«حراك 22 فبراير»... ثورة سلمية اقتلعت {عرش الفساد} في الجزائر

انتخاب رئيس جديد عبر صناديق الاقتراع لم يضع حداً له

الرئيس الجزائري المنتخب عبد المجيد تبون يلقي كلمة خلال مراسم تنصيبه  في القصر الرئاسي بالعاصمة الجزائر في 19 ديسمبر الحالي (أ.ب)
الرئيس الجزائري المنتخب عبد المجيد تبون يلقي كلمة خلال مراسم تنصيبه في القصر الرئاسي بالعاصمة الجزائر في 19 ديسمبر الحالي (أ.ب)
TT

«حراك 22 فبراير»... ثورة سلمية اقتلعت {عرش الفساد} في الجزائر

الرئيس الجزائري المنتخب عبد المجيد تبون يلقي كلمة خلال مراسم تنصيبه  في القصر الرئاسي بالعاصمة الجزائر في 19 ديسمبر الحالي (أ.ب)
الرئيس الجزائري المنتخب عبد المجيد تبون يلقي كلمة خلال مراسم تنصيبه في القصر الرئاسي بالعاصمة الجزائر في 19 ديسمبر الحالي (أ.ب)

تعهد الرئيس الجزائري الجديد عبد المجيد تبون في اليوم الأول لانتخابه 12 من ديسمبر (كانون الأول) الجاري، بإدخال تغيير كبير على الدستور كأول خطوة في بدايته حكمه، وبـ«الإنصات لمطالب الحراك الشعبي المبارك»، الذي أعلن في اليوم الموالي للانتخاب عدم اعترافه بالرئيس، بحجة أنه «يمثل نظام بوتفليقة»، الرئيس الذي حكم البلاد لمدة 20 سنة، وأجبرته ثورة شعبية سلمية على التنحي.
وفي وقت كان فيه كل شيء يوحي في الجزائر بأن الولاية الخامسة للرئيس عبد العزيز بوتفليقة، قدر محتوم، انفجر الشارع في 22 فبراير (شباط) الماضي، رافضا التمديد لرئيس لم يحدّث شعبه، ولم يؤد أي نشاط رسمي منذ 6 سنوات كاملة، بسبب مرض أقعده على كرسي متحرك وأفقده التحكم في حواسه.
لكن هذا العجز الصحي استغله شقيقه وكبير مستشاريه، السعيد بوتفليقة (في السجن حاليا)، للاستيلاء على صلاحيات الرئيس وتسيير الدولة، وكان على وشك عزل قائد أركان الجيش، الفريق أحمد قايد صالح الذي أضحى الحاكم الفعلي للبلاد.
لكن بعد 10 أيام من المظاهرات المليونية، خاطب بوتفليقة الجزائريين عبر رسالة، قرأها مدير حملته الانتخابية عبد الغني زعلان (حصل على البراءة بعد فترة سجن دامت 4 أشهر)، تعهد فيها بأنه سيقوم في حال إجراء الانتخابات الرئاسية، التي كانت مقررة في 18 أبريل (نيسان) الماضي، بتنظيم انتخابات رئاسية مبكرة على أن تحدد تاريخها «ندوة وطنية»، اقترحها كورقة طريق للخروج من الأزمة السياسية، التي تعقدت أكثر منذ إصابته بجلطة دماغية في 27 من أبريل 2013، كما دعا الطبقة السياسية والمجتمع المدني إلى المشاركة في صياغة إصلاحات سياسية، ستكون من أهم مخرجات «الندوة».
وكان الرئيس يروم بهذه الخطة أن يبحث لنفسه ولعائلته عن «مخرج مشرف» من حكم سيطر عليه لمدة 20 سنة، وطوعه لفائدة شقيقه وشبكة من الموالين له، أبرزهم رجال أعمال تمكنوا من تكوين ثروة ضخمة بفضل مشروعات حكومية، أهداها لهم السعيد بوتفليقة، ورؤساء وزراء ووزراء ورجال أعمال، كثير منهم أدانهم القضاء بالسجن لسنوات طويلة. لكن سقطت الأحكام بحقهم عشية الاستحقاق الرئاسي، الذي جرى في 12 من ديسمبر الجاري، وكانت بمثابة صدمة لهم ولعائلاتهم، ومفاجأة كبيرة ممن كانوا يعتقدون بأن محاسبة رؤوس الفساد بمثابة «معجزة».
وبرغم تعهدات الرئيس بتدارك أخطاء 20 سنة من الحكم، لم يهدأ الشارع، واستمر هديره، فتيقنت «جماعة بوتفليقة» بأن الجزائريين يتعاملون مع أي مقترح منهم على أنه «حيلة»، الهدف منها الالتفاف على المطلب الأساسي، الذي دفعهم إلى الثورة عليها، وهو انسحاب الرئيس فورا من الحكم، ووقف النهب المنظم للمال العام، ومحاسبة المتورطين في فساد كان سببا في تفويت فرص كثيرة على الجزائر لتحقيق إقلاع اقتصادي، حيث توفرت في الـ20 سنة من حكم الرئيس ألف مليار دولار، بفضل مداخيل بيع النفط والغاز. وهذا المبلغ بحسب خبراء في الاقتصاد تم إهداره في مشروعات غير رابحة، بينما كان يمكن أن يحقق قيمة مضافة للاقتصاد، وذلك بتنويعه للتخلص من ريع المحروقات. فيما أكد مراقبون أن أكبر فشل يتحمله بوتفليقة «هو عجزه عن بناء اقتصاد حقيقي».
في خضم هذه التطورات، أعلن الجيش بشكل صريح أنه متخندق في صف المتظاهرين، وتعهد رئيس أركانه قايد صالح بـ«مرافقة» القضاء خلال إجراء تحقيقاته، ثم محاسبة الضالعين في الفساد.
وكان أول إجراء قام به، بعد الضغط على بوتفليقة لإجباره على الاستقالة، هو اعتقال شقيق الرئيس ومديري المخابرات السابقين الفريق محمد مدين، الشهير بـ«الجنرال توفيق»، واللواء عثمان طرطاق المدعو «البشير»، كما اعتقل معهما المرأة السياسية المقربة من عائلة بوتفليقة، البرلمانية لويزة حنون، واتهم القضاء العسكري الأربعة بـ«التآمر على سلطة الدولة» و«التآمر على الجيش».
