«السبق الصحافي».. الجدل مستمر

مراسلان من «واشنطن بوست» دخلا التاريخ بقصة ووترغيت

استقالة الرئيس ريتشارد نيكسون عقب فضيحة ووترغيت
استقالة الرئيس ريتشارد نيكسون عقب فضيحة ووترغيت
TT

«السبق الصحافي».. الجدل مستمر

استقالة الرئيس ريتشارد نيكسون عقب فضيحة ووترغيت
استقالة الرئيس ريتشارد نيكسون عقب فضيحة ووترغيت

هناك سؤال واحد يتساءله المولعون بالأخبار: أين اطلعت على هذا الخبر من قبل؟ إن أصل القصة الإخبارية ومسارها عبر مختلف وسائل الإعلام العالمية، وتلاشيها في نهاية المطاف، يعد جزءا من حجم الإثارة التي تنقلها للقارئ.
لا بد أن يكون هؤلاء الذين يتصفحون وسائل الإعلام العربية قد طرحوا هذا السؤال منذ بضعة أيام عندما سلطت العديد من الصحف، لا سيما في مصر ولبنان، الضوء على خبر البيان الصادر عن الشيخ يوسف القرضاوي، رجل الدين المصري الذي تربطه صله وثيقة بجماعة الإخوان المسلمين. ويتناول البيان، الذي نقل من خلال شريط فيديو رديء الكفاءة، تعليق الشيخ القرضاوي - الذي يرأس أيضا الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين - على تنظيم داعش المستحدث، و«خليفته» أبو بكر البغدادي؛ حيث أوضح أن البغدادي كان عضوا بجماعة «الإخوان المسلمين»، لكنه «انشق» عنها، مبتعدا عما يعدّه سبيل الهدى. وكانت «الشرق الأوسط» لها السبق في الحصول على نسخة من شريط الفيديو، ولم يكن من الغريب أن يكون لهذه الجريدة السبق في نشر خبر حول توجيه القرضاوي اللوم لتنظيم داعش والبغدادي.
تكمن المشكلة في أن العديد من وكالات الأنباء العربية التي تداولت الخبر نقلا عن «الشرق الأوسط» لم تذكر اسم الجريدة كمصدر استقت منه الخبر، أو حتى اسم محررها ككاتب له. فيما قام عدد من وكالات الأنباء الغربية بتوثيق الخبر بالإشارة إلى مصدره الأصلي.
الإشارة إلى المصدر تعد أمرا ضروريا، ليس فقط لكونها من أخلاقيات مهنة الصحافة، ولكن أيضا لعدة أسباب عملية. فعلى سبيل المثال، إذا كان مصدر الخبر صحيفة محترمة أو مراسلا ذا خبرة، فإن القصة التي جرى نقلها ستحظى بالمزيد من المصداقية لدى القارئ حال تسمية ذلك المصدر. وعلى النقيض من ذلك، فإذا كان المصدر غير مشهور أو مشكوكا فيه، فإن الإشارة إلى المصدر في هذه الحالة ستكون بمثابة تحذير للقارئ، وتقلل من درجة مصداقية الخبر. في الواقع، عادة ما يستخدم من يلجأون إلى نشر معلومات مضللة منافذ إعلامية جديدة قاموا بتأسيسها بغرض إيجاد مصدر لكل مادة تنشرها آلة الدعاية الخاصة بهم. كما أن الإشارة إلى المصدر تقي من مواجهة إجراءات قانونية معادية. وتجدر الإشارة إلى أن بعض المصادر تكون محمية، عندما يتعلق الأمر بالبرلمانات والمحاكم القضائية على سبيل المثال؛ أي يمكن للمراسل الاستشهاد بما دار من مناقشات فيهما دون عقاب. الإشارة إلى النقل عن مصادر أخرى ستجعل الأمر واضحا منذ البداية، وفي حال الكشف عن أي تشهير أو نية خبيثة، فإن ذلك لن يكون من جانب الجهة الإعلامية التي قامت بتغطية القصة.
