روسيا تكسر «الأحادية القطبية» في العالم... وتوسع المواجهة مع الغرب

عززت مواقعها إقليمياً ودولياً في 2019... وسوريا «بوابة العبور» إلى الشرق الأوسط

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أثناء لقائه مع نظيره الأميركي دونالد ترمب في العاصمة الفنلندية هلسنكي في يوليو الماضي (رويترز)
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أثناء لقائه مع نظيره الأميركي دونالد ترمب في العاصمة الفنلندية هلسنكي في يوليو الماضي (رويترز)
TT

روسيا تكسر «الأحادية القطبية» في العالم... وتوسع المواجهة مع الغرب

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أثناء لقائه مع نظيره الأميركي دونالد ترمب في العاصمة الفنلندية هلسنكي في يوليو الماضي (رويترز)
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أثناء لقائه مع نظيره الأميركي دونالد ترمب في العاصمة الفنلندية هلسنكي في يوليو الماضي (رويترز)

قبل أيام من حلول نهاية عام 2019، واجه الرئيس فلاديمير بوتين سؤالاً حول العلاقات الدولية لبلاده، ورد بثقة أن بلاده نجحت في «كسر الأحادية القطبية، وإطلاق عملية بلورة ملامح نظام دولي جديد متعدد الأقطاب».
تلك العبارة كررتها روسيا كثيراً في السنوات الماضية، لكن الجديد فيها أن سيد الكرملين أعقب جملته بتأكيد أن «العالم متعدد الأقطاب غدا واقعاً لا يمكن إنكاره»، رغم محاولة بعض القوى إظهار هيمنتها على السياسة العالمية.
تنطلق روسيا وهي تودع عاماً ثقيلاً معقداً، على صعيد سياساتها الداخلية والخارجية، من قناعة بأنها نجحت خلال 2019 في استكمال عملية تطويق محاولات تهميش دورها، وعزلها سياسياً واقتصادياً، وبأن حضورها على المشهد الدولي بات راسخاً، و«لا يمكن التعامل مع أي ملف إقليمي أو عالمي من دون أخذ وجهة نظر موسكو بعين الاعتبار».
ومع أن التعقيدات التي تواجه الكرملين داخلياً زادت خلال هذا العام، فإنه حتى خصومه يقرون بأنه نجح على الصعيد الخارجي في تكريس الواقع الجديد.
وعلى الصعيد الإقليمي في الفضاء السوفياتي السابق، لم تقتصر نجاحات الكرملين على تهميش أدوار القوى التي كانت تشكل رأس الحربة لمواجهة تطلعات روسيا في محيطها، إذ تمكن من تفتيت محاولات إقامة جبهة تضم أوكرانيا وجورجيا ومولدافيا، وهي البلدان التي تطلعت بشكل أو بآخر للتخلص من الهيمنة الروسية، وإقامة علاقات بديلة مع حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي.
وفي أوكرانيا، أسفرت خسارة الخصم اللدود للرئيس فلاديمير بوتين مقعد الرئاسة، في انتخابات وصفت بأنها كانت «انتقامية» من طبقة الأوليغارشية الحاكمة في البلاد، عن سعي كييف في ظل السلطة الجديدة لإعادة ترتيب أولوياتها لمواجهة الأزمات المستعصية. وفور تسلم الرئيس فلاديمير زيلينسكي الذي يفتقر إلى الخبرة السياسية مقاليد السلطة، وجد نفسه أمام استحقاقات مواجهة الوضع الاقتصادي المتفاقم، والفوضى الإدارية والفساد، فضلاً عن مشكلة الأقاليم الانفصالية في شرق وجنوب البلاد. ورغم أنه حصل على وعود كثيرة من جانب الغرب لتعزيز موقفه في مواجهة سياسات الكرملين، فإن هذه الوعود ظلت شفهية، فيما تحتاج أوكرانيا لنحو 20 مليار دولار بشكل عاجل لمعالجة مشكلاتها. على هذه الخلفية، لم يعد الحديث عن القرم «المحتل» من جانب روسيا إلا جزءاً من أدبيات النخبة السياسية الأوكرانية، بينما اضطرت كييف للقيام بخطوات لتأكيد التزامها باتفاقات مينسك للتهدئة، مما جعلها تواجه خطر انفجار ثورة جديدة في الشارع، بعدما اتهمت بأنها «تحاول الاستسلام أمام بوتين».
لم تقل «انتصارات» بوتين أهمية في جورجيا ومولدافيا، وسط تناحر القوى الداخلية وانشغالها بمشكلاتها. أما على صعيد الجمهوريات السوفياتية السابقة الأخرى، فشكلت عنصر قوة بيد الكرملين، من خلال إعلان تأييدها الكامل لسياسات موسكو الخارجية، وتضامنها الكلي في ملف العقوبات الغربية المفروضة على موسكو.