لكن الحقيقة، بحسب عدد من المراقبين، هو أن قايد صالح (79 سنة) اعتقلهم وسجنهم لأنهم عقدوا اجتماعات في بداية الثورة السلمية، بحثت عزله. وبذلك، فقد سارع الجنرال صالح إلى إنقاذ نفسه قبل أن يستعمل السعيد، بطريقة غير شرعية تعوّد عليها، صلاحيات شقيقه الرئيس، بخصوص تعيين وإقالة كبار المسؤولين المدنيين والعسكريين. وكان صالح قائدا للقوات البرية عندما تسلم بوتفليقة الحكم عام 1999، ويعود له الفضل في تعيينه رئيسا لأركان الجيش عام 2004، ثم نائبا لوزير الدفاع عام 2015، وكرد للجميل وفّر له الحماية في فترة مرضه، وكان يردّ بحدة على دعوات المعارضة بتطبيق الدستور فيما يخص عزل رئيس الجمهورية في حالة وجود مانع صحي مزمن. غير أن تزامن الاحتجاجات الشعبية مع محاولات عزله دفعه إلى التخلي عنه.
وفي الرابع من يوليو (تموز) الماضي، دعا الرئيس الانتقالي عبد القادر بن صالح إلى انتخابات جديدة، وألح قايد صالح على إجرائها تحاشيا لـ«فترة انتقالية»، كانت المعارضة وقطاع من الحراك يطالبان بها. غير أن عزوف «الأوزان الثقيلة» عن الترشح، أفشل المسعى، فاضطرت السلطة إلى إلغائها، وكان على بن صالح أن يمدد حكمه الانتقالي المحدد في الدستور بثلاثة أشهر فقط، وكانت مدته قد انتهت بحلول موعد الاستحقاق.
في غضون ذلك، بقي ملايين المتظاهرين محافظين على وهج الحراك، رغم متاعب الصوم في رمضان، واستمرت المظاهرات رغم حرارة الصيف الشديدة، ومعها بدأ صبر قائد الجيش ينفد، وسرعان ما «انقلب» على «الحراكيين» بشن حملة اعتقالات واسعة، طالت في البداية «حاملي الراية الأمازيغية»، وبعدها عدة ناشطين بارزين. وأظهر حساسية بالغة من أي شخص ينتقده في وسائل الإعلام وفي شبكة التواصل الاجتماعي. وفرض مضايقات شديدة على الصحف والتلفزيونات الخاصة والتلفزيون الحكومي، وأجبرهم على وقف تغطية المظاهرات، كما منعهم من استضافة المعارضين لانتخابات جرى تنظيمها من طرف السلطة، التي استخلفت بوتفليقة.
واستدعى بن صالح الهيئة الانتخابية من جديد، بعد أن اقترح قايد صالح في خطاب تاريخ إجرائها في 12 من ديسمبر، وأمر وسائل الإعلام كلها بتكييف برامجها مع الأجندة الجديدة. فيما أعلنت كل أحزاب المعارضة مقاطعة الاستحقاق، غير أن شخصيات حزبية، وأخرى مستقلة مقربة من السلطة، وجدت في هذه الأجندة «شروطا معقولة تضمن إجراء انتخابات شفافة»، فترشح أكثر من 23 شخصا لها، تمكن خمسة فقط من جميع التوقيعات اللازمة للترشح (55 ألفا)، وهم رئيسا الوزراء سابقا علي بن فليس وعبد المجيد تبون، ووزير الثقافة سابقا عز الدين ميهوبي، أمين عام بالنيابة لحزب «التجمع الوطني الديمقراطي»، ووزير السياحة سابقا عبد القادر بن قرينة، الذي يرأس الحزب الإسلامي «حركة البناء الوطني»، وعبد العزيز بلعيد رئيس حزب «جبهة المستقبل». وفي سياق ذلك، تم إطلاق «سلطة مستقلة للانتخابات» كـ«ضمانة على نزاهة على العملية الانتخابية»، إذ عوضت وزارة الداخلية في تنظيم ومراقبة الانتخابات وإعلان نتائجها، وذلك لأول مرة منذ الاستقلال. لكن باقتراب موعد الانتخابات ظهر انقسام حاد في الشارع، بين مؤيد يرى في اختيار رئيس جديد بداية مخرج من الأزمة، وبأن وجود رئيس «ناقص للشرعية أفضل من عدمه»، وبين رافض للانتخاب بحجة أن «النظام يبحث عن ولاية خامسة من دون بوتفليقة»، وذلك بترشيح أشخاص محسوبين عليه. ثم عاد الجدل من جديد حول «مرشح الجيش» في الانتخابات، بينما نفى صالح ذلك بشدة، كما نفى «أي طموح له في السياسة».
يقول زين الدين غبولي، الكاتب الجزائري في «معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى»، في قراءته للأحداث التي عاشتها الجزائر في 2019: «أعتقد أن غضب الجزائريين كان مبرّرا ومتوقعا، بل جاء متأخراً. فالكثير من الملاحظين للساحة السياسية الجزائرية توقعوا غضبا شعبيا غير مسبوق، حينما ترشح بوتفليقة لعهدة رابعة في حالته الصحية الحرجة (عام 2014)، إلا أنني أعتقد أنه كانت هناك عوامل ساهمت في إخماد الغضب الشعبي في 2014، تمثلت في الخوف المتجذر من أحداث العشرية السوداء، وتمكن الدولة من شراء السلم الاجتماعي، وهذه العوامل اختفت تماما اليوم. إضافة لهذا، أعتقد أن الجزائريات والجزائريين شعروا بكم رهيب من الإهانة المعنوية، حينما ترشح بوتفليقة مجددا في ظروفه.