وكان يُطلق على هؤلاء الذين يقومون بنشر أخبار قام آخرون بتغطيتها وتقديمها على أنها من صنعهم، في شارع فليت القديم، مصطلح «شغبر»، نظرا لأن الشغبر عادة ما يتغذى على الجثث التي خلفها الأسد بعد أن تغذى «ملك الغابة» على حيوانات أصغر.
وفي الواقع، لم يجر الحصول على «السبق الصحافي» بالطريقة ذاتها في كل الحالات. وعادة ما يأتي السبق الصحافي على سبيل الصدفة، جنبا إلى جنب مع وجود المراسل، ببساطة، في المكان المناسب في الوقت المناسب. ومن أمثلة ذلك، السبق الصحافي لمراسل صحيفة «لوموند» إريك رولو عن قرار جمال عبد الناصر إغلاق معسكرات العمل التي أسسها نظامه في مصر. ويطلعنا رولو في مذكراته الرائعة أن عبد الناصر قرر القيام بذلك على أي حال، وأن وجود مراسل أجنبي أتاح له الفرصة للكشف عما يعتزم القيام به بطريقة غير مباشرة.
لكن قد تتاح الفرصة بشكل مباشر لبعض المراسلين، وفي هذا الصدد، يمكن الإشارة إلى قصة ووترغيت عندما كان يود مجموعة من المسؤولين داخل الإدارة الأميركية تدمير الرئيس ريتشارد نيكسون من خلال تسريب معلومات عن الانتهاكات التي اقترفتها حملته الانتخابية خلال انتخابات الرئاسة لعام 1972. وتمكن اثنان من مراسلي «واشنطن بوست» من تزويد الصحيفة بالمعلومات تدريجيا، وأصبحا أسطورة في زمانهما، حتى بعد استقالة الرئيس نيكسون.
ويمكن أيضا أن يتحقق السبق الصحافي عندما يتنازل المراسل بعض الشيء عن مبادئه، ويمكن هنا الإشارة إلى ما كشف عنه كاتب عمود بارز بصحيفة «واشنطن بوست» يُدعى جورج ويل - في حقبة السبعينيات - عن قرار مدهش متخذ من جانب الرئيس جيمي كارتر. فما هو مصدر معلوماته؟ وآنذاك زعم كارتر أنه جرى استدعاء الصحافي إلى المكتب البيضاوي، وهناك استرق نظرة سريعة على رسالة كانت توجد على المكتب الرئاسي، بينما كان يجري الرئيس مكالمة هاتفية. وبالتأكيد نفى ويل قيامه بذلك.
وفي بعض الأحيان، يحدث السبق الصحافي بسبب وضع الصحيفة في سياق خاص، فمثلا، أثناء الحرب الأهلية في البوسنة والهرسك، تلقت «الشرق الأوسط»، بشكل حصري «نداء من أجل المساعدة» من الرئيس عزت بيغوفيتش. وبالفعل جرى نشر عنوان رئيس في الصفحة الأولى وتداولته مئات المنافذ الإعلامية الأخرى؛ حيث كان القائد المسلم البوسني يود توصيل رسالة من خلال هذه الجريدة باعتبارها الجريدة العربية اليومية الرائدة.
وخلال الحرب الأهلية في اليمن عام 1994، أجرى قادة كلا الجانبين مقابلات حصرية مع «الشرق الأوسط»، ويتضح من ذلك أن مكانة الجريدة المرموقة كانت سببا لأن يكون لها هذا السبق الصحافي. وعلى النقيض من ذلك، لم يتح قادة الحرب الأهلية في نيكاراغوا، مثلا، هذه الفرصة لـ«الشرق الأوسط»، ولكن كان يعود السبق لصحيفة «ديلي كلارين»، الصحيفة الأرجنتينية الرائدة.
وبالتأكيد، لا يمكن أن تنفرد صحيفة واحدة بموضوعات السبق الصحافي بأكملها، وإذا كان الأمر كذلك فإنها لن تتمكن من تأدية وظيفتها على أكمل وجه.