وحملت سياسة روسيا الأوروبية ملامح مماثلة أثارت ارتياحاً أوسع لدى الكرملين الذي كان (ولا يزال) متهماً في سنوات سابقة بأنه يقف وراء تشجيع نزعات الشوفينية والقوى الأكثر تشدداً في أوروبا، وبأنه يعمل على تقسيم القارة الأوروبية، إذ لعبت التطورات الداخلية في أوروبا، لجهة تزايد استياء بلدان أوروبية مثل فرنسا وألمانيا من الضغوط الأميركية المتزايدة على القطاع الاقتصادي وقطاع إمدادات النفط والغاز من روسيا، لصالح الكرملين. بعدما تزايد الشعور الأوروبي بأن خسائر بلدان الاتحاد من التضييقات المتواصلة على موسكو تزداد، وأن أوروبا تدفع عملياً ثمن المواجهة التي تفرضها أطراف في الإدارة الأميركية، وبعض الأطراف الأوروبية التي تحولت إلى «رأس حربة» في تنفيذ السياسات الأميركية ضد روسيا في القارة الأوروبية، مثل بولندا ورومانيا. لذلك قابلت موسكو بارتياح مبادرات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لفتح الحوار مع موسكو، وهو أمر لقي دعماً من جانب المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل.
ولم توفر موسكو أي وسيلة لتعميق الانقسام حول هذا الموضوع في البيت الأوروبي، ووجدت في ملف الأمن الاستراتيجي قوة دفع أساسية في هذا الاتجاه، بالتوازي مع ملف العلاقات الاقتصادية وإمدادات الطاقة، إذ وفر تقويض معاهدة الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى، والتلويح باحتمال عدم تمديد معاهدة «ستارت» لتقليص الأسلحة الاستراتيجية، عنواناً أساسياً للحديث عن أن «المواجهة إذا حصلت، فسوف تكون في المدن الأوروبية». وذهبت أبعد من ذلك، عبر إعلانات وزارة الدفاع المتتالية عن توجيه القوة الصاروخية الضاربة نحو مواقع في مدن في أوروبا قد تنشر فيها واشنطن أسلحة كانت حتى الأمس القريب محظورة بموجب المعاهدة المنتهية.
صحيح أن الكرملين ما زال متهماً في أوروبا، خصوصاً في بريطانيا، بأنه يعمل على إثارة المشكلات الداخلية، والتدخل في الانتخابات، وملاحقة خصومه ومحاولة قتلهم في العواصم الأوروبية، لكن المحصلة التي أسفر عنها عام 2019 أن الدعوات إلى فتح الحوار مع موسكو باتت أكثر قوة ووضوحاً، مقارنة بالسنوات الثلاث الماضية.
ومع حلول نهاية العام، يقوم الرهان في موسكو على أن مساعي «بعض الأطراف الأميركية» لتكريس هاجس «العدو الروسي» لم تعد تجد قبولاً في كثير من البلدان. ومع أن موسكو تشعر بخيبة أمل لأن الرئيس الأميركي دونالد ترمب فشل في تحقيق الجزء الأكبر من وعوده الانتخابية، بفتح الحوار وتطبيع العلاقات مع موسكو، فإن أوساطاً روسية لا تخفي الثقة بأن ترمب سوف يخرج منتصراً من معركة عزله، وسوف يكون قادراً على تثبيت سياسته تجاه موسكو خلال ولايته الرئاسية الثانية.
ومع هذا التفاؤل بنجاحات الكرملين في كسر العزلة الدولية، والانطلاق نحو تطبيع العلاقات تدريجياً مع أطراف عدة، فإن موسكو تضع بين خياراتها «السيناريو الأسوأ»، المتمثل في نجاح الصقور في الولايات المتحدة وبعض بلدان القارة الأوروبية في تعزيز مسار استكمال تطويق روسيا عسكرياً. ويرى خبراء أن نتائج القمة الأطلسية الأخيرة حملت إشارات سلبية في هذا الاتجاه. لذلك تواصل موسكو التلويح بقدراتها العسكرية في مواجهة الضغوط الخارجية. وجاء الإعلان قبل أسابيع من حلول نهاية العام عن تطوير شبكة رصد وإنذار مبكر سيتم نشرها على طول الحدود الروسية ليشكل عنصر ضغط إضافي يوضح حجم الاستعدادات الروسية لمواجهة التطورات في محيطها.
لكن الوجه الثاني المهم في هذا الإعلان أن موسكو ستعمل لمساعدة الصين على تطوير شبكة مماثلة. ووفقاً للرئيس الروسي، فإن «الصين قادرة لوحدها على إنشاء شبكة رصد شاملة، لكن التعاون الروسي - الصيني هنا يعكس مستوى الحرص لدى البلدين على مواجهة التحديات المشتركة».
والعلاقة مع الصين التي احتلت هذا العام مكان الاتحاد الأوروبي، كشريك تجاري أول لموسكو، بحجم تبادل بلغ 100 مليار دولار، لم تعد منذ وقت طويل تقتصر على العلاقة الاقتصادية والتجارية من وجهة نظر صناع القرار الروس، بل تعدت ذلك إلى شراكة استراتيجية شاملة، تنطلق من تطابق المواقف حيال رسم ملامح النظام الدولي إلى التوافق على آليات التعامل مع المشكلات الإقليمية والدولية المختلفة، وصولاً إلى العنصر المهم الذي وفرته «سياسة العقوبات الأميركية» التي طالت الطرفين، لتؤسس لإطلاق آليات مشتركة لمواجهتها.
ورغم أن موسكو تعلن أنها لا تسعى لتأسيس «تحالف عسكري» مع الصين، فإنها تربط تحركاتها مع بكين بتطور الموقف على الجهة المقابلة، لذلك كان لإعلان بوتين أن بلاده «تراقب بناء تحالف يضم الولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية» أهمية خاصة في تأكيد أن موسكو وبكين تنطلقان من مواقف مشتركة لمواجهة التحركات الأميركية في شرق آسيا.

