موريتانيا 2019... عام من التناوب والصدام

ميزه صراع داخل دهاليز الحكم و«حالة طوارئ غير معلنة»

الرئيس  الجديد ولد الغزواني (أ.ف.ب) - الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز (أ.ف.ب)
الرئيس الجديد ولد الغزواني (أ.ف.ب) - الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز (أ.ف.ب)
TT

موريتانيا 2019... عام من التناوب والصدام

الرئيس  الجديد ولد الغزواني (أ.ف.ب) - الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز (أ.ف.ب)
الرئيس الجديد ولد الغزواني (أ.ف.ب) - الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز (أ.ف.ب)

كان 2019 عاماً ترقبه الموريتانيون بفارغ الصبر لأنه حمل الإجابة عن سؤال ديمقراطي أرَّقَهم كثيراً، يتعلق بمدى التزام الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز بنص الدستور، وهو الذي وصل إلى الحكم في آخر انقلاب عسكري تشهده موريتانيا (2008)، لكنه سرعان ما نظَّم انتخابات فاز بها عام 2009. ومع نهاية ولايتين رئاسيتين يمنحهما له الدستور (مدة كل منهما خمس سنوات)، كان جميع الموريتانيين يتساءلون إن كان الرجل سيلتزم بالدستور ويخرج من الباب الكبير، وهو ما حدث بالفعل شهر يونيو (حزيران) الماضي، حين سلم السلطة لصديقه ورفيق السلاح محمد ولد الغزواني. لكن عملية التناوب السلمي على السلطة، التي احتفى بها الموريتانيون، سبقتها مطبات بالجملة، وأعقبها صراع داخل دهاليز الحكم، وحدثت في أوج «حالة طوارئ غير معلنة».
بدأت القصة منتصف شهر يناير (كانون الثاني) الماضي، عندما كان موعد الانتخابات الرئاسية على الأبواب (بعد 6 أشهر فقط)، حيث قدَّم مجموعة من نواب حزب «الاتحاد من أجل الجمهورية» الحاكم عريضة تطالب بإعادة كتابة دستور البلاد عبر البرلمان، وقَّع عليها أكثر من مائة نائب (مجموع عدد نواب البرلمان 151 نائباً). وقال أحد الموقعين إن الهدف منها هو «كسر الموانع الدستورية لتقدم الرئيس (ولد عبد العزيز) لولاية ثالثة»، كما نظمت في الأيام ذاتها مهرجانات وندوات، تصدرها سياسيون ونافذون قبليون ورجال أعمال يطالبون ولد عبد العزيز بتعديل الدستور للبقاء في الحكم.
كان الوضع آنذاك يوحي بما يشبه الإجماع السياسي على ضرورة بقاء الرئيس في الحكم، مع استثناءات قليلة تمثلها أحزاب المعارضة التقليدية، التي تظاهرت رفضاً لتعديل الدستور. لكنها كانت أضعف من أن تمنع الأغلبية الرئاسية الحاكمة من تنفيذ رغبتها. كما سُمعت أصوات قليلة داخل الأغلبية الرئاسية ترفض تعديل الدستور، ولو أنها كانت محدودة العدد وضعيفة التأثير. لكن الموريتانيين الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي عبروا عن رفض غير مسبوق لخطوة تعديل الدستور، ونظموا حملات قوية ضد النواب والسياسيين المطالبين به، كما أن تقارير «سرية»، أعدتها جهات أمنية موريتانية، أكدت أن الشارع يعارض «الولاية الثالثة».
ولد عبد العزيز، الذي سبق أن أعلن عدة مرات عدم رغبته في الترشح لولاية رئاسية ثالثة، التزم الصمت هذه المرة وكان وقتها خارج البلاد في جولة عربية، بينما كان بعض أفراد عائلته المقربين يلتقون بنواب البرلمان، ويحرضونهم على مواصلة التحرك نحو تعديل الدستور، وهو ما بدا أن الطريق نحوه سالكة، ذلك أن البرلمان الذي جرى انتخابه نهاية العام الماضي (2018)، نال فيه ولد عبد العزيز أغلبية ساحقة، هو من اختارها شخصياً، ودقق في أسمائها قبل ترشيحها للانتخابات، كما أسند رئاسة البرلمان إلى عقيد متقاعد تربطه به صداقة شخصية.
وفيما كانت الأمور توحي بأن ولد عبد العزيز في طريقه نحو البقاء في السلطة لولاية رئاسية ثالثة، صدر بيان مفاجئ عن رئاسة الجمهورية في 15 من يناير (كانون الثاني)، يطالب النواب والسياسيين بـ«التوقف الفوري» عن الدعوة إلى تعديل الدستور، وهو البيان الذي تمت تلاوته عبر التلفزيون الحكومي، وكان يتحدث باسم الرئيس الذي لا يزال موجوداً آنذاك خارج البلاد، ويؤكد على لسانه أنه سيحترم الدستور، ولن يترشح لولاية رئاسية ثالثة، وقد أثار هذا البيان، وظروف إصداره وملابساته، شكوك الموريتانيين، لدرجة أنهم وصفوه بأنه «انقلاب هادئ»، قام به قادة المؤسسة العسكرية لقطع الطريق على بقاء ولد عبد العزيز في السلطة، لأنهم يرون في ذلك تهديداً لأمن البلد.
