«حراك 22 فبراير»... ثورة سلمية اقتلعت {عرش الفساد} في الجزائر

انتخاب رئيس جديد عبر صناديق الاقتراع لم يضع حداً له

الرئيس الجزائري المنتخب عبد المجيد تبون يلقي كلمة خلال مراسم تنصيبه  في القصر الرئاسي بالعاصمة الجزائر في 19 ديسمبر الحالي (أ.ب)
الرئيس الجزائري المنتخب عبد المجيد تبون يلقي كلمة خلال مراسم تنصيبه في القصر الرئاسي بالعاصمة الجزائر في 19 ديسمبر الحالي (أ.ب)
TT

«حراك 22 فبراير»... ثورة سلمية اقتلعت {عرش الفساد} في الجزائر

الرئيس الجزائري المنتخب عبد المجيد تبون يلقي كلمة خلال مراسم تنصيبه  في القصر الرئاسي بالعاصمة الجزائر في 19 ديسمبر الحالي (أ.ب)
الرئيس الجزائري المنتخب عبد المجيد تبون يلقي كلمة خلال مراسم تنصيبه في القصر الرئاسي بالعاصمة الجزائر في 19 ديسمبر الحالي (أ.ب)

تعهد الرئيس الجزائري الجديد عبد المجيد تبون في اليوم الأول لانتخابه 12 من ديسمبر (كانون الأول) الجاري، بإدخال تغيير كبير على الدستور كأول خطوة في بدايته حكمه، وبـ«الإنصات لمطالب الحراك الشعبي المبارك»، الذي أعلن في اليوم الموالي للانتخاب عدم اعترافه بالرئيس، بحجة أنه «يمثل نظام بوتفليقة»، الرئيس الذي حكم البلاد لمدة 20 سنة، وأجبرته ثورة شعبية سلمية على التنحي.
وفي وقت كان فيه كل شيء يوحي في الجزائر بأن الولاية الخامسة للرئيس عبد العزيز بوتفليقة، قدر محتوم، انفجر الشارع في 22 فبراير (شباط) الماضي، رافضا التمديد لرئيس لم يحدّث شعبه، ولم يؤد أي نشاط رسمي منذ 6 سنوات كاملة، بسبب مرض أقعده على كرسي متحرك وأفقده التحكم في حواسه.
لكن هذا العجز الصحي استغله شقيقه وكبير مستشاريه، السعيد بوتفليقة (في السجن حاليا)، للاستيلاء على صلاحيات الرئيس وتسيير الدولة، وكان على وشك عزل قائد أركان الجيش، الفريق أحمد قايد صالح الذي أضحى الحاكم الفعلي للبلاد.
لكن بعد 10 أيام من المظاهرات المليونية، خاطب بوتفليقة الجزائريين عبر رسالة، قرأها مدير حملته الانتخابية عبد الغني زعلان (حصل على البراءة بعد فترة سجن دامت 4 أشهر)، تعهد فيها بأنه سيقوم في حال إجراء الانتخابات الرئاسية، التي كانت مقررة في 18 أبريل (نيسان) الماضي، بتنظيم انتخابات رئاسية مبكرة على أن تحدد تاريخها «ندوة وطنية»، اقترحها كورقة طريق للخروج من الأزمة السياسية، التي تعقدت أكثر منذ إصابته بجلطة دماغية في 27 من أبريل 2013، كما دعا الطبقة السياسية والمجتمع المدني إلى المشاركة في صياغة إصلاحات سياسية، ستكون من أهم مخرجات «الندوة».
وكان الرئيس يروم بهذه الخطة أن يبحث لنفسه ولعائلته عن «مخرج مشرف» من حكم سيطر عليه لمدة 20 سنة، وطوعه لفائدة شقيقه وشبكة من الموالين له، أبرزهم رجال أعمال تمكنوا من تكوين ثروة ضخمة بفضل مشروعات حكومية، أهداها لهم السعيد بوتفليقة، ورؤساء وزراء ووزراء ورجال أعمال، كثير منهم أدانهم القضاء بالسجن لسنوات طويلة. لكن سقطت الأحكام بحقهم عشية الاستحقاق الرئاسي، الذي جرى في 12 من ديسمبر الجاري، وكانت بمثابة صدمة لهم ولعائلاتهم، ومفاجأة كبيرة ممن كانوا يعتقدون بأن محاسبة رؤوس الفساد بمثابة «معجزة».