العبور من «البوابة السورية»
واصلت موسكو خلال عام 2019 حصد نتائج تدخلها المباشر في الحرب السورية في نهاية سبتمبر (أيلول) من عام 2015. ومع التأكيد أكثر من مرة على أن العمليات العسكرية الواسعة في سوريا قد انتهت، فإن تعقيدات الملف السوري ما زالت تمثل التحدي الأساسي بالنسبة إلى روسيا، إذ حملت مجريات العام تطورات واسعة ارتبطت بتناقض المواقف الأميركية حول موضوع الانسحاب من سوريا، وصولاً إلى تثبيت واشنطن وجوداً محدداً، لكنه مقلق بالنسبة إلى موسكو، في منطقة شرق الفرات. ووجدت موسكو نفسها أمام استحقاق أنها نجحت في إعادة الجزء الأكبر من الأراضي السورية إلى سيطرة دمشق، لكنها تبدو عاجزة عن التعامل مع مشكلة بقاء الجزء الذي يشتمل على غالبية الثروة السورية تحت السيطرة الأميركية، مما يعني عرقلة كل مشروعات روسيا لدفع ملف إعادة الأعمار، وإعادة اللاجئين، وتكريس المسار السياسي بشكل يوافق هوى الكرملين.
وبالتزامن مع هذه المشكلة، وجدت موسكو نفسها منخرطة في مواجهة طموحات الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في الشمال السوري. وكان التوصل إلى اتفاق سوتشي في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي إنجازاً مهماً للكرملين، لأنه ضمن عدم انزلاق الوضع نحو مواجهة شاملة، كما ضمن وقف التوغل التركي في الأراضي السورية، والاكتفاء بقبول سيطرة أنقرة على شريط يمتد من تل أبيض إلى رأس العين، مع تعهد تركي بالانسحاب من هذه المنطقة فور إنجاز التسوية السياسية.
في هذا الاتفاق، برزت الصعوبات الجدية لدى موسكو في التعامل مع ملف إدارة التوازنات بين الأطراف المختلفة، وهو أمر برز أيضاً في التعامل مع الضربات الإسرائيلية المتواصلة على الأرض السورية، ومع ملف الوجود الإيراني في سوريا. ورغم هذه التعقيدات، نشطت موسكو تحركاتها في سوريا خلال عام 2019 على محورين: الأول الحصول على أكبر قدر ممكن من العقود والاتفاقات المجزية للشركات الروسية، وفيه تم توسيع الحضور الروسي تجارياً واقتصادياً إلى مشروعات البنى التحتية والطرق والإنشاءات والصناعات، وصولاً إلى السيطرة على ميناء طرطوس، والبدء بالعمل على توسيعه وتحديثه لخدمة البضائع والتجارة عبر الشركات الروسية. كل هذا جرى على حساب التطلعات الإيرانية لشغل حصة أساسية في هذه المشروعات. العنصر الثاني تمثل في توسيع رقعة الوجود العسكري. ومع الانسحاب الأميركي من مناطق في الشمال، حلت القوات الروسية في عدد من القواعد الجوية المهمة، وبدأت بإجراء إصلاحات وتحديثات فيها توحي بنية موسكو الإقامة فيها طويلاً.
وفي الشق الآخر للوجود الروسي في سوريا، واصلت موسكو حصد النتائج على صعيد تعزيز علاقاتها وحضورها الإقليمي. وخلافاً لتوقعات سابقة بأن وجود موسكو العسكري قد يثير ضدها مشاعر استياء في العواصم العربية، فقد ساهم الوجود العسكري في سوريا بتعزيز مسار الانفتاح الإقليمي على موسكو، من خلال الفهم المتزايد للأطراف العربية المؤثرة بأنه لا بديل عن التفاهم مع موسكو على الترتيبات اللاحقة في سوريا والمنطقة. وكذلك في إطار القناعة بضرورة البحث مع موسكو عن سبل لمواجهة الطموحات الإقليمية الإيرانية.
وفي هذا الإطار، جاءت الزيارات واللقاءات على مستوى القمة التي عقدت خلال عام 2019 بين موسكو وعواصم عربية لتكرس الرؤية بأن الطرفين يعملان على تعزيز التعاون في كل المجالات. وبرز ذلك خلال زيارة الرئيس الروسي إلى كل من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، كما برز من خلال تنظيم أول قمة روسية أفريقية، شارك فيها تقريباً كل زعماء القارة، وبينهم زعماء البلدان العربية الأفريقية. وشجعت هذه الأجواء موسكو على توسيع حضورها في ملفات مثل الأمن في منطقة الخليج، لذلك طرحت موسكو رؤية بديلة للطرح الأميركي حول آليات ضمان أمن الملاحة، وسبل تعزيز الوضع في المنطقة، عبر إطلاق حوار خليجي - إيراني. ورغم أن المبادرة الروسية لم تجد ارتياحاً واسعاً في المنطقة، لأنها تجاهلت سياسات طهران الإقليمية، والتدخل الإيراني في شؤون بلدان المنطقة، فإن موسكو ما زالت ترى فيها أساساً لإطلاق حوار بين الأطراف في المنطقة.


