في أحدث حصيلة للأحداث الدامية بإيران خلال الشهر الماضي، كشفت مصادر مسؤولة بوزارة الداخلية الإيرانية عن أن المرشد علي خامنئي جمع كبار المسؤولين في أجهزة الأمن والحكومة بعد 48 ساعة من بداية الاحتجاجات، وأصدر بنفاد صبر أوامر لهم: «افعلوا ما يلزم لوضع حد لها». ونقلت وكالة «رويترز» عن 3 مصادر على صلة وثيقة بدائرة المقربين من خامنئي، ومسؤول رابع، أن نحو 1500 شخص سقطوا قتلى خلال الاحتجاجات التي بدأت في 15 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي واستمرت نحو أسبوعين، ومن بين القتلى 17 في سن المراهقة، ونحو 400 امرأة، وبعض رجال الأمن والشرطة.
وبحسب المصادر؛ فإن أوامر خامنئي أطلقت شرارة أكثر الحملات الأمنية لاحتواء الاحتجاجات دموية منذ ثورة في 1979 التي أطاحت نظام الشاه.
وكانت الأوامر قد صدرت من خامنئي أو إنها صدرت في الاجتماع الذي عقد في 17 نوفمبر الماضي. وبدأت الاحتجاجات بسبب زيادة مفاجئة بنسبة 300 في المائة في أسعار البنزين وسرعان ما اتسع نطاقها لتصبح واحداً من أكبر التحديات التي واجهت النظام الإيراني على مدى 4 عقود.
ووصلت الاحتجاجات إلى أكثر من 100 مدينة وتحولت إلى احتجاجات سياسية. وطالب المتظاهرون من الشباب والطبقة العاملة بتنحي القيادات الدينية. وفي مدن كثيرة تردد هتاف مشابه: «يعيشون كالملوك والناس يزدادون فقراً» حسبما جاء في مقاطع فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي وما قاله شهود.
وفي غضون ساعات تدفق المئات إلى الشوارع في أماكن من بينها مدينة مشهد في الشمال الشرقي ومحافظة كرمان في الجنوب الشرقي ومحافظة الأحواز (خوزستان) في الجنوب الغربي المتاخم للعراق، وذلك وفقاً لما ورد في وسائل الإعلام الرسمية.
وانتشرت مقاطع فيديو فيما بعد على وسائل التواصل الاجتماعي وتلفزيون الدولة ظهرت فيها مشاهد لمصادمات في الأحواز ومدن أخرى بين المواطنين وقوات الأمن.
وبحلول 17 نوفمبر وصلت الاضطرابات إلى العاصمة طهران وطالب فيها الناس بإنهاء حكم رجال الدين وبسقوط قادته. وأحرق المتظاهرون صور خامنئي ودعوا إلى عودة رضا بهلوي ابن شاه إيران الراحل من منفاه؛ وفقاً لما ورد في مقاطع مصورة نشرت على وسائل التواصل الاجتماعي وأقوال شهود العيان. وفي مساء ذلك اليوم التقى خامنئي في مقر إقامته الرسمي بمجمع محصن في وسط طهران كبار المسؤولين؛ بمن فيهم مساعدوه المختصون بالأمن والرئيس حسن روحاني وأعضاء حكومته.
وبحلول 18 نوفمبر بدا أن شرطة مكافحة الشغب تطلق النار عشوائياً على المحتجين في الشوارع، وقالت سيدة من سكان طهران حينها لـ«رويترز» إن «رائحة البارود والدخان في كل مكان». وأضافت أن «الناس يتساقطون على الأرض وهم يهتفون، بينما سعى آخرون إلى اللجوء للبيوت والمتاجر».
وقالت المصادر الثلاثة ذات الصلة الوثيقة بالدائرة المقربة من خامنئي إن الزعيم البالغ من العمر 80 عاماً رفع صوته في ذلك الاجتماع وانتقد أسلوب التعامل مع الاحتجاجات. وبذلك اتجه إلى قواته الخاصة لإخماد الاحتجاجات، فاستخدم «الحرس الثوري» وميليشيا الباسيج الخاصة التي تنتسب له.
ومع انتشار قوات الأمن في طهران لإنهاء الاحتجاجات أطلع مستشارون أمنيون خامنئي على حجم الاحتجاجات. واستعرض وزير الداخلية عدد القتلى والجرحى والاعتقالات. وركز وزير المخابرات وقائد «الحرس الثوري» على دور جماعات المعارضة.
وقالت المصادر الثلاثة إن خامنئي اهتم بوجه خاص بمشاعر الغضب في المدن الصغيرة التي تنتشر بها الطبقة العاملة والتي كان الناخبون من أصحاب الدخول المنخفضة فيها من أعمدة الدعم للنظام.
وستكون لأصوات هؤلاء الناخبين أهميتها في الانتخابات البرلمانية التي تنظم في فبراير (شباط) المقبل وتمثل اختباراً لشعبية الحكام منذ انسحاب الرئيس الأميركي دونالد ترمب من الاتفاق النووي وهي الخطوة التي أدت إلى انخفاض صادرات إيران النفطية بنسبة 80 في المائة منذ العام الماضي.