في تلك الفترات كان الجنرال محمد ولد الغزواني، الذي تقاعد في أكتوبر (تشرين الأول) 2018، يشغل منصب وزير الدفاع في حكومة ولد عبد العزيز، ويقدم من طرف المراقبين على أنه الرئيس المحتمل لموريتانيا بعد ولد عبد العزيز، نظراً إلى العلاقة القوية التي تربطهما، الممتدة لأكثر من 40 عاماً، أفشلا خلالها محاولتين انقلابيتين، ونفذا انقلابين عسكريين ناجحين، وخاضا معاً حرباً شرسة ضد الإرهاب، وكان ولد الغزواني خلال السنوات العشر الماضية الذراع العسكرية والأمنية لصديقه المنشغل بالعمل الحكومي والشأن السياسي.
ومع نهاية فبراير (شباط) الماضي، اجتمع ولد عبد العزيز بعدد من المقربين منه، وأعلن أمامهم أن ولد الغزواني هو مرشحه للانتخابات الرئاسية المقبلة، وأن على الجميع أن يقف معه، لأن فوزه بالانتخابات «استمرار» لحكمه ونهجه في التسيير، بينما ظل ولد الغزواني يلتزم الصمت، وهو العسكري الهادئ الذي اشتهر بأنه يستمع أكثر مما يتحدث، وكان أول خطاب يوجهه للموريتانيين في فاتح مارس (آذار) الماضي، حين أعلن ترشحه للرئاسيات، مؤكداً أنه يترشح من أجل «رفع التحديات الماثلة ومواجهة المخاطر المحدقة».
وفي حين كان ولد عبد العزيز وولد الغزواني يمهدان الطريق للتناوب على سدة الحكم، كانت المعارضة عاجزة عن توحيد كلمتها، وخوض الانتخابات بمرشح موحد، يكون أكثر قدرة على مواجهة المرشح المدعوم من السلطة، فكان عدد المرشحين للانتخابات ستة مترشحين؛ أربعة منهم من المعارضة، يتقدمهم الوزير الأول الأسبق سيدي محمد ولد ببكر، والناشط الحقوقي بيرام ولد الداه اعبيد، والمعارض التاريخي محمد ولد مولود، بالإضافة إلى النائب البرلماني السابق كان حاميدو بابا.
هكذا، وفي الدور الأول من الانتخابات فاز ولد الغزواني بنسبة زادت قليلاً على 52 في المائة. لكن هذه الانتخابات، التي وُصِفت من طرف المراقبين بأنها «الأقرب للشفافية» في تاريخ البلاد، أظهرت عمق الأزمة الاجتماعية والعرقية في موريتانيا، وكشفت مستوى صعود النزعة الشرائحية بشكل غير مسبوق، إذ أشارت تقارير «سرية» إلى أن التصويت في مناطق واسعة من موريتانيا كان «تصويتاً مبنياً على العرق»؛ حيث صوتت الأعراق (العرب، الزنوج، العبيد السابقون) للمرشحين الذين ينحدرون من العرق ذاته، دون النظر في البرامج الانتخابية أو الانتماء السياسي، وهو ما أدخل البلد في أزمة خانقة خلال الأيام التي أعقبت الاقتراع.
بعد الانتخابات اندلعت عدة احتجاجات، وحدثت أعمال شغب في أحياء من العاصمة نواكشوط، تقطنها أغلبية من الزنوج، كان المحتجون يرفعون فيها شعارات منددة بـ«التزوير»، لكنهم سرعان ما اصطدموا بالأمن، وانتشرت شائعات على مواقع التواصل الاجتماعي بسقوط قتلى وجرحى، وهو ما نفته السلطات التي قطعت خدمة الإنترنت عن الهواتف الجوالة، خشية انتشار الشائعات، لا سيما أن ذلك تزامن مع تصاعد أعمال الشغب والاحتجاجات، التي أرغمت السلطات على نشر وحدات من الجيش في بعض أحياء العاصمة نواكشوط، وبعض المدن على الحدود مع السنغال، وقطع خدمة الإنترنت بشكل كامل لأكثر من أسبوع، عاشته البلاد في وضعية «طوارئ غير معلنة».
حينها، لم يجد الموريتانيون الوقت للاحتفال بـ«العرس الديمقراطي»، الذي عاشته بلادهم. أما السلطات فقد أعلنت أنها سيطرت على الوضع وأحبطت «مؤامرة»، تقف وراءها «أيادٍ خارجية»، كانت تسعى إلى زعزعة الأمن في البلاد، معلنةً اعتقال أكثر من مائة أجنبي، وترحيلهم إلى بلدانهم (السنغال، غامبيا، مالي). كما اعتقل عشرات الناشطين السياسيين، أغلبهم من أنصار المرشح، كان حاميدو بابا، الذي حل في المرتبة الرابعة، ويعتقد أنصاره أن أصواتهم سرقت، وكانوا هم من أشعل فتيل الاحتجاجات في نواكشوط.