مقالات ذات صلة

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

حصاد الأسبوع شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت

فاضل النشمي (بغداد)
حصاد الأسبوع ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة

راغدة بهنام ( برلين)
حصاد الأسبوع شيل

ألمانيا... الحزب الديمقراطي الحر «شريك الحكم» شبه الدائم

مع أن «الحزب الديمقراطي الحر»، الذي يعرف في ألمانيا بـ«الحزب الليبرالي»، حزب صغير نسبياً، مقارنةً بالقطبين الكبيرين «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (المحافظ)

«الشرق الأوسط» (برلين)
حصاد الأسبوع لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ

رائد جبر (موسكو)
حصاد الأسبوع يأتي انتخاب «عرّو» في وقت حرج لإقليم أرض الصومال لا سيما مع تحديات استمرار رفض مقديشو توقيع الإقليم مذكرة تفاهم مع إثيوبيا

عبد الرحمن محمد عبد الله «عرّو»... دبلوماسي يقود «أرض الصومال» في «توقيت مصيري»

حياة مغلفة بـ«هم الاستقلال»، سواءً عن المستعمر القديم في السنوات الأولى، أو تشكيل «الدولة المستقلة» طوال فترتَي الشباب والشيخوخة، لم تثنِ عبد الرحمن محمد عبد

محمد الريس (القاهرة)

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».