الفنانة السودانية نانسي عجاج تطرب الرياض في ليلة «سودان المحبة»

كشفت عن عمل فني تراثي مستمد من تنوع وثراء البلاد

الفنانة السودانية نانسي عجاج أثناء مشاركتها في ليلة «سودان المحبة بالرياض» (تصوير: بشير صالح)
الفنانة السودانية نانسي عجاج أثناء مشاركتها في ليلة «سودان المحبة بالرياض» (تصوير: بشير صالح)
TT

الفنانة السودانية نانسي عجاج تطرب الرياض في ليلة «سودان المحبة»

الفنانة السودانية نانسي عجاج أثناء مشاركتها في ليلة «سودان المحبة بالرياض» (تصوير: بشير صالح)
الفنانة السودانية نانسي عجاج أثناء مشاركتها في ليلة «سودان المحبة بالرياض» (تصوير: بشير صالح)

نانسي عجاج، صوت فني سوداني، ترعرعت في أوروبا، وتتميز بلمسة فنية نسائية ساحرة، ورثتها من أسرتها الفنية، إذ تفتّحت منذ بواكير الطفولة على سماع الموسيقى، ما أسهم في نضجها الفني، وظلّت تحافظ على الأداء السوداني، رغم أنّها تستمع كثيراً للموسيقى العربية والغربية وموسيقى الشعوب الأخرى، حيث تُعدّ مدينة هارلم الهولندية، موقع انطلاقة نانسي الفنية الأولى.
تألقت عجاج، منذ سنوات في عالم الغناء، وساعدها صوتها العذب، وقدرتها الأدائية لأغنيات عمالقة الفن، أمثال إبراهيم الكاشف في أغنيته «ظلموني الناس»، وعثمان حسين في أغنيته «مسامحك يا حبيبي» للشاعر السر دوليب، وإبراهيم عوض في أغنيته «يا زمن» للشاعر إبراهيم الرشيد، وسيّد خليفة في أغنيته «خطوة وخطوة» وآخرين، في الوصول بسرعة الصاروخ إلى قلوب عشّاق الفن الأصيل، قبل أن تشق طريقها إلى النجومية بإنتاجها الخاص خلال الخمسة أعوام الأخيرة.
الفنانة عجاج، عبرّت بسعادتها بالمشاركة في ليلة «سودان المحبة»، بدعوة من «هيئة الترفيه» السعودية بالرياض، مع كل الموسيقار محمد الأمين، والفنان الشاب حسين الصادق، حيث برز ذلك في شكل التفاعل الجماهيري مع الحفل، باعتبار أنه لأول مرة تتم دعوة سعودية رسمية لفنانين سودانيين لإقامة حفل في المملكة، في إطار العمل الترفيهي الذي تبشّر به «هيئة الترفيه» السعودية، بطريقة لائقة، وبذلك قدمت خدمة كبيرة جداً للجالية السودانية ذات الحجم الكبير، بجانب أنه شكل من الاهتمام والالتفات إلى أهمية الفن السوداني ضمن خريطة الفن في المنطقة العربية.
عجاج قالت: «ليلة (سودان المحبة)، كانت وستظلّ محل تقدير ومبعث سعادة للجالية السودانية، وفي الرياض تحديداً، حيث تركت أثراً طيباً لدى الجميع، إذ إن الجمهور السوداني كان، وما زال، يتفاعل مع المفردات والأغاني والموسيقى السودانية الخالصة، بشكل كبير، ويحفظها ويؤديها مع المغني».
وزادت: «أنا سعيدة بهذه المشاركة، وبحضور الموسيقى السودانية في (مسرح الرياض)، حيث شكلت لي ليلة (سودان المحبة)، فرصة كبيرة جداً، لألتقي مع الجمهور السوداني في أرض المملكة، ومن خلال (منصة الرياض)، توفرت لدينا إمكانية تقديم شكل من أشكال الموسيقى السودانية للشعب العربي، من خلال هذه المنصة، لنؤكّد تنوع وثراء السودان، لا سيما أن الفنون والموسيقى رسائل تواصل على مستوى عالمي».
وأضافت: «أعتقد أن الموسيقى لغة عالمية الجميع يُطرَب لها حتى من دون أن نفهم لغة الأغنية ومفرداتها؛ إذ ليس السلم الخماسي الذي تتميز بها الأغنية السودانية ولا المفردات السودانية حاجزاً دون الوصول إلى أذن المستمع، سواء أكان في المنطقة العربية أو الأفريقية أو العالم الآخر».
وعزت عجاج أسباب غياب الأغنية السودانية في العالم العربي، بعد أغنيات سيد خليفة كـ«المامبو السوداني»، وأغنية «أزيّكم كيفنكم»، أو أغنية الفنان خلف الله حمد «الترلة»، إلى أسباب بعضها يتعلق بالفنان نفسه، ومنها يتعلق بقصور الإعلام الداخلي والخارجي، ومنها العالم العربي، الذي تعتقد أنه تجاهل الاستماع لأغنيات سودانية من السلم الخماسي، وتركيزه على أغنيات السلم السباعي.
وعن طريقة تعاطيها مع الأغنيات التي تختارها، تقول عجاج: «ترتكز طريقتي في اختيار أغنياتي الخاصة، على الكلمة الرصينة والقيم النبيلة، فمتى ما وقعت في يدي أغنية تحمل هذه المعاني، أقوم على تلحينها وتوزيعها الموسيقي، وعندما تنضج أداء ولحناً تكتمل مع الكلمة، ويخرج العمل، كما هو الحال في أغنياتي الخاصة التي أرددها حالياً في الحفلات».
وأضافت: «منذ عام 2015. قررت شقّ طريقي وتقديم نفسي من خلال أغنياتي الخاصة، حيث أصبح هناك تركيز كبير جداً على الإنتاج الخاص، وبالفعل أنتجت عدداً كبيراً من الأعمال الخاصة، ولكن حفل (سودان المحبة) بالرياض، أحببت أن يكون فيه خليط وتنوع من الأغنيات التي تجمع السودانيين كأغنية خليل فرح (عازة في هواك) وأخرى، ولكني حالياً أركز على إنتاجي الخاص، مع أداء بعض أغنيات العمالقة التي أؤديها بعشق لمعجبيها، شريطة ألا تكون عامل اعتماد على الغير بقدر ما تكون زاداً فنياً يلهمني بين الفينة والأخرى».
ولفتت عجاج إلى قضية تؤرق الفنانين السودانيين، ابتداء من اتحاد المهن الموسيقية، الذي من المفترض أن يحلّ، والذي يعجّ بالعديد من المشكلات، من بينها علاقته مع أعضاء هذا الكيان، من حيث الإدارة: «أنا حالياً أعاني من أنني لا أجد مكاناً يسع جمهوري من المستمعين الذين يفوقون السبعة آلاف في الخرطوم، إلا في مكانين أو ثلاثة فقط، أو أمشي إلى الاستادات، حقيقة لدينا مشكلة تسهيلات، نحتاج للمسارح».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)