في ظل هذه الأجواء، وجد ولد الغزواني أمامه أجواء أمنية متوترة، ووضع سياسي متأزم. فالمعارضة ترفض الاعتراف بفوزه وتتهمه بالتزوير، والأوضاع الاقتصادية صعبة جداً، في ظل الحديث عن مديونية خارجية وصلت إلى 100 في المائة من إجمالي الناتج المحلي، وأزمة اجتماعية وعرقية معقدة، وصفها مراقبون بأنها «قنبلة موقوتة».
بعد تنصيبه رئيساً للبلاد، فاتح أغسطس (آب)، بدأ ولد الغزواني بعقد لقاءات مع قادة المعارضة، وفتح باب التشاور معهم، ما مكنه من تهدئة الأوضاع السياسية، والعمل على ما سماه «تطبيع» العلاقة بين المعارضة والسلطة، منهياً قطيعة هيمنت على العلاقة بين الطرفين خلال السنوات العشر، التي حكم فيها صديقه موريتانيا، وكان ذلك هو أول اختلاف أبانه الرجل في تسيير مقاليد الحكم، على الرغم من أنه كان يظهر منذ البداية اختلافاً في الخطاب والمبادئ والتوجهات، لكنه ظل بطبعه الهادئ يميل إلى إحداث التغيير، بقدر معين من السلاسة والحذر، على حد تعبير أحد المقربين منه.
غير أن أقدار السياسة في موريتانيا، بلد الانقلابات العسكرية والتحولات غير المتوقعة، كانت تخبئ للرجلين ما لم يكن في الحسبان. ففي حين كانت المعارضة تدلي بتصريحات «إيجابية» تجاه ولد الغزواني، وحصيلة مائة يوم أولى من حكمه، عاد ولد عبد العزيز إلى أرض الوطن بعد ثلاثة أشهر من الغياب، وبدأ منتصف نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي لقاءات مع قادة حزب الاتحاد من أجل الجمهورية الحاكم، إيذاناً بعودته للساحة السياسية، وهو أمرٌ يبدو أنه لم يكن محل ارتياح لدى الرئيس الحالي، لأن الساحة لا تتسع للرجلين، ومقعد الحكم لا يقبل القسمة على اثنين.
هكذا إذا اندلعت أزمة حادة بين الرجلين، رفض الموريتانيون في البداية تصديقها. لكنها تأكدت حين غاب ولد عبد العزيز عن احتفالات عيد الاستقلال الوطني (28 نوفمبر الماضي)، رغم الدعوة الرسمية التي تلقاها كرئيس سابق. غير أن مقعده ظل شاغراً خلال الحفل، الذي حضره رئيسان سابقان وقيادات في المعارضة، لكن الشيء الذي قطع الشك باليقين هو القرار المفاجئ، الذي اتخذه ولد الغزواني عشية الاستقلال، وذلك بإقالة قائد كتيبة الأمن الرئاسي، وهو الذي يوصف بأنه أحد المقربين من الرئيس السابق، وحينها تأكد الموريتانيون من أن الأزمة بين «الصديقين» وصلت إلى طريق مسدود.
لقد نجح ولد الغزواني في تقليم مخالب صديقه، وأكد سيطرته على مراكز القوة في البلد. فقد انتزع منه أولاً أغلبيته البرلمانية، التي وقعت على عريضة تصفه بأنه «المرجعية الحصرية» للحزب الحاكم، وثانياً قطع الصلة بينه وبين أعوانه داخل المؤسسة العسكرية، عندما أقال بعض المحسوبين عليه في الاستخبارات، وقلّص قوة كتيبة الأمن الرئاسي التي اشتهرت بأنها تدين بالولاء للرئيس السابق، كما جرّده من الحزب، الذي أسسه قبل عشر سنوات (منذ عام 2009)، وأنفق كثيراً من الجهد خلال السنوات الأخيرة في رعايته وتقويته، حيث أعلنت لجنة تسيير الحزب في مؤتمر صحافي أن ولد الغزواني هو صاحب القرار في الحزب.
لقد تعود الموريتانيون على الانقلابات العسكرية، التي تحمل رئيساً جديداً وتطيح برئيس قديم، إلا أنهم يعتقدون أن ما حدث بين ولد عبد العزيز وولد الغزواني، هو انقلاب من نمط آخر. ذلك أنه للمرة الأولى يقوم «رئيس حالي» بانقلاب محكم للإطاحة بـ«رئيس سابق»، وذلك لتجريده من أوراق قوة كان يمكن أن يستخدمها ضده في أي وقت.
إلا أن ولد الغزواني، وبعد أن ينقشع غبار المعارك السياسية، سيجد نفسه أمام تحديات كبيرة، أولها الأزمة الاقتصادية الخانقة لبلد غارق في الديون، ومشكل اجتماعي خطير في ظل تصاعد وتيرة الشحن العرقي والشرائحي في البلد. إضافة إلى الوضع الإقليمي المتردي، خصوصاً في منطقة الساحل الأفريقي، حيث تتمدد جماعات إرهابية خطيرة. إنها ملفات تجعل مهمة الرجل ليست بالسهلة خلال السنوات الخمس المقبلة، وإن كانت نقطة ضوء صغيرة تلوح في آخر النفق بفضل اكتشافات الغاز قبالة السواحل الموريتانية، حيث تحدثت التقديرات عن احتياطي يصل إلى 60 تريليون قدم مكعب من الغاز، سيبدأ إنتاجه وتسويقه عام 2022.