وتحت وطأة العقوبات، لا يملك خامنئي موارد تذكر لمعالجة معدلات التضخم والبطالة المرتفعة. وتوضح أرقام رسمية أن معدل البطالة يبلغ نحو 12.5 في المائة بصفة عامة. لكن المعدل يتجاوز مثليه تقريباً بين الملايين من الشباب الإيرانيين الذين يتهمون المؤسسة الحاكمة بسوء إدارة اقتصاد البلاد وبالفساد.
ومما أثار غضب خامنئي، صاحب القول الفصل في جميع شؤون البلاد، أن المحتجين أحرقوا صورة المرشد الإيراني الأول الخميني ودمروا تمثالاً له.
ونقل أحد المصادر عن خامنئي قوله للحاضرين: «الجمهورية الإسلامية في خطر. افعلوا ما يلزم لوضع نهاية لذلك. هذا هو أمري لكم»، مضيفاً أنه سيحمّل المسؤولين المجتمعين المسؤولية عن عواقب الاحتجاجات إذا لم يوقفوها على الفور. واتفقت آراء الحاضرين في الاجتماع على أن المحتجين يهدفون لإسقاط نظام الحكم.
وهذا أكبر عدد من الخسائر البشرية في الاحتجاجات ينشر حتى الآن، ويمثل زيادة كبيرة على الأرقام التي رددتها منظمات حقوقية دولية والولايات المتحدة. وقال مسؤولان إيرانيان إن الحصيلة الجديدة مبنية على معلومات تم تجميعها من قوات الأمن والمشارح والمستشفيات ومكاتب الطب الشرعي.
وكان تقرير لمنظمة العفو الدولية صدر في 16 ديسمبر (كانون الأول) الحالي ذكر أن العدد لا يقل عن 304 قتلى. وقالت وزارة الخارجية الأميركية إنها تقدر أن مئات عدة من الإيرانيين قتلوا وإنها اطلعت على تقارير جاء فيها أن العدد قد يتجاوز الألف.
ونقلت «رويترز» عن أحد المصادر أن «الأعداء أرادوا إسقاط الجمهورية الإسلامية وكان من الضروري أن يكون رد الفعل فورياً». وقال مصدر مسؤول رابع، اطلع على الاجتماع، إن خامنئي أوضح أن المظاهرات تستلزم رداً قوياً، مشيراً إلى أن خامنئي «إمامنا مسؤول أمام الله وحده. وهو يحرص على الشعب والثورة. كان في غاية الحزم وقال إن هؤلاء المشاغبين يجب سحقهم».
وقال ناشطون، كما أوضحت تفاصيل كشفت عنها السلطات، إن السلطات الإيرانية استخدمت القوة المميتة بوتيرة أسرع بكثير منذ البداية مقارنة بالاحتجاجات الأخرى في السنوات الأخيرة.
وفي 2009 عندما خرج الملايين في احتجاجات على إعادة انتخاب الرئيس المتشدد محمود أحمدي نجاد، سقط عدد يقدر بنحو 72 قتيلاً. وقال مسؤولون إنه عندما واجهت إيران موجات احتجاج بسبب المصاعب الاقتصادية في 2017 و2018 بلغ عدد القتلى نحو 20 قتيلاً.
وقال عضو كبير في «الحرس الثوري» بمحافظة كرمانشاه غرب البلاد إن حاكم المحافظة أصدر تعليمات في اجتماع طارئ عقد في ساعة متأخرة من الليل بمكتبه يوم 18 نوفمبر، وقال مكررا حديث الحاكم: «تلقينا أوامر من كبار المسؤولين في طهران بإنهاء الاضطرابات. لا رحمة بعد الآن. فهم يهدفون لإسقاط الجمهورية الإسلامية. لكننا سنقضي عليهم».
وحمّل حكام طهران من رجال الدين مسؤولية إثارة الاضطرابات لـ«مثيري شغب» على صلة بخصوم النظام في المنفى وبأعداء البلاد الرئيسيين في الخارج.
ووصف خامنئي الاضطرابات بأنها «مؤامرة في غاية الخطورة». وأكد تقرير بثه تلفزيون الدولة بإيران في 3 ديسمبر الحالي أن قوات الأمن أطلقت النار فقتلت مواطنين، وأن «بعض المشاغبين قتلوا في الاشتباكات».
في 27 نوفمبر الماضي، قال وزير الداخلية عبد الرضا رحماني فضلي، إن المحتجين أضرموا النار في أكثر من 140 موقعاً حكومياً ومئات البنوك وعشرات من محطات الوقود في حين تعرضت 50 قاعدة كانت قوات الأمن تستخدمها للهجوم. وقال الوزير إن ما يصل إلى 200 ألف شخص شاركوا في الاضطرابات في مختلف أنحاء البلاد.