«حرب الإعلام» التضليلية... الهاجس الجديد للاتحاد الأوروبي

مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
TT

«حرب الإعلام» التضليلية... الهاجس الجديد للاتحاد الأوروبي

مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)

«المعارضة الحقيقية هي وسائل الإعلام، ومواجهتها تقتضي إغراقها بالمعلومات المفبركة والمضللة».

هذا ما قاله ستيف بانون، كبير منظّري اليمين المتطرف في الولايات المتحدة عندما كان مشرفاً على استراتيجية البيت الأبيض في بداية ولاية دونالد ترمب الأولى عام 2018.

يومذاك حدّد بانون المسار الذي سلكه ترمب للعودة إلى الرئاسة بعد حملة قادها المشرف الجديد على استراتيجيته، الملياردير إيلون ماسك، صاحب أكبر ثروة في العالم، الذي يقول لأتباعه على منصة «إكس» «X» (تويتر سابقاً): «أنتم اليوم الصحافة».

رصد نشاط بانون

في أوروبا ترصد مؤسسات الاتحاد وأجهزته منذ سنوات نشاط بانون ومراكز «البحوث» التي أنشأها في إيطاليا وبلجيكا والمجر، ودورها في صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة في غالبية الدول الأعضاء، والذي بلغ ذروته في انتخابات البرلمان الأوروبي مطلع الصيف الماضي.

وتفيد تقارير متداولة بين المسؤولين الأوروبيين بأن هذه المراكز تنشط بشكل خاص على منصات التواصل الاجتماعي، وأن إيلون ماسك دخل أخيراً على خط تمويلها وتوجيه أنشطتها، وأن ثمة مخاوف من وجود صلات لهذه المراكز مع السلطات الروسية.

درع ضد التضليل

أمام هذه المخاوف تنشط المفوضية الأوروبية منذ أسابيع لوضع اللمسات الأخيرة على ما أسمته «الدرع ضد التضليل الإعلامي» الذي يضمّ حزمة من الأدوات، أبرزها شبكة من أجهزة التدقيق والتحقق الإلكترونية التي تعمل بجميع لغات الدول الأعضاء في الاتحاد، إلى جانب وحدات الإعلام والأجهزة الرقمية الاستراتيجية الموجودة، ومنها منصة «إي يو فس ديسانفو» EUvsDisinfo المتخصّصة التي انطلقت في أعقاب الغزو الروسي لشبه جزيرة القرم وضمّها عام 2014. و«هي باتت عاجزة عن مواجهة الطوفان التضليلي» في أوروبا... على حد قول مسؤول رفيع في المفوضية.

الخبراء، في بروكسل، يقولون إن الاتحاد الأوروبي يواجه اليوم «موجة غير مسبوقة من التضليل الإعلامي» بلغت ذروتها إبان جائحة «كوفيد 19» عام 2020، ثم مع نشوب الحرب الروسية الواسعة النطاق ضد أوكرانيا في فبراير (شباط) 2022.

وإلى جانب الحملات الإعلامية المُضلِّلة، التي تشّنها منذ سنوات بعض الأحزاب والقوى السياسية داخلياً، تعرّضت الساحة الأوروبية لحملة شرسة ومتطورة جداً من أطراف خارجية، في طليعتها روسيا.

ومع أن استخدام التضليل الإعلامي سلاحاً في الحرب الهجينة ليس مُستجدّاً، فإن التطوّر المذهل الذي شهدته المنصّات الرقمية خلال السنوات الأخيرة وسّع دائرة نشاطه، وضاعف تداعياته على الصعيدين: الاجتماعي والسياسي.

الهدف تعميق الاستقطاب

وراهناً، تحذّر تقارير عدة وضعتها مؤسسات أوروبية من ازدياد الأنشطة التضليلية بهدف تعميق الاستقطاب وزعزعة الاستقرار في مجتمعات البلدان الأعضاء. وتركّز هذه الأنشطة، بشكل خاص، على إنكار وجود أزمة مناخية، والتحريض ضد المهاجرين والأقليات العرقية أو الدينية، وتحميلها زوراً العديد من المشاكل الأمنية.