مقالات ذات صلة

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

حصاد الأسبوع Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

سطرت نيتومبو ناندي ندايتواه، 72 عاماً، اسمها في التاريخ بوصفها أول امرأة تتولى رئاسة ناميبيا منذ استقلال البلاد عام 1990، بعدما حصدت 57 في المائة من الأصوات في

فتحية الدخاخني ( القاهرة)
رياضة سعودية السعودية تستمر في تشكيل خريطة مختلف الرياضات العالمية بتنظيم واستضافات غير مسبوقة (الشرق الأوسط)

السعودية ستُشكل خريطة الرياضة العالمية في 2025

شارف عام حافل بالأحداث الرياضية بما في ذلك الألعاب الأولمبية التي حظيت بإشادة واسعة وأربع بطولات قارية لكرة القدم على الانتهاء ومن المتوقع أن يكون عام 2025 أقل.

«الشرق الأوسط» (لندن)
حصاد الأسبوع فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية بقيادة ميشال بارنييه في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)،

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع خافيير ميلي (أ.ب)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار

شوقي الريّس (مدريد)

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟
TT

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية، بقيادة ميشال بارنييه، في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)، على رأس الحكومة الجديدة. يأتي قرار التعيين في الوقت الذي تعيش فيه فرنسا أزمة برلمانية حادة بسبب غياب الأغلبية وهشاشة التحالفات، مما يضفي على الحياة السياسية جواً من عدم الاستقرار والفوضى. كان هذا القرار متوقَّعاً حيث إن رئيس الوزراء الجديد من الشخصيات المعروفة في المشهد السياسي الفرنسي، والأهم أنه كان عنصراً أساسياً في تحالف ماكرون الوسطي وحليف الرئيس منذ بداية عهدته في 2017. تساؤلات كثيرة رافقت إعلان خبر التعيين، أهمها حظوظ رئيس الوزراء الجديد في تحقيق «المصالحة» التي ستُخرِج البلاد من الأزمة البرلمانية، وقدرته على إنقاذ عهدة ماكرون الثانية.