* «رائحة البارود والدخان»
على مدى عشرات السنين حاول النظام الإيراني توسعة نفوذه في مختلف أنحاء الشرق الأوسط؛ من سوريا إلى العراق ولبنان باستثمار قدراتها السياسية والاقتصادية وبدعم فصائل مسلحة. غير أنه يواجه الآن ضغوطاً في الداخل وفي الخارج.
وفي الأشهر الأخيرة وجّه محتجون في مظاهرات شهدتها الشوارع من بغداد إلى بيروت، غضبهم إلى طهران، فأحرقوا العلم الإيراني ورددوا هتافات مناهضة لنظام الحكم الإيراني.
وفي الداخل ازدادت صعوبات الحياة اليومية منذ أعادت الولايات المتحدة فرض عقوبات بعد انسحابها في العام الماضي من الاتفاق النووي بهدف التوصل إلى اتفاق شامل يتضمن ملف الصواريخ الباليستية وتهديدات إيران الإقليمية.
في معشور بمحافظة الأحواز ذات الأهمية الاستراتيجية، في جنوب غربي إيران، سعى أفراد «الحرس الثوري» بعربات مصفحة ودبابات لاحتواء المظاهرات. وقال تلفزيون الدولة إن قوات الأمن فتحت النار على «المشاغبين» المختبئين في الأهوار. وقالت جماعات حقوقية إنها تعتقد أن معشور شهدت واحدا من أعلى إحصاءات أعداد القتلى في إيران بناء على ما سمعته من سكان في المدينة. وقال المسؤول المحلي: «في اليوم التالي عندما توجهنا إلى هناك كانت المنطقة تمتلئ بجثث المحتجين، خصوصاً الشباب. ولم يسمح لنا (الحرس) بنقل الجثث». وقدر عدد القتلى «بالعشرات».
وكانت وزارة الخارجية الأميركية قالت إنها تلقت مقاطع فيديو لرجال «الحرس الثوري» وهم يفتحون النار دون سابق إنذار على المحتجين في معشور قرب أكبر منشأة للبتروكيمياويات جنوب البلاد. وقالت إنه عندما فرّ المحتجون إلى منطقة الأهوار القريبة طاردهم رجال «الحرس الثوري» وحاصروهم بعربات مثبتة عليها مدافع رشاشة وأطلقوا النار عليهم فقتلوا ما لا يقل عن 100 من المحتجين.
وترفض السلطات الإيرانية الرواية الأميركية. وقد قال مسؤولون إيرانيون إن قوات الأمن في معشور تصدت «للمشاغبين»، ووصفوهم بأنهم تهديد أمني لمجمعات البتروكيماويات ولمسار رئيسي للطاقة كان من شأنه أن يخلق أزمة في البلاد إذا تعطل.
وقال مسؤول أمني لـ«رويترز» إن التقارير التي ترددت عن معشور «مبالغ فيها وغير صحيحة» وإن قوات الأمن تدافع عن «الشعب ومنشآت الطاقة... بالمدينة في مواجهة تخريب الأعداء والمشاغبين».
وروت أمٌ لفتى عمره 16 عاماً، عبر الهاتف، كيف احتضنت جثته التي غطتها الدماء بعد إصابته بالرصاص خلال احتجاجات بمدينة غرب إيران في 19 نوفمبر الماضي. وقالت: «سمعت الناس يتصايحون: (أصيب بالرصاص... أصيب بالرصاص)، فجريت ناحية المتجمهرين ورأيت ابني... لكن الرصاص نسف نصف رأسه». وأضافت أنها كانت قد حثت ابنها، الذي ذكرت أن اسمه الأول هو أمير حسين، على عدم المشاركة في الاحتجاجات لكنه لم ينصت لها.
ونقلت «رويترز» عن مسؤول في مدينة كرج غرب طهران أن الأوامر كانت تقضي باستعمال القوة اللازمة لإنهاء الاحتجاجات على الفور. وقال مشترطاً إخفاء هويته: «الأوامر جاءت من طهران. ادفعوهم للعودة إلى بيوتهم ولو بإطلاق النار عليهم».
وقال سكان من المدينة إنهم تعرضوا لإطلاق النار من أسطح المباني بينما كان عناصر «(الحرس الثوري) والشرطة يشهرون مدافع رشاشة وهم يتنقلون بالدراجات النارية». وقال أحد السكان هاتفياً: «سال الدم في كل مكان... دماء في الشوارع».
وفي مدينة أصفهان القديمة التي يبلغ عدد سكانها مليوني نسمة بوسط إيران فشل وعد الحكومة باستخدام أموال الزيادة في أسعار البنزين لدعم الأسر محدودة الدخل، في طمأنة الناس من أمثال بهزاد إبراهيمي الذي قال إن ابن أخيه أرشد إبراهيمي البالغ من العمر 21 عاماً لقي حتفه بالرصاص خلال الحملة الأمنية. وقال إبراهيمي: «في البداية رفضوا تسليمنا الجثة وأرادوا أن يدفنوه مع آخرين قتلوا في الاحتجاجات». وأضاف: «في النهاية دفناه بأنفسنا لكن في ظل وجود مكثف لقوات الأمن».