وتلاحظ هذه التقارير أيضاً ارتفاعاً في كمية المعلومات المُضخَّمة بشأن أوكرانيا وعضويتها في حلف شمال الأطلسي «ناتو» أو انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن معلومات مضخمة حول مولدافيا والاستفتاء الذي أجري فيها حول الانضمام إلى الاتحاد، وشهد تدخلاً واسعاً من جانب روسيا والقوى الموالية لها.

ستيف بانون (آ ب)

التوسّع عالمياً

كذلك، تفيد مصادر الخبراء الأوروبيين بأن المعلومات المُضلِّلة لا تنتشر فحسب عبر وسائط التواصل الاجتماعي داخل الدول الأعضاء، بل باتت تصل إلى دائرة أوسع بكثير، وتشمل أميركا اللاتينية وأفريقيا، حيث تنفق الصين وروسيا موارد ضخمة خدمة لمصالحها وترسيخ نفوذها.

كلام فون دير لاين

وفي الكلمة التي ألقتها أخيراً أورسولا فون در لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، بمناسبة الإعلان عن مشروع «الدرع» الذي ينتظر أن يستلهم نموذج وكالة «فيجينوم» الفرنسية ورديفتها السويدية «وكالة الدفاع النفسي»، قالت فون دير لاين: «إن النظام الديمقراطي الأوروبي ومؤسساته يتعرّضون لهجوم غير مسبوق يقتضي منّا حشد الموارد اللازمة لتحصينه ودرء المخاطر التي تهدّده».

وكانت الوكالتان الفرنسية والسويدية قد رصدتا، في العام الماضي، حملات تضليلية شنتها روسيا بهدف تضخيم ظهور علامات مناهضة للسامية أو حرق نسخ من القرآن الكريم. ويقول مسؤول أوروبي يشرف على قسم مكافحة التضليل الإعلامي إن ثمة وعياً متزايداً حول خطورة هذا التضليل على الاستقرار الاجتماعي والسياسي، «لكنه ليس كافياً توفير أدوات الدفاع السيبراني لمواجهته، بل يجب أن تضمن الأجهزة والمؤسسات وجود إطار موثوق ودقيق لنشر المعلومات والتحقق من صحتها».

إيلون ماسك (رويترز)

حصيلة استطلاعات مقلقة

في هذه الأثناء، تفيد الاستطلاعات بأن ثلث السكان الأوروبيين «غالباً» ما يتعرضون لحملات تضليلية، خاصة في بلدان مثل اليونان والمجر وبلغاريا وإسبانيا وبولندا ورومانيا، عبر وسائل التواصل الاجتماعي والتلفزيون. لكن المفوضية تركّز نشاطها حالياً على الحملات والتهديدات الخارجية، على اعتبار أن أجهزة الدول الأعضاء هي المعنية بمكافحة الأخطار الداخلية والسهر على ضمان استقلالية وسائل الإعلام، والكشف عن الجهات المالكة لها، منعاً لاستخدامها من أجل تحقيق أغراض سياسية.

وللعلم، كانت المفوضية الأوروبية قد نجحت، العام الماضي، في إقرار قانون يلزم المنصات الرقمية بسحب المضامين التي تشكّل تهديداً للأمن الوطني، مثل الإرهاب أو الابتزاز عن طريق نشر معلومات مضلِّلة. لكن المسؤولين في المفوضية الأوروبية يعترفون بأنهم يواجهون صعوبات في هذا المضمار؛ إذ يصعب وضع حدودٍ واضحة بين الرأي والمعلومات وحرية التعبير، وبالتالي، يضطرون للاتجاه نحو تشكيل لجان من الخبراء أو وضع برامج تتيح للجمهور والمستخدمين تبيان المعلومات المزوَّرة أو المضلِّلة.