أصول ريفية بسيطة

وُلِد فرنسوا بايرو في 25 مايو (أيار) عام 1951 في بلدة بوردار بالبرينيه الأطلسية، وهو من أصول بسيطة، حيث إنه ينحدر من عائلة مزارعين، أباً عن جدّ. كان يحب القراءة والأدب، وهو ما جعله يختار اختصاص الأدب الفرنسي في جامعة بوردو بشرق فرنسا. بعد تخرجه عمل في قطاع التعليم، وكان يساعد والدته في الوقت ذاته بالمزرعة العائلية بعد وفاة والده المفاجئ في حادث عمل. بدأ بايرو نشاطه السياسي وهو في سن الـ29 نائباً عن منطقة البرانس الأطلسي لسنوات، بعد أن انخرط في صفوف حزب الوسط، ثم رئيساً للمجلس العام للمنطقة ذاتها بين 1992 و2001. إضافة إلى ذلك، شغل بايرو منصب نائب أوروبي بين 1999 و2002. وهو منذ 2014 عمدة لمدينة بو، جنوب غربي فرنسا، ومفتّش سامٍ للتخطيط منذ 2020.

شغل بايرو مهام وزير التربية والتعليم بين 1993 و1997 في 3 حكومات يمينية متتالية. في 2017 أصبح أبرز حلفاء ماكرون، وكوفئ على ولائه بحقيبة العدل، لكنه اضطر إلى الاستقالة بعد 35 يوماً فقط، بسبب تورطه في تحقيق يتعلق بالاحتيال المالي. ومعروف عن فرنسوا بايرو طموحه السياسي، حيث ترشح للرئاسة 3 مرات، وكانت أفضل نتائجه عام 2007 عندما حصل على المركز الثالث بنسبة قاربت 19 في المائة.

مارين لوبان زعيمة اليمين المتطرف (إ.ب.أ)

شخصية قوية وعنيدة

في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون: كيف ضغط رئيس (الموديم) على إيمانويل ماكرون»، كشفت صحيفة «لوموند» أن رئيس الوزراء الجديد قام تقريباً بليّ ذراع الرئيس من أجل تعيينه؛ حيث تشرح الصحيفة، بحسب مصادر قريبة من الإليزيه، أن بايرو واجه الرئيس ماكرون غاضباً، بعد أن أخبره بأنه يريد تعيين وزير الصناعة السابق رولان لوسكور بدلاً منه، واستطاع بقوة الضغط أن يقنعه بالرجوع عن قراره وتعيينه هو على رأس الحكومة.

الحادثة التي نُقلت من مصادر موثوق بها، أعادت إلى الواجهة صفات الجرأة والشجاعة التي يتحّلى بها فرنسوا بايرو، الذي يوصف أيضاً في الوسط السياسي بـ«العنيد» المثابر. ففي موضوع آخر نُشر بصحيفة «لوفيغارو» بعنوان: «فرنسوا بايرو التلميذ المصاب بالتأتأة يغزو ماتنيون»، ذكرت الصحيفة أن بايرو تحدَّى الأطباء الذين نصحوه بالتخلي عن السياسة والتعليم بسبب إصابته وهو في الثامنة بالتأتأة أو الصعوبة في النطق، لكنه نجح في التغلب على هذه المشكلة، بفضل عزيمة قوية، واستطاع أن ينجح في السياسة والتعليم.

يشرح غيوم روكيت من صحيفة «لوفيغارو» بأنه وراء مظهر الرجل الريفي الأصل البشوش، يوجد سياسي محنّك، شديد الطموح، بما أنه لم يُخفِ طموحاته الرئاسية، حيث ترشح للرئاسيات 3 مرات، و«لن نكون على خطأ إذا قلنا إنه استطاع أن يستمر في نشاطه السياسي كل هذه السنوات لأنه عرف كيف يتأقلم مع الأوضاع ويغيّر مواقفه حسب الحاجة»، مذكّراً بأن بايرو كان أول مَن هاجم ماكرون في 2016 باتهامه بالعمل لصالح أرباب العمل والرأسماليين الكبار، لكنه أيضاً أول مع تحالف معه حين تقدَّم في استطلاعات الرأي.

على الصعيد الشخصي، يُعتبر بايرو شخصية محافظة، فهو أب لـ6 أطفال وكاثوليكي ملتزم يعارض زواج المثليين وتأجير الأرحام، وهو مدافع شرس عن اللهجات المحلية، حيث يتقن لهجته الأصلية، وهي اللهجة البيرينية.