مقالات ذات صلة

حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

حصاد الأسبوع من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)

حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

طوال فترة الحملات الانتخابية في الولايات المتحدة، حرص الرئيس المنتخب دونالد ترمب على تأكيد قدرته على كسر كل الحواجز، وإعادة تشغيل العلاقات مع موسكو عبر تفاهمات

رائد جبر (موسكو)
حصاد الأسبوع صورة مركبة لبوتين وترمب (أ.ف.ب)

لقاءات بوتين وترمب... كثير من الوعود وقليل من التقارب

فور إعلان الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب استعداده لعقد لقاء سريع مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين فور توليه السلطة، برزت ردود فعل سريعة تذكر بلقاءات سابقة

حصاد الأسبوع تشابو يواجه تحديات عدة... من التمرد في منطقة كابو ديلغادو إلى السعي لتحقيق تنمية اقتصادية واستغلال موارد الغاز الطبيعي وإدارة تأثيرات التغير المناخي

دانيال تشابو... رئيس موزمبيق الجديد الطامح إلى استعادة الاستقرار

أدَّى دانيال تشابو، الأربعاء الماضي، اليمين الدستورية رئيساً لموزمبيق، مركِّزاً على اعتبار استعادة الاستقرار السياسي والاجتماعي «أولوية الأولويات».

