توني موريسون وعالمية النظرة إلى الذات

كتابها الأخير نشر قبيل وفاتها

توني موريسون وعالمية النظرة إلى الذات
TT

توني موريسون وعالمية النظرة إلى الذات

توني موريسون وعالمية النظرة إلى الذات

يشهد العالم اليوم ظواهر وقضايا بعضها حديث وله تاريخ طويل، كقضايا الهجرة الجماعية والتمييز العنصري والهيمنة الاستعمارية، وبعضها الآخر مستحدث أو ما بعد حداثي، كقضايا النظر للهوامش والأقليات والذات والآخر والانتماء والاغتراب والهوية والعولمة والخصخصة والاندماج والتنوع والتعدد، وغيرها مما جاءت به الحقبة ما بعد الكولونيالية، وتبلور مع الثورة الرقمية وما أحدثته من انفجار هائل في أساليب التفاعل الثقافي.
وقد تطرقت إلى هذه القضايا بمجموعها الروائية الأميركية توني موريسون في كتابها الأخير الذي نُشر قبيل وفاتها، وعنوانه «مصدر النظرة إلى الذات: مقالات وخطابات وتأملات مختارة» (The source of self-regard: selected essays, speeches, and meditation)، الصادر في طبعته الأولى عن دار «كنوبف» في الولايات المتحدة الأميركية عام 2019. والكتاب لم يترجم للغة العربية بعد، لكننا ارتأينا أن نقف عنده وقفة قصيرة. وقد يبدو عنوانه للوهلة الأولى متعلقاً بسيكولوجيا الشخصية، والنظرة الإيجابية لها، وسلوكيات تحسين الصورة الذهنية التي بها تتمكن الذات من مواجهة مصاعب الحياة؛ بيد أن الكتاب بصفحاته الثلاثمائة والثماني والستين يصب في باب النقد الأدبي والمثاقفة، وقد جمعت فيه موريسون مقالاتها وتأملاتها وشهاداتها التي كتبتها على مدى عقود مضت، وفيها عالجت مسائل معاصرة وراهنة تتعلق بالانتماء ومفهوم الأجنبي والسيادة وسطوة المال والتمييز ضد النساء والنظرة العنصرية للسود الأميركيين. وهي مسائل عنيت بها الرواية الأميركية المعاصرة بالعموم، وروايات موريسون بالتحديد التي توصف بأنها ما بعد حداثية، ومنها روايتها «العين الأكثر زرقة»، مركزة على ما تعانيه المرأة السوداء من التمييز، مدافعة عن النسوية ودافعة بها نحو الواجهة، نبذاً للتبعية وأنظمة الهيمنة الاستبدادية، وتوكيداً لدور الكتّاب، شعراء ومدونين ومسرحيين، في فضح هذه الأنظمة، وتحطيم إمبراطورية الاستبداد، وأنهم بعملهم هذا لا يقدمون مكافأة للبشرية فحسب، بل هم يؤدون ما هو ضروري للبشرية أصلاً (الكتاب، ص9).
وقد أدت هي نفسها هذا الدور حين ناهضت العنصرية، وكشفت ما تلقاه الأفارقة السود من اضطهاد على أيدي البيض المستعمرين الذين عاملوهم معاملة العبيد، وجعلوا منهم خدماً في مزارعهم، بعد أن جرى استقدامهم بهجرات جماعية كبرى إلى أميركا.
وتمتع موريسون بروح متحررة هو الذي مكّنها من رفض خطاب السلطة، مستشعرة ببصيرة ثقافية نضوب التصورات المركزية، ولا سيما التصورات الفكرية القارة عن الهويات والأصول العرقية.
وقد يبدو عنوان كتابها قريباً من عنوان كتاب تشارلز تايلور «The source of the self: the making of the modern identity»، المنشور باللغة الإنجليزية عام 1989، الذي ترجم إلى اللغة العربية بعنوان «منابع الذات: تكون الهوية الحديثة»، ونشر في مصر عام 2014. لكن اهتمام موريسون لا ينصب على الذات من منطلق عقلاني كانطي، أو من مرجعية سيكولوجية فرويدية، إنما مصدر نظرتها للذات متأت من منطلق ما بعد حداثي، فيه الذات مصطلح دال على (التابع) الذي يريد أن يتحرر من تابعيته، معتمدة في سبيل ذلك خطاباً متعدداً يدحض النظرة الانغلاقية الضيقة، ويستبدل بها نظرة انفتاحية تماشي سياسات الاختلاف والتنوع، لافتة النظر إلى الذوات الهامشية الواقعة تحت تأثير مركزية السلطة، وما فيه من أحادية ونخبوية تستلب هويات الهوامش، ناظرة لهم على أنهم خدم لها، إن لم يكونوا فائضين عن الحاجة.