رجل الوفاق الوطني؟

عندما تسلّم مهامه رسمياً، أعلن فرنسوا بايرو أنه يضع مشروعه السياسي تحت شعار «المصالحة» ودعوة الجميع للمشاركة في النقاش. ويُقال إن نقاط قوته أنه شخصية سياسية قادرة على صنع التحالفات؛ حيث سبق لفرنسوا بايرو خلال الـ40 سنة خبرة في السياسة، التعاون مع حكومات ومساندة سياسات مختلفة من اليمين واليسار.

خلال مشواره السياسي، عمل مع اليمين في 1995، حيث كان وزيراً للتربية والتعليم في 3 حكومات، وهو بحكم توجهه الديمقراطي المسيحي محافظ وقريب من اليمين في قضايا المجتمع، وهو ملتزم اقتصادياً بالخطوط العريضة لليبيراليين، كمحاربة الديون وخفض الضرائب. وفي الوقت ذاته، كان فرنسوا بايرو أول زعيم وسطي يقترب من اليسار الاشتراكي؛ أولاً في 2007 حين التقى مرشحة اليسار سيغولين رويال بين الدورين الأول والثاني من الانتخابات الرئاسية للبحث في تحالف، ثم في 2012 حين صنع الحدث بدعوته إلى التصويت من أجل مرشح اليسار فرنسوا هولاند على حساب خصمه نيكولا ساركوزي، بينما جرى العرف أن تصوّت أحزاب الوسط في فرنسا لصالح اليمين.

ومعروف أيضاً عن رئيس الوزراء الجديد أنه الشخصية التي مدّت يد المساعدة إلى اليمين المتطرف، حيث إنه سمح لمارين لوبان بالحصول على الإمضاءات التي كانت تنقصها لدخول سباق الرئاسيات عام 2022، وهي المبادرة التي تركت أثراً طيباً عند زعيمة التجمع الوطني، التي صرحت آنذاك قائلة: «لن ننسى هذا الأمر»، كما وصفت العلاقة بينهما بـ«الطيبة». هذه المعطيات جعلت مراقبين يعتبرون أن بايرو هو الأقرب إلى تحقيق التوافق الوطني الذي افتقدته الحكومة السابقة، بفضل قدرته على التحدث مع مختلف الأطياف من اليمين إلى اليسار.

ما هي حظوظ بايرو في النجاح؟رغم استمرار الأزمة السياسية، فإن التقارير الأولية التي صدرت في الصحافة الفرنسية توحي بوجود بوادر مشجعة في طريق المهمة الجديدة لرئيس الوزراء. التغيير ظهر من خلال استقبال أحزاب المعارضة لنبأ التعيين، وعدم التلويح المباشر بفزاعة «حجب الثقة»، بعكس ما حدث مع سابقه، بارنييه.

الإشارة الإيجابية الأولى جاءت من الحزب الاشتراكي الذي عرض على رئيس الوزراء الجديد اتفاقاً بعدم حجب الثقة مقابل عدم اللجوء إلى المادة 3 - 49 من الدستور، وهي المادة التي تخوّل لرئيس الحكومة تمرير القوانين من دون المصادقة عليها. الاشتراكيون الذين بدأوا يُظهرون نيتهم في الانشقاق عن ائتلاف اليسار أو «جبهة اليسار الوطنية» قد يشكّلون سنداً جديداً لبايرو، إذا ما قدّم بعض التنازلات لهم.

وفي هذا الإطار، برَّر بوريس فالو، الناطق باسم الحزب، أسباب هذا التغيير، بالاختلاف بين الرجلين حيث كان بارنييه الذي لم يحقق حزبه أي نجاحات في الانتخابات الأخيرة يفتقد الشرعية لقيادة الحكومة، بينما الأمر مختلف نوعاً ما مع بايرو. كما أعلن حزب التجمع الوطني هو الآخر، وعلى لسان رئيسه جوردان بارديلا، أنه لن يكون هناك على الأرجح حجب للثقة، بشرط أن تحترم الحكومة الجديدة الخطوط الحمراء، وهي المساس بالضمان الصحّي، ونظام المعاشات أو إضعاف اقتصاد البلاد.

يكتب الصحافي أنطوان أوبردوف من جريدة «لوبنيون»: «هذه المرة سيمتنع التجمع الوطني عن استعمال حجب الثقة للحفاظ على صورة مقبولة لدى قاعدته الانتخابية المكونة أساساً من كهول ومتقاعدين قد ترى هذا الإجراء الدستوري نوعاً من الحثّ على الفوضى».

