ما بين الصحافة المصرية قبل نشأة «أخبار اليوم» وبعد نشأتها مساحة واسعة ومسافة طويلة تفيض بالكثير من المشاهد والقفزات والانفرادات والمواقف واللقطات التي تؤكد أنها تمثل بحق «المصنع الحديث للصحافة في مصر»... حيث عرف الخبر لأول مرة طريقه إلى صفحاتها الأولى ليتصدرها بأسلوب بسيط بلا مقدمات أو «لف ودوران»، وانسابت الكتابة الموجزة السريعة بين أرجائها، إضافة إلى احتضان رموز الإبداع على اختلاف مشاربهم، ومؤِسسة لقاعدة إطلاق صواريخ المواهب في سماء الصحافة والفن والأدب.
«دار أخبار اليوم» التي احتفلت أخيراً باليوبيل الماسي (75 سنة على تأسيسها)، تتزاحم الذكريات بين جنباتها بعمق تأثيرها في الحياة المصرية منذ أن شهد عام 1944 مولد حلم «أخبار اليوم» على يد التوأم مصطفى وعلى أمين، في شقة فوق سطح البناية رقم 43 بشارع قصر النيل بالقاهرة، فلم يكونا يمتلكان المال الوفير اللازم لشراء سواها، ولطالما شهد السلم الحديدي الطويل الشبيه بسلم المطبخ، والذي كان يصعدان من خلاله إليها، أحلامهما ولحظات الفوز ومشاعر العشق لجريدتهما الوليدة، فلم يكن مجرد درج يصعدان عبره إلى شقتهما بقدر ما كان درجاً يصعدان به إلى حلمهما الأكبر وهو «أخبار اليوم».
وبينما لم يتجاوز عدد المحررين معهما سوى ستة محررين فقط، ومنهم الرسام رخا كان التوأم يحلمان وعيونهما وآذانهما مغلقة؛ إذ امتنعا عن رؤية نظرات السخرية والشفقة، وسماع كلمات الرثاء تجاه حلمهما «المجنون»، بحسب تعبير الكاتبة الصحافية صفية مصطفى أمين، التي قالت لـ«الشرق الأوسط»: «ما زالت أتذكر كلمات أبي وتلك الابتسامة الجميلة التي كانت ترتسم على وجهه عندما كان يروي للأسرة قصة صدور (أخبار اليوم)، فكان يقول لنا إنها كانت حلمنا أنا وعلي منذ أوائل الثلاثينات، لكن عندما عرضنا الفكرة على عدد من الأسماء الكبيرة واللامعة في عالم الصحافة توقع الجميع لها الفشل والخسارة، وعندئذ قررنا أن نصدر الجريدة وحدنا، وأن نتحمل خسائرها بمفردنا».
منذ البداية اختار التوأم مدرسة جديدة في الصحافة شكلاً ومضموناً؛ إذ كان حجم الجريدة غير مألوف، وطريقة تحريرها كانت جديدة لم تعرفها الصحافة في مصر من قبل، حتى أن الرسام رخا حين رأى العدد الأول الذي تمت طباعة نحو 126 ألف نسخة منه، راح يضرب كفاً على كف، يبكي الجريدة التي ستموت يوم مولدها، كما حكى مصطفى أمين عن ذكريات العدد الأول. وتواصل أمين شريط الذكريات كما سرده لها والدها قائلة: «ذكر لي والدي أنه عندما رأى أول نسخة من (أخبار اليوم) سيطرت عليه سعادة الأب الذي يستقبل ابنته البكر، وعندما عرف خبر نفاد نسخ العدد الأول خلال ثلاث ساعات شعر بالخوف، متسائلاً هل يمكن أن يستمر هذا النجاح في العدد الثاني، وهو ما تحقق بالفعل؛ لذلك لم يكن غريباً أن أشعر أنا وشقيقتي رتيبة - رحمها الله - بالغيرة من تعلق والدنا بـ(أخبار اليوم)؛ فقد كان يطلق عليها لقب (ابنتي الكبرى) التي تزوجت وخرجت من بيت أبيها، بل كنا نغير أيضاً من كلمة الصحافة نفسها، فقد كانت كل أحاديثه مع عمي علي أمين (صحافة في صحافة)، ونادراً ما كانت تتضمن مناقشاتهما أموراً عائلية، فقد كانا رغم حنانهما المفرط تجاهنا بمثابة صحافيين 24 ساعة في اليوم».
