مصر: دستور وحكومة مُعدّلان... «إرهاب» مُحجّم... واقتصاد ينتظر «الثمار»

مصر: دستور وحكومة مُعدّلان... «إرهاب» مُحجّم... واقتصاد ينتظر «الثمار»
TT

مصر: دستور وحكومة مُعدّلان... «إرهاب» مُحجّم... واقتصاد ينتظر «الثمار»

مصر: دستور وحكومة مُعدّلان... «إرهاب» مُحجّم... واقتصاد ينتظر «الثمار»

بينما تطوي مصر حسابات العام 2019 بنجاحاته وإخفاقاته، تبرز ثلاثة ملفات كبرى موزعة بين السياسة والأمن والاقتصاد، تستمد أهميتها من امتداد تأثيراتها فيما هو آتٍ في العام الجديد.
انكب المصريون في شهور سَنَتهم المتداعية، على متابعة تعديلات دستورية تسمح بإمكانية بقاء الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي في سدة الحكم حتى عام 2030، وكذلك فإنهم رصدوا «تحجيماً لوتيرة العمليات الإرهابية المؤثرة»، خصوصاً في شمال سيناء. أما بالنسبة إلى الاقتصاد، فإن استمرار صعود قيمة الجنيه وتعافيه أمام الدولار الأميركي بدا محفزاً لمن ينتظرون «الثمار» بعد «عملية إصلاح قاسية».
لتكن البداية من السياسة إذن، وبحسب ما قالت «الهيئة الوطنية للانتخابات» فإن نتائج الاستفتاء الذي أجري في أبريل (نيسان) الماضي، على تعديلات لدستور البلاد، أسفرت عن موافقة 23 مليون ناخب على التعديلات الدستورية، بنسبة 88.83 في المائة، فيما بلغ إجمالي الرافضين مليونين و945 ألفاً و680 ناخباً بنسبة 11.17 في المائة.
وباتت مصر، وفق تلك النتائج، على موعد مع مشهد جديد يتجاوز عام الاستفتاء. وفضلاً عن تعديل المادة المتعلقة بفترة حكم الرئيس والتي رأى مؤيدوه أنها «تضمن تحقيق الاستقرار، واستمرار إنجاز المشروعات التنموية»، فإن القوات المسلحة بات من بين مهامها الدستورية «صون الدستور والديمقراطية، والحفاظ على المقومات الأساسية للدولة ومدنيتها، ومكتسبات الشعب وحقوق وحريات الأفراد»، وكذلك أصبح في البلاد «مجلس أعلى للجهات والهيئات القضائية»، برئاسة رئيس الجمهورية.
كذلك فإنه يُصعب أن يتجاهل مراقب لعام 2019 في مصر، تلك المظاهرات النادرة والمحدودة التي شهدتها البلاد في سبتمبر (أيلول) الماضي، والتي بدأت بدعوة أطلقها ممثل ومقاول مقيم في إسبانيا يدعى محمد علي، عبر بث مقاطع مصورة تضمنت اتهامات اعتبرت «مسيئة» للجيش، وعلّق الرئيس المصري على بعض ما جاء فيها، حينها، وقال إنها «كذب وافتراء». وقوبلت دعوة التظاهر بتفاعل المئات، لكنها جوبهت بعمليات ضبط وتوقيف طالت ألف شخص تقريباً (تم الإفراج تباعاً عن بعضهم على ذمة القضية)، بحسب إفادة رسمية للنيابة العامة، لكن دعوة تالية للرجل نفسه أخفقت في حشد المتظاهرين، فيما لجأ مؤيدون للحكم إلى تنظيم وقفة ضخمة وحاشدة.
- حديث «الإصلاح»
وفي المقابل، فإن برلمانيين وإعلاميين مقربين من السلطة، أعقبوا تلك المظاهرات بالحديث عن «إصلاحات»، وتحدث رئيس البرلمان علي عبد العال في مستهل دور الانعقاد الخامس للمجلس، مطلع أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، عن «إصلاحات سياسية وحزبية وإعلامية»، خلال المرحلة المقبلة التي وصفها بـ«مرحلة جني الثمار»، بعد فترة انتقالية «استلزمت إجراءات قاسية»، على حد قوله. وزاد: «ستكون هناك وقفة شديدة مع الحكومة، ولن نترك الشعب ومصالحه بعيداً عن هذه القاعة، ولن نسمح لكل المسؤولين التنفيذيين بأن يُصدّروا المشاكل لرئيس الجمهورية، وعليها (الحكومة) أن تحنو على الشعب».