كما أعلن حزب اليمين الجمهوري، على لسان نائب الرئيس، فرنسوا كزافييه بيلامي، أن اليمين الجمهوري سيمنح رئيس الحكومة الجديد شيئاً من الوقت، موضحاً: «سننتظر لنرى المشروع السياسي للسيد بايرو، ثم نقرر». أما غابرييل أتال، رئيس الوزراء السابق عن حزب ماكرون، فأثنى على تعيين بايرو من أجل «الدفاع على المصلحة العامة في هذا الظرف الصعب».

أما أقصى اليسار، الممثَّل في تشكيلة «فرنسا الأبية»، إضافة إلى حزب الخضر، فهما يشكلان إلى غاية الآن الحجر الذي قد تتعثر عليه جهود الحكومة الجديدة؛ فقد لوَّحت فرنسا الأبية باللجوء إلى حجب الثقة مباشرة بعد خبر التعيين، معتبرة أن بايرو سيطبق سياسة ماكرون لأنهما وجهان لعملة واحدة.

فرانسوا بايرو يتحدث في الجمعة الوطنية الفرنسية (رويترز)

أهم الملفات التي تنتظر بايرو

أهم ملف ينتظر رئيس الوزراء الجديد الوصول إلى اتفاق عاجل فيما يخص ميزانية 2025؛ حيث كان النقاش في هذا الموضوع السبب وراء سقوط حكومة بارنييه. وكان من المفروض أن يتم الإعلان عن الميزانية الجديدة والمصادقة عليها قبل نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2024، لولا سقوط الحكومة السابقة، علماً بأن الدستور الفرنسي يسمح بالمصادقة على «قانون خاص» يسمح بتغطية تكاليف مؤسسات الدولة وتحصيل الضرائب لتجنب الشلّل الإداري في انتظار المصادقة النهائية. أوجه الخلاف فيما يخّص القانون تتعلق بعجز الميزانية الذي يُقدَّر بـ60 مليار يورو، الذي طلبت الحكومة السابقة تعويضه بتطبيق سياسة تقشفية صارمة تعتمد على الاقتطاع من نفقات القطاع العمومي والضمان الاجتماعي، خاصة أن فرنسا تعاني من أزمة ديون خانقة حيث وصلت في 2023 إلى أكثر من 3200 مليار يورو. الرفض على المصادقة قد يأتي على الأرجح من اليسار الذي يطالب بإيجاد حل آخر لتغطية العجز، وهو رفع الضرائب على الشركات الكبرى والأثرياء. وكان فرنسوا بايرو من السياسيين الأكثر تنديداً بأزمة الديون، التي اعتبرها مشكلة «أخلاقية» قبل أن تكون اقتصادية؛ حيث قال إنه من غير اللائق أن «نحمّل أجيال الشباب أخطاء التدبير التي اقترفناها في الماضي».

الملف الثاني يخص نظام المعاشات، وهو ملف يقسم النواب بشّدة بين اليمين المرحّب بفكرة الإصلاح ورفع سن التقاعد من 62 إلى 64 سنة، إلى اليسار الذي يرفض رفع سنّ التقاعد، معتبراً القانون إجراءً غير عادل، وبالأخص بالنسبة لبعض الفئات، كذوي المهن الشاقة أو الأمهات.

وتجدر الإشارة إلى أن فرنسا كانت قد شهدت حركة احتجاجات شعبية عارمة نتيجة إقرار هذا القانون، وبالأخص بعد أن كشفت استطلاعات الرأي أن غالبية من الفرنسيين معارضة له. صحيفة «لكبرس»، في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون ماذا كان يقول عن المعاشات» تذكّر بأن موقف رئيس الوزراء بخصوص هذا الموضوع كان متقلباً؛ فهو في البداية كان يطالب بتحديد 60 سنة كحّد أقصى للتقاعد، ثم تبنَّى موقف الحكومة بعد تحالفه مع ماكرون.