وإذا أردت أن تستكمل حكاية «الحلم المستحيل» من وجهة نظر رجال الصحافة وقت تأسيسها، قبل أن تتحول إلى أول مؤسسة صحافية يملكها مصريان، وتضم إصدارات يكتب على صفحاتها عمالقة الفكر والصحافة والفن على غرار توفيق الحكيم، وكامل الشناوي، وأنيس منصور، وأحمد رجب، وصلاح حافظ، وأحمد بهاء الدين، ومحمد حسنين هيكل، ويوسف السباعي، وإحسان عبد القدوس، وإبراهيم سعدة، وموسى صبري، ومحمد وجدي قنديل، وفنانون أمثال صاروخان، ومنير كنعان، وبيكار، ومصطفى حسين، وغيرهم، عليك التوجه إلى «شارع الصحافة» الذي كان يطلق عليه «وابور الجاز» قبل أن يغير التوأم اسمه - بمنطقة الترجمان، بحي بولاق أبو العلا، حيث يطل المبنى الدائري العريق لـ«دار أخبار اليوم» الذي وُضع حجر تأسيسه في 11 نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1945.
«اختيار المكان لم يكن مجرد صدفة»، وفق الصحافي في المؤسسة طارق عبد العزيز، الذي يقول لـ«الشرق الأوسط»: «إلى جانب أن هذا المكان كان هادئاً ورخيصاً، لا يتجاوز سعر المتر فيه 10 جنيهات وقتئذ، فإنّ اختياره جاء أيضاً ليتماهى مع هدف الأخوين أمين وهو الوصول إلى الشعب، فمن المعروف أن الغالبية العظمى من سكان هذه المنطقة من البسطاء»، موضحاً «لعل ذلك يفسر أيضاً تصميمه الذي يتخذ الشكل الدائري، حيث تطل كل المكاتب من مختلف الجهات على الشارع، ويستطيع الصحافيون متابعة كل ما يحدث حولهم طوال الوقت، كما أنه يكفي أن نعرف على سبيل المثال كما كان يقول أساتذتنا إنه بعد تشييد الطابقين الأولين أوصل علي أمين الكهرباء من محل البقالة القريب من الدار بعد استئذانه، ليضع فور ذلك أول آلة من آلات اللينوتيب في الدار. وفي أواخر عام 1947 بُنيت الدار بأربعة طوابق، إلى أن وصلت إلى 9 أدوار فيما بعد».
ومنذ انتقال الجريدة من «شقة السطوح» إلى مبناها الجديد، كان أكثر ما يلفت النظر في صباح كل يوم هو مرور مصطفى أمين على الموظف المسؤول عن الحضور والانصراف بالدور الأرضي حتى «يدق له الساعة»، أي يثبت موعد حضوره، وهو تقليد ظل أمين حريصاً عليه حتى يكون نموذجاً لجميع العاملين والصحافيين مهما بلغت مكانتهم في الجريدة، وإذا تجوّلت في الدور الأرضي تستطيع أن تستعيد صفحات مهمة من تاريخ الصحافة المصرية حين تتأمل صور رؤساء تحرير جميع إصدارات المؤسسة إلى جانب مجموعة من الصور النادرة، ومنها صور وضع أساس الدار، وصورة شقة «قصر النيل».
نقطة تحوّل
«مدرسة (أخبار اليوم) تعد نقطة تحول في تاريخ الصحافة في مصر والعالم العربي»، حسب وصف الكاتبة الصحافية نوال مصطفى، التي تقول لـ«الشرق الأوسط»: «إن الصحافة الخبرية أو (التلغرافية) في مصر قد صُنعت على أيدي التوأم مصطفى وعلي أمين، تأثراً بالصحافة الأميركية عبر (أخبار اليوم)، فقبلها كانت الصحافة هي صحافة المقالات الطويلة التي تنشر حتى في الصفحة الأولى، ولم تتوقف يوماً عن نشر (الخبطات الصحافية)، بل كانت تشارك في صنع الأحداث، الأكثر من ذلك كانت تعمل على أن يكون للقرّاء صوت مسموع في بعض القضايا العامة».