وبرغم تعهدات الرئيس بتدارك أخطاء 20 سنة من الحكم، لم يهدأ الشارع، واستمر هديره، فتيقنت «جماعة بوتفليقة» بأن الجزائريين يتعاملون مع أي مقترح منهم على أنه «حيلة»، الهدف منها الالتفاف على المطلب الأساسي، الذي دفعهم إلى الثورة عليها، وهو انسحاب الرئيس فورا من الحكم، ووقف النهب المنظم للمال العام، ومحاسبة المتورطين في فساد كان سببا في تفويت فرص كثيرة على الجزائر لتحقيق إقلاع اقتصادي، حيث توفرت في الـ20 سنة من حكم الرئيس ألف مليار دولار، بفضل مداخيل بيع النفط والغاز. وهذا المبلغ بحسب خبراء في الاقتصاد تم إهداره في مشروعات غير رابحة، بينما كان يمكن أن يحقق قيمة مضافة للاقتصاد، وذلك بتنويعه للتخلص من ريع المحروقات. فيما أكد مراقبون أن أكبر فشل يتحمله بوتفليقة «هو عجزه عن بناء اقتصاد حقيقي».
في خضم هذه التطورات، أعلن الجيش بشكل صريح أنه متخندق في صف المتظاهرين، وتعهد رئيس أركانه قايد صالح بـ«مرافقة» القضاء خلال إجراء تحقيقاته، ثم محاسبة الضالعين في الفساد.
وكان أول إجراء قام به، بعد الضغط على بوتفليقة لإجباره على الاستقالة، هو اعتقال شقيق الرئيس ومديري المخابرات السابقين الفريق محمد مدين، الشهير بـ«الجنرال توفيق»، واللواء عثمان طرطاق المدعو «البشير»، كما اعتقل معهما المرأة السياسية المقربة من عائلة بوتفليقة، البرلمانية لويزة حنون، واتهم القضاء العسكري الأربعة بـ«التآمر على سلطة الدولة» و«التآمر على الجيش».
لكن الحقيقة، بحسب عدد من المراقبين، هو أن قايد صالح (79 سنة) اعتقلهم وسجنهم لأنهم عقدوا اجتماعات في بداية الثورة السلمية، بحثت عزله. وبذلك، فقد سارع الجنرال صالح إلى إنقاذ نفسه قبل أن يستعمل السعيد، بطريقة غير شرعية تعوّد عليها، صلاحيات شقيقه الرئيس، بخصوص تعيين وإقالة كبار المسؤولين المدنيين والعسكريين. وكان صالح قائدا للقوات البرية عندما تسلم بوتفليقة الحكم عام 1999، ويعود له الفضل في تعيينه رئيسا لأركان الجيش عام 2004، ثم نائبا لوزير الدفاع عام 2015، وكرد للجميل وفّر له الحماية في فترة مرضه، وكان يردّ بحدة على دعوات المعارضة بتطبيق الدستور فيما يخص عزل رئيس الجمهورية في حالة وجود مانع صحي مزمن. غير أن تزامن الاحتجاجات الشعبية مع محاولات عزله دفعه إلى التخلي عنه.
وفي الرابع من يوليو (تموز) الماضي، دعا الرئيس الانتقالي عبد القادر بن صالح إلى انتخابات جديدة، وألح قايد صالح على إجرائها تحاشيا لـ«فترة انتقالية»، كانت المعارضة وقطاع من الحراك يطالبان بها. غير أن عزوف «الأوزان الثقيلة» عن الترشح، أفشل المسعى، فاضطرت السلطة إلى إلغائها، وكان على بن صالح أن يمدد حكمه الانتقالي المحدد في الدستور بثلاثة أشهر فقط، وكانت مدته قد انتهت بحلول موعد الاستحقاق.