ويعتقد أستاذ العلوم السياسية مصطفى كامل السيد أن «هناك تصوراً لدى بعض المسؤولين بضرورة توسيع مجال حرية الرأي ولكن في حدود مأمونة، ولذلك فقد تصدى لهذا الأمر نواب من حزب الأغلبية مستقبل وطن». ومع ذلك فإن السيد يقول لـ«الشرق الأوسط» إنه لا يتوقع «أن تمتد تلك الحالة من قبول الآراء المعارضة لتشمل إفساح المجال لأحزاب قوية، ومعروفة بمواقفها المغايرة للسلطات».
وقبل أن يطوي العام 2019 آخر صفحاته، أقر البرلمان تعديلاً وزارياً «لم يعكس تغييراً جذرياً» في صيغة السياسات والنخبة الحكومية، وإن كان أظهر الاهتمام بتصعيد الشباب لتولي مناصب نواب الوزراء، كما أثار جدلاً إثر إعادة تكليف وزير الإعلام، وهو المنصب الذي ظل شاغرا منذ إقرار التعديلات الدستورية في عام 2014.
وتضمنت التعديلات دمج وزارتي السياحة والآثار، فضلاً عن إلغاء منصب وزير الاستثمار وإسناد مسؤولياته إلى جانب الإصلاح الإداري إلى رئيس مجلس الوزراء مصطفى مدبولي.
«التعديل الوزاري الأحدث ربما يكون محاولة لتسريع وتعميق الاتجاه السائد، لكنه لا يعبر عن تغيير جذري أو عميق في صيغة السياسات العامة والتوجهات»، وفق ما يرى الدكتور جمال عبد الجواد مستشار «مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية».
وقال عبد الجواد إن «ملفي الاستثمار والإصلاح الإداري يمثلان أهمية قصوى للحكومة، بل يمكن القول إنه يتم تقييم رئيس الحكومة وفق النجاح فيهما، وبالتالي فإن وضعهما تحت إشرافه المباشر قد يسهم في إحراز خطوات أفضل».
ولا يعول عبد الجواد كثيراً على تسمية وزير للإعلام في حل المعضلات القائمة في المشهد الإعلامي المصري، ويقول إن «اللاعبين زادوا واحداً، وبات هناك أكثر من طرف له اختصاصات، بداية من المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، والهيئة الوطنية للإعلام، ووصولاً لنظيرتها للصحافة». ورأى أن «الأمر سيشهد تنافساً وتنازعاً وحلولاً سياسية وليست بالضرورة تتسم بالكفاءة اللازمة للموقف الراهن».
- «تحجيم الإرهاب»
منذ أطلقت قوات الجيش والشرطة في فبراير (شباط) 2018 عملية واسعة النطاق لملاحقة مجموعات مسلحة في شمال سيناء تَدين في معظمها بالولاء لـ«تنظيم داعش»، فإن قدرة «الإرهابيين» على التعبير عن قوتهم باتت أقل، إذا ما قورنت بسنوات سابقة، وذلك وفق ما يرصد الخبير في مكافحة الإرهاب الدولي العقيد حاتم صابر الذي قال لـ«الشرق الأوسط» إن «انطلاق جهود ملاحقة العناصر الإرهابية تعود إلى عام 2013 والذي شهد 308 عمليات إرهابية، بينما تم تحجيم قدرة التنظيمات على التحرك وتلقي الدعم والتسليح، حتى وصلنا إلى 8 عمليات فقط في عام 2018».
وشرح صابر مستنداً إلى إحصاءات أجراها أن «العام 2019 يكاد يكون بلا عمليات تذكر»، موضحاً أن المقصود بالعمليات التي يتم رصدها: «هي تلك الهجمات الكبرى المؤثرة التي توقع عدداً كبيراً من الضحايا، وتؤثر في الأمن القومي للبلاد ككل».