وتتابع نوال، وهي واحدة من التلاميذ المقربين لمصطفى أمين: «لم أعاصر علي أمين، لكن أستاذنا مصطفى حكى لي أن الكاتب الساخر الكبير الراحل أحمد رجب عندما التحق صحافياً شاباً بالدار، أعطاه علي أمين مقالاً كبيراً من نحو ثلاث صفحات، وطلب منه أن يختصره في ثلاثة أسطر فقط!، وبالفعل نجح رجب ليصبح هذا الاختبار منذ ذلك الوقت هو المقياس الذي اعتمدته الدار طويلاً لقبول أي صحافي للعمل، ترسيخاً لمبدأ العبارات القصيرة في الكتابة الصحافية».
بجانب الصحافة التلغرافية أو الخبرية قدمت «أخبار اليوم» أيضاً، الصحافة الخدمية أو الإنسانية وثيقة الصلة بالشارع والناس، التي لا تقتصر مهمتها فقط على الإعلام أو الإخبار أو المعلومة، حيث نجح الأخوان في تحقيق ذلك عبر ابتكار الأبواب والأفكار الإنسانية والاجتماعية، ومنها «ليلة القدر»، و«لست وحدك» و«عيد الأم» و«عيد الحب» و«أسبوع الشفا» و«نفسي».
وبعد نجاح جريدة «أخبار اليوم» الأسبوعية، أصدر الأخوان جريدة «الأخبار» اليومية سنة 1952، وأُممت المؤسسة مثل بقية الصحف المصرية في عام 1960، وتضم «دار أخبار اليوم» صحف «الأخبار، وأخبار الرياضة، ومجلة آخر ساعة، وجريدة أخبار الرياضة، ومجلة أخبار النجوم، وجريدة أخبار الأدب، وكتاب اليوم، وجريدة أخبار الحوادث، وجريدة أخبار السيارات، ومجلة الأطفال بلبل، والمسائية».
عندما أبكاني مصطفى أمين
ولم ينطلق الاهتمام بهذا الاتجاه من رغبتهما في تحقيق شعبية واسعة بين القراء بقدر ما كان الأمر جزءاً من إنسانيتهما المفرطة، وفق مصطفى التي تضيف: «حكى لي الكاتب مصطفى أمين أن باب (نفسي) وهو باب يعنى بتحقيق أمنيات الأطفال، توصل علي أمين إلى فكرته، بسبب أنهما عندما كانا صغيرين حلما طويلاً باقتناء دراجتين، إلا أن أمهما كانت تخاف عليهما من السقوط، ومن هنا عرفا إلى أي حد يكون افتقاد الصغير لشيء ما موجعاً، ويسرق لحظات غالية من الطفولة».
ومن المفارقات، أن هذا الباب الذي كانت تتولى نوال مسؤوليته إلى جانب باب «لست وحدك» كان سبباً في بكائها ذات يوم حين عنفها مصطفى أمين بشدة: «أتذكر أنني ارتكبت خطأ ذات يوم بحسن نية، وذلك عندما طلب مني سائق سيارة بـ(دار أخبار اليوم) دراجة لابنه، لأنه يحلم بها، فوضعته ضمن الحالات الإنسانية، وفوجئت به في اليوم التالي يعنفني بشدة وبشكل غير مسبوق، إلى حد البكاء، وقال لي إن هذه العطايا موجهة للقراء وليس للعاملين، وعندما حاولت إقناعه بأنه رجل بسيط وتندرج حالة ابنه ضمن الفئة التي نخدمها، غضب وقال إن هناك معايير ينبغي الالتزام بها، واستخرج من جيبه ثمن الدراجة، وطلب مني أن أدخله خزينة (ليلة القدر)».
وتتابع مصطفى: «بسبب هذه المعايير اكتسبت (أخبار اليوم) مصداقية عالية لدى المتبرعين، إلى حد أنه حين كان يكتب أمين في عموده (فكرة) أن معهد القلب على سبيل المثال يحتاج إلى مليون جنيه، فإنه قبل الساعة العاشرة صباحاً يأتي من يطلب مقابلته موضحاً أن الحقيبة التي في يده بها المبلغ المطلوب».
