تصاعدت الأصوات الديمقراطية الداعية إلى جسر الهوة إزاء الهجرة والجريمة والتضخم، التي يركز الجمهوريون عليها، بينما يتساءل آخرون، عمّا إذا كان الكلام الصارم عن الإجهاض والضرائب والعنصرية، وغير ذلك من بنود جدول الأعمال التي يسعى الديمقراطيون بشدة إلى إعادتها إلى قمة الأولويات العامة، هو الطريقة الأفضل لخوض السباق ضد ترمب. الديمقراطيون متّحدون اليوم حول القضايا التي ركّز عليها بايدن

لطّف الجمهوريون خطابهم المتشدد... بينما يبحث الديمقراطيون عن نائب لهاريس

> لا يخفى، لدى تفحّص المشهد الانتخابي الأميركي، أن الجمهوريين سعوا للاستفادة من مكاسب استطلاعات الرأي مع الأميركيين الذين كانوا مترددين في السابق تجاه دونالد ترمب، وخاصة الناخبين غير البيض. إذ أعادوا تنظيم مؤتمرهم الوطني للتأكيد على «الوحدة»، بعد محاولة الاغتيال التي تعرّض لها ترمب، وتقديمه كرجل دولة وليس محارباً للثقافة والعرق. وتضمن المؤتمر كلمات دحضت الاتهامات بالعنصرية ضد ترمب، إلى جانب عدد من المتكلمين الذين أكدوا على خلفياتهم المهاجرة وعلى أن الجمهوريين مهتمون فقط بأمن الحدود. وبينما يقلّب الديمقراطيون الأسماء لاختيار نائب الرئيس على بطاقة الاقتراع مع كمالا هاريس، برز عدد من الأسماء على رأسهم جوش شابيرو حاكم ولاية بنسلفانيا المتأرجحة. وحظي شابيرو، وهو يهودي أبيض،

ترمب يهاجم هاريس خلال مهرجان انتخابي في ولاية نورث كارولينا (آب)

بالاهتمام كونه حقق فوزاً كبيراً في انتخابات عام 2022، متغلباً على سيناتور يميني متشدد أنكر فوز بايدن في انتخابات عام 2020، ويلقى دعماً كبيراً من الرئيس السابق باراك أوباما. أيضاً، برز السيناتور مارك كيلي (من ولاية أريزونا المتأرجحة أيضاً) الذي عُدّ منافساً محتملاً في مواجهة نائب ترمب، السيناتور جي دي فانس (من ولاية أوهايو). ويقف الرجلان على النقيض في العديد من قضايا السياسة الخارجية، وخصوصاً فيما يتعلق بمسألة مساعدة أوكرانيا. وبدا كيلي مرشحاً مثالياً ضد فانس؛ للموازنة بين الحفاظ على الولايات المتأرجحة، والحفاظ على سياستهم الخارجية. واتهمه بأنه «سيتخلى» عن أوكرانيا لصالح روسيا. وأردف كيلي قائلاً، إنه «أمام ما قد يفعله ترمب وفانس للتخلي عن حليف، فهذا من شأنه أن يؤدي إلى عالم أكثر خطورة بكثير». ورغم رفضه تأكيد أن يكون من بين المرشحين، قائلاً إن الأمر يتعلق بهاريس، «المدعية العامة التي تتمتع بكل هذه الخبرة، وترمب الرجل المدان بـ34 جناية ولديه خيار بشأن المستقبل، قد يعيدنا إلى الماضي حين كنا أقل أماناً».