وعندما سُئل عما إذا كانت العمليات الخاطفة التي نفذتها التنظيمات المتطرفة في سيناء ضد قوات الأمن في 2019 وأوقعت ضحايا تمثل تناقضاً مع فكرة «تحجيم الإرهاب»، رأى صابر أنه «لا توجد دولة تستطيع أن تمنع تماماً وقوع العمليات الإرهابية... هذا ضرب من الخيال». واستكمل: «المهم ألا تستطيع تلك العمليات أن تهز صورة الدولة أو معدلات الثقة في الأمن بصورة كبيرة، ووفق هذا المعيار فإن مصر حققت نجاحات في مواجهة الإرهاب».
وغير بعيد عن ذلك، فإن الرئيس السيسي افتتح في مايو (أيار) الماضي، أنفاقاً تحمل اسم «تحيا مصر» تربط بين دلتا البلاد وشبه جزيرة سيناء، وتعول عليها البلاد في تحقيق مشروعات تنموية بالمنطقة وتقدر الحكومة تكلفتها بـ275 مليار جنيه (الدولار يعادل 16 جنيهاً تقريباً).
- انتظار الثمار
في أغسطس (آب) الماضي، تسلمت مصر ملياري دولار كشريحة أخيرة من قرض حصلت عليه من «صندوق النقد الدولي» بقيمة إجمالية 12 مليار دولار. وبدأت الحكومة «خطة إصلاحية» لاقتصاد البلاد وفق هذا الاتفاق قبل 3 سنوات، بلغت ذروتها بتحرير سعر صرف العملة المحلية، ما قفز بمعدلات التضخم إلى مستويات قياسية.
لكن «الكارثة الاقتصادية» التي واجهتها البلاد عام 2016، بحسب تعبير الرئيس المصري في ديسمبر (كانون الأول) 2019 تشير البيانات الرسمية إلى أنه تم تجاوزها، فمن جهة أظهرت أرقام سعر صرف الجنيه تقدماً مطرداً أمام الدولار، وكذلك فقد سجلت أرقام الاحتياطي من العملة الأجنبية في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، 45.354 مليار دولار، في مقابل 42.551 مليار دولار في العام 2018.
ورغم أن الرئيس المصري أقدم في مايو الماضي على إعلان زيادة الحد الأدنى لأجور ومعاشات العاملين في قطاعات مختلفة في الدولة، فإنه قال حينها إن «ذلك لا يعتبر من ثمار الإصلاح». واستدرك أن «الإجراءات التي اتخذناها كانت قاسية بمعنى الكلمة، ولا يزال الوقت مبكراً».
وفي مقابل نمو الاحتياطيات وزيادة الأجور، فضلاً عن تراجع نسبي بأسعار بعض السلع ومنها اللحوم والخضراوات بنهاية العام، فإن أرقاماً أخرى تشير إلى صورة لا يمكن إغفالها، وتتعلق بإعلان «الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء» ارتفاع نسبة الفقر في مصر خلال عام 2018 إلى 32.5 في المائة، مقارنة بنسبة سابقة بلغت 27.8 في المائة في 2015.
ووفق تقدير محمد أبو باشا، رئيس «وحدة تحليل الاقتصاد الكلي» في المجموعة المالية «هيرمس»، فإن توقعاتهم «تشير في العام الجديد إلى صعود معدل النمو ليصل 5.8 في المائة في مقابل تقديرات حكومية تصل إلى 6.1». وأرجع ذلك إلى «استمرار فرص تعافي قطاع السياحة الذي تمكن من تحقيق 12.5 مليار دولار كإيرادات، والفرص المنتظرة في قطاع الطاقة الواعد، وكذلك استمرار سياسة خفض معدلات الفائدة، ما يعتبر محفزاً لنشاط الاستثمار».
وقال أبو باشا لـ«الشرق الأوسط» إنه بالنسبة إلى المواطنين فإنه «على رغم الزيادة النسبية للدخل والأجور في بعض القطاعات، فإنها كانت تتآكل بفعل ضغوط زيادة الأسعار»، ومضيفاً أنه «من المرجح أن تتحسن القدرة الشرائية بفعل استيعاب الأسواق للزيادات الناجمة عن تحرير سعر صرف العملة، وتحرير أسعار المحروقات».



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.