وتتعدد الصور والمشاهد الثرية اليومية المرتبطة بمكتب مصطفى أمين بالطابق التاسع، فلكم كانت متعة حقيقية أن تتابعه أثناء بث الأمل والحماس في نفوس المحررين، أثناء حواراته مع نجوم المجتمع والفن، أو أثناء الكتابة بقلمه الذي يتخذ شكل الريشة وهو يغمسه في الحبر بينما يحتضن بيده اليسرى الورق، وتتحرك شفتاه كأنه يهمس للورق، وتنساب الكلمات عليها دفقة واحدة دون توقف، بينما يسلّم أعضاء السكرتارية في الغرفة الملحقة بمكتبه، نحو 500 رسالة يومياً، يرفقون بناءً على تعليماته ملخصاً صغيراً بها، ليطلع على ملخصات كل الرسائل بلا استثناء، ويتخذ اللازم تجاهها». وتتذكر الكاتبة القديرة نوال مصطفى أيضاً، أنيس منصور، وإحسان عبد القدوس، وأحمد بهاء الدين، وغيرهم من الذين لم ينكروا يوماً فضل «أخبار اليوم» عليهم، رغم عملهم في مراحل لاحقة بصحف أخرى، وتصف موسى صبري بـ«صنايعي الصحافة»، الذي كان يستطيع بنظرة واحدة عند عرض البروفة عليه أن يستخرج أي خطأ في الصفحة ويصححه، وتتذكر: «اختلفت معه ذات يوم بسبب تبني موقف مخالف لرأيه، وفوجئت أنه يفصل بين الخلاف الشخصي وبين العمل، حين منحني مكافأة فورية على موضوع صحافي أعجبه، يومها أدركت كم أنه صحافي كبير ويستحق الاحترام».
أمّا إذا كنت قد زرت الدار أواخر الثمانينات فإنك حتماً كنت ستسأل عن سر المكتب المكتظ بالصحافيين من مختلف المؤسسات الصحافية، لتصلك الإجابة «جلال الدين الحمامصي»، وتقول عنه نوال: «هو الدقة المتناهية والكتابة المسؤولة، والضمير الحي، ومدرسة المبادئ الصحافية التي تؤمن بأن تخسر سبقاً أفضل من أن تخسر احترامك لنفسك واحترام المصدر للأبد».
وبجانب هذه الدروس الصحافية والمهنية التي شكلت نهجاً راسخاً للأجيال المتعاقبة في «أخبار اليوم»، فإنه أيضاً كانت هناك روابط اجتماعية وإنسانية دافئة تربط جميع العاملين بها في وقت مبكر من تاريخ الصحافة المصرية، فمنذ بداية عمل «أخبار اليوم» كنت تستطيع أن تمد يديك لتشارك العمالقة مصطفى وعلي أمين أو إحسان عبد القدوس وأنيس منصور ورخا وبيكار وغيرهم، وهم يتناولون الحمام أو السمان أو البط المحشو بالأرز في إحدى ولائم الساخر الشهير كامل الشناوي، وقد تستكمل ما بعد تناول الطعام الاستماع إلى حكاياته التي لا تنتهي عن قصص الحب، والجميلات في حياته. كما أنك كنت تستطيع أن تشارك مجموعة من الصحافيين والأدباء الشباب، ومنهم الكاتبة مي شاهين، التي كانت تراقب الأديب توفيق الحكيم في مكتبه وهو يهز عصاه، ويدب بقدمه دبة خفيفة على الأرض، ثم تستمع إليه وهو يحكي عن المقلب الذي دبره له الأخوان أمين، متذمراً من اختبارهما له في إمكانية تحوله من أديب إلى صحافي، عبر ترتيب رحلة سفر إلى الأقصر وأسوان له لإجراء موضوع صحافي ميداني، واصفاً ذلك بـ«المؤامرة» ضده، ثم يفاجئك بقبوله التحدي، لتراقبه بعد عودته منتصراً، وتنتظر في شغف انتهائه من كتابة هذه «المغامرة» التي يمكنك التعرف على نتيجتها لو عدت الآن إلى الصفحة الرابعة من العدد رقم 60 في 29 ديسمبر (كانون الأول) 1945 ستجد مقاله تحت عنوان «توفيق الحكيم في الأقصر». وقد تستعيد مع الكاتب الصحافي محمد درويش مدير تحرير «الأخبار»، موقفاً جريئاً في بداية حياته الصحافية، حين اتصل بمصطفى أمين ليصحح له معلومة في مقال «فكرة» اكتشفها قبل النشر، فإذا بأمين يقبل التعديل المطلوب ويشكره، ويعلق درويش لـ«الشرق الأوسط»: «هكذا منحنا عملاق الصحافة درساً لا ننساه في (أخبار اليوم)، عن الاعتراف بالخطأ وقبول التصحيح حتى لو كان من محرر شاب».