وعلى طاولة رئيس الوزراء الجديد أيضاً ملف «الهجرة»؛ حيث كان برونو ريتيلو، وزير الداخلية، قد أعلن عن نصّ جديد بشأن الهجرة في بداية عام 2025، الهدف منه تشديد إجراءات الهجرة، كتمديد الفترة القصوى لاحتجاز الأجانب الصادر بحقهم أمر بالترحيل أو إيقاف المساعدات الطبية للمهاجرين غير الشرعيين. سقوط حكومة بارنييه جعل مشروع الهجرة الجديد يتوقف، لكنه يبقى مطروحاً كخط أحمر من قِبَل التجمع الوطني الذي يطالب بتطبيقه، بعكس أحزاب اليسار التي هددت باللجوء إلى حجب الثقة في حال استمرت الحكومة الجديدة في المشروع. وهذه معادلة صعبة بالنسبة للحكومة الجديدة. لكن محللّين يعتقدون أن الحكومة الجديدة تستطيع أن تنجو من السقوط، إذا ما ضمنت أصوات النواب الاشتراكيين، بشرط أن تُظهر ليونة أكبر في ملفات كالهجرة ونظام المعاشات، وألا تتعامل مع كتلة اليمين المتطرف.

إليزابيث بورن (أ.ف.ب)

بومبيدو

دوفيلبان

حقائق

رؤساء الحكومة الفرنسيون... معظمهم من اليمين بينهم سيدتان فقط


منذ قيام الجمهورية الخامسة عام 1958، ترأَّس حكومات فرنسا 28 شخصية سياسية، ينتمي 8 منها لليسار الاشتراكي، بينما تتوزع الشخصيات الأخرى بين اليمين الجمهوري والوسط. ومن بين هؤلاء سيدتان فقط: هما إيديت كريسون، وإليزابيث بورن.هذه قائمة بأشهر الشخصيات:جورج بومبيدو: ترأَّس الحكومة بين 1962 و1968. معروف بانتمائه للتيار الوسطي. شغل وظائف سامية في مؤسسات الدولة، وكان رجل ثقة الجنرال شارل ديغول وأحد مقربيه. عيّنه هذا الأخير رئيساً للوزراء عام 1962 ومكث في منصبه 6 سنوات، وهو رقم قياسي بالنسبة لرؤساء حكومات الجمهورية الخامسة. لوران فابيوس: ترأَّس الحكومة بين 1984 و1986. ينتمي للحزب الاشتراكي. شغل منصب وزير المالية، ثم وزيراً للصناعة والبحث العلمي. حين عيّنه الرئيس الراحل فرنسوا ميتران كان أصغر رئيس وزراء فرنسي؛ حيث كان عمره آنذاك 37 سنة. شغل أيضاً منصب رئيس الجمعية الوطنية. تأثرت شعبيته بعد محاكمته بوصفه مسؤولاً عن الحكومة في قضية الدم الملوّث الذي راح ضحيته أكثر من 4 آلاف فرنسي. كما تكرر اسمه في مفاوضات الملف النووي الإيراني.جاك شيراك: إضافة لوظيفته الرئاسية المعروفة، ترأَّس جاك شيراك الحكومة الفرنسية مرتين: المرة الأولى حين اختاره الراحل فاليري جيسكار ديستان وكان ذلك بين 1974 و1976، ثم إبان عهدة الرئيس فرنسوا ميتران بين 1986 و1988. شغل مناصب سامية، وتقلّد مسؤوليات عدة في مؤسسات الدولة وأجهزتها، حيث كان عمدة لمدينة باريس، ورئيس حزب التجمع الجمهوري اليميني، ووزيراً للزراعة.دومينيك دوفيلبان: شغل وظيفة رئيس الحكومة في عهدة الرئيس جاك شيراك بين 2005 و2007، وكان أحد مقربي الرئيس شيراك. كما شغل أيضاً حقيبة الخارجية ونال شعبية كبيرة بعد خطابه المعارض لغزو العراق أمام اجتماع مجلس الأمن في عام 2003. حين كان رئيس الوزراء، أعلن حالة الطوارئ بعد أحداث العنف والاحتجاجات التي شهدتها الضواحي في فرنسا.فرنسوا فيون: عيّنه الرئيس السابق نيكولا ساركوزي في منصب رئيس الوزراء بين 2007 و2012، وهو بعد بومبيدو أكثر الشخصيات تعميراً في هذا المنصب. شغل مناصب وزارية أخرى حيث كُلّف حقائب التربية، والتعليم، والشؤون الاجتماعية، والعمل. أصبح رسمياً مرشح حزب الجمهوريون واليمين والوسط للانتخابات الرئاسية الفرنسية 2017، وأُثيرت حوله قضية الوظائف الوهمية التي أثّرت في حملته الانتخابية تأثيراً كبيراً، وانسحب بعدها من الحياة السياسية.