في غضون ذلك، بقي ملايين المتظاهرين محافظين على وهج الحراك، رغم متاعب الصوم في رمضان، واستمرت المظاهرات رغم حرارة الصيف الشديدة، ومعها بدأ صبر قائد الجيش ينفد، وسرعان ما «انقلب» على «الحراكيين» بشن حملة اعتقالات واسعة، طالت في البداية «حاملي الراية الأمازيغية»، وبعدها عدة ناشطين بارزين. وأظهر حساسية بالغة من أي شخص ينتقده في وسائل الإعلام وفي شبكة التواصل الاجتماعي. وفرض مضايقات شديدة على الصحف والتلفزيونات الخاصة والتلفزيون الحكومي، وأجبرهم على وقف تغطية المظاهرات، كما منعهم من استضافة المعارضين لانتخابات جرى تنظيمها من طرف السلطة، التي استخلفت بوتفليقة.
واستدعى بن صالح الهيئة الانتخابية من جديد، بعد أن اقترح قايد صالح في خطاب تاريخ إجرائها في 12 من ديسمبر، وأمر وسائل الإعلام كلها بتكييف برامجها مع الأجندة الجديدة. فيما أعلنت كل أحزاب المعارضة مقاطعة الاستحقاق، غير أن شخصيات حزبية، وأخرى مستقلة مقربة من السلطة، وجدت في هذه الأجندة «شروطا معقولة تضمن إجراء انتخابات شفافة»، فترشح أكثر من 23 شخصا لها، تمكن خمسة فقط من جميع التوقيعات اللازمة للترشح (55 ألفا)، وهم رئيسا الوزراء سابقا علي بن فليس وعبد المجيد تبون، ووزير الثقافة سابقا عز الدين ميهوبي، أمين عام بالنيابة لحزب «التجمع الوطني الديمقراطي»، ووزير السياحة سابقا عبد القادر بن قرينة، الذي يرأس الحزب الإسلامي «حركة البناء الوطني»، وعبد العزيز بلعيد رئيس حزب «جبهة المستقبل». وفي سياق ذلك، تم إطلاق «سلطة مستقلة للانتخابات» كـ«ضمانة على نزاهة على العملية الانتخابية»، إذ عوضت وزارة الداخلية في تنظيم ومراقبة الانتخابات وإعلان نتائجها، وذلك لأول مرة منذ الاستقلال. لكن باقتراب موعد الانتخابات ظهر انقسام حاد في الشارع، بين مؤيد يرى في اختيار رئيس جديد بداية مخرج من الأزمة، وبأن وجود رئيس «ناقص للشرعية أفضل من عدمه»، وبين رافض للانتخاب بحجة أن «النظام يبحث عن ولاية خامسة من دون بوتفليقة»، وذلك بترشيح أشخاص محسوبين عليه. ثم عاد الجدل من جديد حول «مرشح الجيش» في الانتخابات، بينما نفى صالح ذلك بشدة، كما نفى «أي طموح له في السياسة».
يقول زين الدين غبولي، الكاتب الجزائري في «معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى»، في قراءته للأحداث التي عاشتها الجزائر في 2019: «أعتقد أن غضب الجزائريين كان مبرّرا ومتوقعا، بل جاء متأخراً. فالكثير من الملاحظين للساحة السياسية الجزائرية توقعوا غضبا شعبيا غير مسبوق، حينما ترشح بوتفليقة لعهدة رابعة في حالته الصحية الحرجة (عام 2014)، إلا أنني أعتقد أنه كانت هناك عوامل ساهمت في إخماد الغضب الشعبي في 2014، تمثلت في الخوف المتجذر من أحداث العشرية السوداء، وتمكن الدولة من شراء السلم الاجتماعي، وهذه العوامل اختفت تماما اليوم. إضافة لهذا، أعتقد أن الجزائريات والجزائريين شعروا بكم رهيب من الإهانة المعنوية، حينما ترشح بوتفليقة مجددا في ظروفه.


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.