موريتانيا 2019... عام من التناوب والصدام

ميزه صراع داخل دهاليز الحكم و«حالة طوارئ غير معلنة»

الرئيس  الجديد ولد الغزواني (أ.ف.ب) - الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز (أ.ف.ب)
الرئيس الجديد ولد الغزواني (أ.ف.ب) - الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز (أ.ف.ب)
TT

موريتانيا 2019... عام من التناوب والصدام

الرئيس  الجديد ولد الغزواني (أ.ف.ب) - الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز (أ.ف.ب)
الرئيس الجديد ولد الغزواني (أ.ف.ب) - الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز (أ.ف.ب)

كان 2019 عاماً ترقبه الموريتانيون بفارغ الصبر لأنه حمل الإجابة عن سؤال ديمقراطي أرَّقَهم كثيراً، يتعلق بمدى التزام الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز بنص الدستور، وهو الذي وصل إلى الحكم في آخر انقلاب عسكري تشهده موريتانيا (2008)، لكنه سرعان ما نظَّم انتخابات فاز بها عام 2009. ومع نهاية ولايتين رئاسيتين يمنحهما له الدستور (مدة كل منهما خمس سنوات)، كان جميع الموريتانيين يتساءلون إن كان الرجل سيلتزم بالدستور ويخرج من الباب الكبير، وهو ما حدث بالفعل شهر يونيو (حزيران) الماضي، حين سلم السلطة لصديقه ورفيق السلاح محمد ولد الغزواني. لكن عملية التناوب السلمي على السلطة، التي احتفى بها الموريتانيون، سبقتها مطبات بالجملة، وأعقبها صراع داخل دهاليز الحكم، وحدثت في أوج «حالة طوارئ غير معلنة».
بدأت القصة منتصف شهر يناير (كانون الثاني) الماضي، عندما كان موعد الانتخابات الرئاسية على الأبواب (بعد 6 أشهر فقط)، حيث قدَّم مجموعة من نواب حزب «الاتحاد من أجل الجمهورية» الحاكم عريضة تطالب بإعادة كتابة دستور البلاد عبر البرلمان، وقَّع عليها أكثر من مائة نائب (مجموع عدد نواب البرلمان 151 نائباً). وقال أحد الموقعين إن الهدف منها هو «كسر الموانع الدستورية لتقدم الرئيس (ولد عبد العزيز) لولاية ثالثة»، كما نظمت في الأيام ذاتها مهرجانات وندوات، تصدرها سياسيون ونافذون قبليون ورجال أعمال يطالبون ولد عبد العزيز بتعديل الدستور للبقاء في الحكم.
كان الوضع آنذاك يوحي بما يشبه الإجماع السياسي على ضرورة بقاء الرئيس في الحكم، مع استثناءات قليلة تمثلها أحزاب المعارضة التقليدية، التي تظاهرت رفضاً لتعديل الدستور. لكنها كانت أضعف من أن تمنع الأغلبية الرئاسية الحاكمة من تنفيذ رغبتها. كما سُمعت أصوات قليلة داخل الأغلبية الرئاسية ترفض تعديل الدستور، ولو أنها كانت محدودة العدد وضعيفة التأثير. لكن الموريتانيين الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي عبروا عن رفض غير مسبوق لخطوة تعديل الدستور، ونظموا حملات قوية ضد النواب والسياسيين المطالبين به، كما أن تقارير «سرية»، أعدتها جهات أمنية موريتانية، أكدت أن الشارع يعارض «الولاية الثالثة».
ولد عبد العزيز، الذي سبق أن أعلن عدة مرات عدم رغبته في الترشح لولاية رئاسية ثالثة، التزم الصمت هذه المرة وكان وقتها خارج البلاد في جولة عربية، بينما كان بعض أفراد عائلته المقربين يلتقون بنواب البرلمان، ويحرضونهم على مواصلة التحرك نحو تعديل الدستور، وهو ما بدا أن الطريق نحوه سالكة، ذلك أن البرلمان الذي جرى انتخابه نهاية العام الماضي (2018)، نال فيه ولد عبد العزيز أغلبية ساحقة، هو من اختارها شخصياً، ودقق في أسمائها قبل ترشيحها للانتخابات، كما أسند رئاسة البرلمان إلى عقيد متقاعد تربطه به صداقة شخصية.