فتحية الدخاخني (القاهرة)
حصاد الأسبوع لقطة للعاصمة الموزمبيقية مابوتو (رويترز)

موزمبيق و«فريليمو»... لمحة تاريخية وجيو ـــ سياسية

منذ ما يقرب من خمسين سنة يتربع حزب «فريليمو»، أو «جبهة تحرير موزمبيق»، على سدة الحكم في موزمبيق، مرسّخاً نظام الحزب الواحد، مع أن دستور البلاد المعدل عام 1992

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
حصاد الأسبوع الزعيم الكندي جاستن ترودو يعلن أن لا رغبة لبلاده في أن تصبح ولاية أميركية (أ.ب)

ألمانيا تعيش هاجس التعايش مع مطامح ترمب وماسك

لم يدخل الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب البيت الأبيض بعد... ومع ذلك تعيش أوروبا منذ أسابيع على وقع الخوف من الزلزال الآتي. وكلما اقترب موعد الـ20 يناير

راغدة بهنام (برلين)

لقاءات بوتين وترمب... كثير من الوعود وقليل من التقارب

صورة مركبة لبوتين وترمب (أ.ف.ب)
صورة مركبة لبوتين وترمب (أ.ف.ب)
TT

لقاءات بوتين وترمب... كثير من الوعود وقليل من التقارب

صورة مركبة لبوتين وترمب (أ.ف.ب)
صورة مركبة لبوتين وترمب (أ.ف.ب)

> فور إعلان الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب استعداده لعقد لقاء سريع مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين فور توليه السلطة، برزت ردود فعل سريعة تذكر بلقاءات سابقة جمعت الرئيسين.

وللعلم، خلال الولاية السابقة لترمب، التقى بوتين وترمب أربع مرات بصيغ مختلفة: على هامش قمتي «مجموعة العشرين» و«منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ» في عام 2017. ويوم 16 يونيو (حزيران) 2018 في هلسنكي عاصمة فنلندا، وبعد سنة، يوم 29 يونيو 2019. في قمة مجموعة العشرين في أوساكا باليابان.

مع ذلك، بعد كل اللقاءات السابقة، ورغم إظهار الاستعداد للحوار، فإن الأزمة في العلاقات بين موسكو وواشنطن تفاقمت. وصعّد المعارضون السياسيون لترمب في الولايات المتحدة هجماتهم عليه، واتهموه بـ«التواطؤ مع موسكو». وهو ما دفعه إلى فرض رُزَم واسعة من العقوبات على روسيا، ليكون الرئيس الأميركي الأكثر صرامة في التعامل مع «الكرملين»، برغم تصريحاته المتكرّرة حول رغبته في الحفاظ على علاقات جيدة مع بوتين.

وفي هذه المرة أيضا، ومع أن ترمب استبق التطورات بتعديل خطابه السابق المُفرط في التفاؤل حول قدرته على وضع حد للصراع حول أوكرانيا في 24 ساعة، ليغدو الوعد «التوصل إلى تسوية في غضون 6 أشهر»، لكن المؤشرات على الأرض - وفقاً للقناعة الروسية - لا تدفع إلى توقع اختراقات كبرى في أي لقاء مقبل. وفي أحسن الأحوال يتوقع «الكرملين» كسراً جزئياً للجليد، وإعادة فتح بعض قنوات الاتصال التي سبق تجميدها سابقاً. وربما، وفقاً لتوقعات أخرى، إعادة تشغيل الحوار حول ملفات التسلح.

باختصار، ترى أوساط روسية أن ترمب سيحاول تقديم الانفتاح على حوار مع روسيا بكونه إطاراً للإيحاء الداخلي بتهدئة التوتر على هذه الجبهة والتفرّغ للأولويات الأبرز التي تضعها إدارته في خططها خلال المرحلة المقبلة.