اجتماع الساخرين
هناك مكانان في «أخبار اليوم»، من المستحيل أن يسمح لك باختراقهما أو الاقتراب منهما في توقيت معين... المكان الأول كما يروي الرسام الكاريكاتوري عمرو فهمي لـ«الشرق الأوسط» هو، «مكان اجتماع الساخرين بمكتب مصطفى أمين بالطابق التاسع، وهو الاجتماع الذي كانت توضع فيه أفكار الكاريكاتير، فقد كانت مدرسة (أخبار اليوم) تحتفي بهذا الفن إلى حد أن تعقد له اجتماعاً يوم الأربعاء من كل أسبوع، وتعتبر الأفكار التي تُطرح فيه بمثابة أسرار حربية»، وكان يشارك فيه الأخوان أمين وكامل الشناوي، وجليل البنداري والكاتب الساخر محمد عفيفي والرسامان صاروخان ورخا».
أما المكان الآخر فهو الغرفة 53 بالدور الأول، وفق فهمي الذي أضاف قائلاً: «هي غرفة العظماء الذي انتقل إليها أحمد رجب بعد توفيق الحكيم، وكامل الشناوي وأنيس منصور، وحكى الكاتب الساخر الكبير الراحل أحمد رجب لي أنه في اليوم الأول له في العمل نقل مكتبه ليصبح في مكان جانبي بالغرفة، بدلاً من مقدمتها للحصول على المزيد من الهدوء والتركيز، إلا أنه وجد نفسه عاجزاً عن الكتابة، وبقي هكذا أياماً عدة حتى توصل إلى السبب وهو اكتشافه أنه نقل المكتب، حيث كان يربط الحكيم حماره بجواره! ولذلك أعدت المكتب مكانه».
وهكذا كان رجب يتمتع بأسلوب ساخر في حكيه، لكنه كان جاداً للغاية في الوقت نفسه، ومنشغلاً دوماً بكتاباته وأفكاره الكاريكاتورية إلى حد أنه كان ممنوعاً تماماً أن يتوجه إليه أي شخص مهما كانت مكانته، فقد كان ذلك هو المكان الثاني بالمؤسسة المحظور على الجميع أثناء العمل الدخول إليه، كما كان قارئاً نهماً فلم يحقق نجاحه من خفة ظله وقدرته على الإيجاز وحدهما، إنما استناداً أيضاً إلى مرجعيات ثقافية واسعة وعميقة، وفق فهمي.
ويواصل فهمي حكاياته مع صاحب مقال «نص كلمة»: «عند تكليفي رسم الكاريكاتير فوجئت بأنه يطلب كتابة اسمي بـ(الحجم) نفسه الذي يُكتب به اسمه، ويوم موافقة رئيس وزراء مصر عاطف عبيد على حضور معرضي (فلاح كفر الهنادوة)، قرر رجب التغيب موضحاً لي: (في حالة وجودي سينشغل رئيس الوزراء بي وسيسلط الإعلام أضواءه عليَ، في حين أنه معرضك أنت، ولا بد أن تأخذ فرصتك للشهرة)».
ومن أحمد رجب إلى توأمه الفني مصطفى حسين، يروي لنا تلميذه الفنان طارق عبد العزيز جوانب أخرى من الأسرار والذكريات التي تُعد جزءاً من نجاح الدار: «في بداية عملي مع أستاذي مصطفى حسين كنت متواجداً بالمصادفة أمام المؤسسة ففوجئت به يترك سيارته وسائقه في وسط شارع الصحافة، ويجري باتجاه الدار، فاندهشت وبعد انتهاء اجتماعه مع أحمد رجب سألته قلقاً عن السبب، فقال لي لأن رجب يوقّع عليه غرامة مالية عن كل دقيقة تأخير عن موعد الاجتماع، وهو الثانية عشرة ظهراً، وتُوجّه إلى باب (ليلة القدر). لقد كان مصطفى فناناً لا يلتزم بقواعد ثابتة وصارمة على العكس من أحمد رجب، ومثلما كان الإيجاز هو ما يميز الكتابة كذلك كان الأمر في الرسم، فكان يعلمني دوماً ضرورة الاعتماد على أبسط الخطوط وأقل العناصر الفنية في اللوحة».
ويؤكد طارق أن العلاقة بين رجب وحسين كانت ذات خصوصية إلى حد أن أحمد أقسم أنه لن يكتب بعد رحيل مصطفى حسين، وهو ما تحقق بالفعل.