وفيما كانت الأمور توحي بأن ولد عبد العزيز في طريقه نحو البقاء في السلطة لولاية رئاسية ثالثة، صدر بيان مفاجئ عن رئاسة الجمهورية في 15 من يناير (كانون الثاني)، يطالب النواب والسياسيين بـ«التوقف الفوري» عن الدعوة إلى تعديل الدستور، وهو البيان الذي تمت تلاوته عبر التلفزيون الحكومي، وكان يتحدث باسم الرئيس الذي لا يزال موجوداً آنذاك خارج البلاد، ويؤكد على لسانه أنه سيحترم الدستور، ولن يترشح لولاية رئاسية ثالثة، وقد أثار هذا البيان، وظروف إصداره وملابساته، شكوك الموريتانيين، لدرجة أنهم وصفوه بأنه «انقلاب هادئ»، قام به قادة المؤسسة العسكرية لقطع الطريق على بقاء ولد عبد العزيز في السلطة، لأنهم يرون في ذلك تهديداً لأمن البلد.
في تلك الفترات كان الجنرال محمد ولد الغزواني، الذي تقاعد في أكتوبر (تشرين الأول) 2018، يشغل منصب وزير الدفاع في حكومة ولد عبد العزيز، ويقدم من طرف المراقبين على أنه الرئيس المحتمل لموريتانيا بعد ولد عبد العزيز، نظراً إلى العلاقة القوية التي تربطهما، الممتدة لأكثر من 40 عاماً، أفشلا خلالها محاولتين انقلابيتين، ونفذا انقلابين عسكريين ناجحين، وخاضا معاً حرباً شرسة ضد الإرهاب، وكان ولد الغزواني خلال السنوات العشر الماضية الذراع العسكرية والأمنية لصديقه المنشغل بالعمل الحكومي والشأن السياسي.
ومع نهاية فبراير (شباط) الماضي، اجتمع ولد عبد العزيز بعدد من المقربين منه، وأعلن أمامهم أن ولد الغزواني هو مرشحه للانتخابات الرئاسية المقبلة، وأن على الجميع أن يقف معه، لأن فوزه بالانتخابات «استمرار» لحكمه ونهجه في التسيير، بينما ظل ولد الغزواني يلتزم الصمت، وهو العسكري الهادئ الذي اشتهر بأنه يستمع أكثر مما يتحدث، وكان أول خطاب يوجهه للموريتانيين في فاتح مارس (آذار) الماضي، حين أعلن ترشحه للرئاسيات، مؤكداً أنه يترشح من أجل «رفع التحديات الماثلة ومواجهة المخاطر المحدقة».
وفي حين كان ولد عبد العزيز وولد الغزواني يمهدان الطريق للتناوب على سدة الحكم، كانت المعارضة عاجزة عن توحيد كلمتها، وخوض الانتخابات بمرشح موحد، يكون أكثر قدرة على مواجهة المرشح المدعوم من السلطة، فكان عدد المرشحين للانتخابات ستة مترشحين؛ أربعة منهم من المعارضة، يتقدمهم الوزير الأول الأسبق سيدي محمد ولد ببكر، والناشط الحقوقي بيرام ولد الداه اعبيد، والمعارض التاريخي محمد ولد مولود، بالإضافة إلى النائب البرلماني السابق كان حاميدو بابا.
هكذا، وفي الدور الأول من الانتخابات فاز ولد الغزواني بنسبة زادت قليلاً على 52 في المائة. لكن هذه الانتخابات، التي وُصِفت من طرف المراقبين بأنها «الأقرب للشفافية» في تاريخ البلاد، أظهرت عمق الأزمة الاجتماعية والعرقية في موريتانيا، وكشفت مستوى صعود النزعة الشرائحية بشكل غير مسبوق، إذ أشارت تقارير «سرية» إلى أن التصويت في مناطق واسعة من موريتانيا كان «تصويتاً مبنياً على العرق»؛ حيث صوتت الأعراق (العرب، الزنوج، العبيد السابقون) للمرشحين الذين ينحدرون من العرق ذاته، دون النظر في البرامج الانتخابية أو الانتماء السياسي، وهو ما أدخل البلد في أزمة خانقة خلال الأيام التي أعقبت الاقتراع.
بعد الانتخابات اندلعت عدة احتجاجات، وحدثت أعمال شغب في أحياء من العاصمة نواكشوط، تقطنها أغلبية من الزنوج، كان المحتجون يرفعون فيها شعارات منددة بـ«التزوير»، لكنهم سرعان ما اصطدموا بالأمن، وانتشرت شائعات على مواقع التواصل الاجتماعي بسقوط قتلى وجرحى، وهو ما نفته السلطات التي قطعت خدمة الإنترنت عن الهواتف الجوالة، خشية انتشار الشائعات، لا سيما أن ذلك تزامن مع تصاعد أعمال الشغب والاحتجاجات، التي أرغمت السلطات على نشر وحدات من الجيش في بعض أحياء العاصمة نواكشوط، وبعض المدن على الحدود مع السنغال، وقطع خدمة الإنترنت بشكل كامل لأكثر من أسبوع، عاشته البلاد في وضعية «طوارئ غير معلنة».
حينها، لم يجد الموريتانيون الوقت للاحتفال بـ«العرس الديمقراطي»، الذي عاشته بلادهم. أما السلطات فقد أعلنت أنها سيطرت على الوضع وأحبطت «مؤامرة»، تقف وراءها «أيادٍ خارجية»، كانت تسعى إلى زعزعة الأمن في البلاد، معلنةً اعتقال أكثر من مائة أجنبي، وترحيلهم إلى بلدانهم (السنغال، غامبيا، مالي). كما اعتقل عشرات الناشطين السياسيين، أغلبهم من أنصار المرشح، كان حاميدو بابا، الذي حل في المرتبة الرابعة، ويعتقد أنصاره أن أصواتهم سرقت، وكانوا هم من أشعل فتيل الاحتجاجات في نواكشوط.
في ظل هذه الأجواء، وجد ولد الغزواني أمامه أجواء أمنية متوترة، ووضع سياسي متأزم. فالمعارضة ترفض الاعتراف بفوزه وتتهمه بالتزوير، والأوضاع الاقتصادية صعبة جداً، في ظل الحديث عن مديونية خارجية وصلت إلى 100 في المائة من إجمالي الناتج المحلي، وأزمة اجتماعية وعرقية معقدة، وصفها مراقبون بأنها «قنبلة موقوتة».
بعد تنصيبه رئيساً للبلاد، فاتح أغسطس (آب)، بدأ ولد الغزواني بعقد لقاءات مع قادة المعارضة، وفتح باب التشاور معهم، ما مكنه من تهدئة الأوضاع السياسية، والعمل على ما سماه «تطبيع» العلاقة بين المعارضة والسلطة، منهياً قطيعة هيمنت على العلاقة بين الطرفين خلال السنوات العشر، التي حكم فيها صديقه موريتانيا، وكان ذلك هو أول اختلاف أبانه الرجل في تسيير مقاليد الحكم، على الرغم من أنه كان يظهر منذ البداية اختلافاً في الخطاب والمبادئ والتوجهات، لكنه ظل بطبعه الهادئ يميل إلى إحداث التغيير، بقدر معين من السلاسة والحذر، على حد تعبير أحد المقربين منه.
غير أن أقدار السياسة في موريتانيا، بلد الانقلابات العسكرية والتحولات غير المتوقعة، كانت تخبئ للرجلين ما لم يكن في الحسبان. ففي حين كانت المعارضة تدلي بتصريحات «إيجابية» تجاه ولد الغزواني، وحصيلة مائة يوم أولى من حكمه، عاد ولد عبد العزيز إلى أرض الوطن بعد ثلاثة أشهر من الغياب، وبدأ منتصف نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي لقاءات مع قادة حزب الاتحاد من أجل الجمهورية الحاكم، إيذاناً بعودته للساحة السياسية، وهو أمرٌ يبدو أنه لم يكن محل ارتياح لدى الرئيس الحالي، لأن الساحة لا تتسع للرجلين، ومقعد الحكم لا يقبل القسمة على اثنين.
هكذا إذا اندلعت أزمة حادة بين الرجلين، رفض الموريتانيون في البداية تصديقها. لكنها تأكدت حين غاب ولد عبد العزيز عن احتفالات عيد الاستقلال الوطني (28 نوفمبر الماضي)، رغم الدعوة الرسمية التي تلقاها كرئيس سابق. غير أن مقعده ظل شاغراً خلال الحفل، الذي حضره رئيسان سابقان وقيادات في المعارضة، لكن الشيء الذي قطع الشك باليقين هو القرار المفاجئ، الذي اتخذه ولد الغزواني عشية الاستقلال، وذلك بإقالة قائد كتيبة الأمن الرئاسي، وهو الذي يوصف بأنه أحد المقربين من الرئيس السابق، وحينها تأكد الموريتانيون من أن الأزمة بين «الصديقين» وصلت إلى طريق مسدود.
لقد نجح ولد الغزواني في تقليم مخالب صديقه، وأكد سيطرته على مراكز القوة في البلد. فقد انتزع منه أولاً أغلبيته البرلمانية، التي وقعت على عريضة تصفه بأنه «المرجعية الحصرية» للحزب الحاكم، وثانياً قطع الصلة بينه وبين أعوانه داخل المؤسسة العسكرية، عندما أقال بعض المحسوبين عليه في الاستخبارات، وقلّص قوة كتيبة الأمن الرئاسي التي اشتهرت بأنها تدين بالولاء للرئيس السابق، كما جرّده من الحزب، الذي أسسه قبل عشر سنوات (منذ عام 2009)، وأنفق كثيراً من الجهد خلال السنوات الأخيرة في رعايته وتقويته، حيث أعلنت لجنة تسيير الحزب في مؤتمر صحافي أن ولد الغزواني هو صاحب القرار في الحزب.
لقد تعود الموريتانيون على الانقلابات العسكرية، التي تحمل رئيساً جديداً وتطيح برئيس قديم، إلا أنهم يعتقدون أن ما حدث بين ولد عبد العزيز وولد الغزواني، هو انقلاب من نمط آخر. ذلك أنه للمرة الأولى يقوم «رئيس حالي» بانقلاب محكم للإطاحة بـ«رئيس سابق»، وذلك لتجريده من أوراق قوة كان يمكن أن يستخدمها ضده في أي وقت.
إلا أن ولد الغزواني، وبعد أن ينقشع غبار المعارك السياسية، سيجد نفسه أمام تحديات كبيرة، أولها الأزمة الاقتصادية الخانقة لبلد غارق في الديون، ومشكل اجتماعي خطير في ظل تصاعد وتيرة الشحن العرقي والشرائحي في البلد. إضافة إلى الوضع الإقليمي المتردي، خصوصاً في منطقة الساحل الأفريقي، حيث تتمدد جماعات إرهابية خطيرة. إنها ملفات تجعل مهمة الرجل ليست بالسهلة خلال السنوات الخمس المقبلة، وإن كانت نقطة ضوء صغيرة تلوح في آخر النفق بفضل اكتشافات الغاز قبالة السواحل الموريتانية، حيث تحدثت التقديرات عن احتياطي يصل إلى 60 تريليون قدم مكعب من الغاز، سيبدأ إنتاجه وتسويقه عام 2022.


مقالات ذات صلة

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

حصاد الأسبوع Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

سطرت نيتومبو ناندي ندايتواه، 72 عاماً، اسمها في التاريخ بوصفها أول امرأة تتولى رئاسة ناميبيا منذ استقلال البلاد عام 1990، بعدما حصدت 57 في المائة من الأصوات في

فتحية الدخاخني ( القاهرة)
رياضة سعودية السعودية تستمر في تشكيل خريطة مختلف الرياضات العالمية بتنظيم واستضافات غير مسبوقة (الشرق الأوسط)

السعودية ستُشكل خريطة الرياضة العالمية في 2025

شارف عام حافل بالأحداث الرياضية بما في ذلك الألعاب الأولمبية التي حظيت بإشادة واسعة وأربع بطولات قارية لكرة القدم على الانتهاء ومن المتوقع أن يكون عام 2025 أقل.

«الشرق الأوسط» (لندن)
حصاد الأسبوع فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية بقيادة ميشال بارنييه في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)،

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع خافيير ميلي (أ.ب)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار

شوقي الريّس (مدريد)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.