وقد نظرت موريسون عن كثب للمشهد الثقافي العالمي عموماً، والأفروأميركي تحديداً، واضعة تصوراتها حول نظرة الأميركيين البيض المتعالية للمواطنين من ذوي الأصول الأفريقية، وما يترتب على ذلك من تمييز عنصري، هو امتداد لما عاناه أسلافهم من تمييز خاضوا في سبيل التخلص منه نضالات مريرة. لذا، خصصت موريسون للقس الأميركي مارتن لوثر كينغ مقالاً، قدمت فيه تحيتها له تثميناً لما بذله من جهود في سبيل الدفاع عن حقوق هذه الفئة البشرية.
ومن المقالات التي تطرقت فيها إلى قضية العرق واللون: «الجسد المستعبد والجسد الأسود»، و«العبيد والرقيق»، و«أشياء لا توصف غير معلنة»، و«حضور الأفروأميركي في الأدب الأميركي»، و«وساوس أكاديمية»، و«مع السلامة لكل هذا: العرق والأرحام»، و«العرق وفي الاعتبار»، و«العنصرية والفاشية».
ووقفت باستفاضة عند شخصيات روائية اهتمت بالتهميش والغربة، ومنهم جميس بالدوين، الكاتب المسرحي الأميركي من أصل أفريقي، وقد وجهت له موريسون تحية خاصة أيضاً، بسبب ما تكشفه أعماله من صور التمييز العنصري والجنسي والطبقي الذي يتعرض له السود في المجتمعات الغربية، وبالأخص في أميركا الشمالية.
وخصصت للروائي النيجيري تشينوا أتشيبي وقفة مستفيضة، وهو صاحب رواية «الأشياء تسقط» التي تعد تحفة الأدب الأفريقي الحديث، الذي عرف بمواقفه التحررية ضد الاستعمار والعنصرية.
وتحدثت عن الفنان الأميركي من أصل أفريقي روماري بيردين الذي عمل في الجيش الأميركي، وعرف عن كثب حقيقة افتقار العالم إلى الإنسانية، فكانت كتاباته الأدبية معبرة عن ذلك كله.
وناقشت موريسون أيضاً مسألة الجندر، متناولة شخصيات نسوية، كما في مقالتها «جيرترود شتاين والاختلاف الذي صنعته» التي استطاعت أن تستحدث لوناً أثرى الكتابة القصصية والروائية الأميركية المعاصرة، وقوامه التكرار والتجزئة والإيغال في التبسيط.
ومن مقالاتها التي فيها تطرقت إلى ما يطال المرأة من تمييز جنسي: «صعب وحقيقي ودائم»، و«الوحش الذكر وأمه»، و«الكاتب قبل الصفحة»، و«مشكلة مع النخبة»، و«فوكنر والنساء»، و«مصدر احترام الذات»، و«أخوات خطوة سندريلا»، و«النساء والعرق».
وتتضح عالمية موريسون في الجزء الثاني من الكتاب، في تناولها لقضايا أدبية عامة تتعلق بالإبداع والتخييل والكتابة، كما في مقالاتها «عادة الفن - فنان فردي - الصحافة في الفعل - الدعوة للفن - المتاحف الثقافة والاندماج - لغة الرب - الأدب والحياة العامة - هارلم في ذهني - محاضرة نوبل في الأدب - زمن المستقبل: الأدب وتضاؤل التوقعات - حبر غير مرئي: قراءة الكتابة وكتابة القراءة - موقع الذاكرة - إعادة التذكر - ذاكرة الإبداع»، وموضوعات أخرى عن الحرب حين تكون خطأ والأخلاق والثروة.
ولأن العالم اليوم يتميز بظاهرة الهجرات الجماعية التي تعد تحدياً من تحديات العولمة، وما أخذت تستقطبه من اهتمام النقاد والمفكرين، عنيت موريسون بمناقشة هذه التحديات واقفة عند بعض من رهاناتها، ومنها «وطن الأجنبي»، مبتدئة بالحديث عن تجارة الرقيق التي كانت على أوجها في القرن التاسع عشر، وكيف زالت مع تصاعد الحركات الجماهيرية، والكيفية التي بها تنامت حركة التحرر، لتصل إلى شكلها الأعظم من أي زمن مضى في المرحلة ما بعد الكولونيالية، أواخر القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين (الكتاب، ص5).
وشهد العالم خلال هذه المرحلة أيضاً إعادة توزيع المجموعات البشرية، وكان من أسباب هذه الإعادة حركة العمال والمثقفين وهجرات اللاجئين وحملات الجيوش العابرة للمحيطات والقارات.
ولا ترى موريسون العولمة هي اتحاد عمال العالم في أجندات عالمية قديمة، كما أنها ليست العالمية ولا الدولية ولا الإمبراطورية التي تبتغي السيطرة الثقافية (الكتاب، ص6)، وإنما العولمة تطور تاريخي مرحب به بالقوة نفسها التي كان فيها مصير الأممية قد وصل إلى مستوى عظيم في مخيلتنا.
والظاهر أن موريسون لا تنجذب كثيراً للعولمة ولا تعاديها. وتبقى العولمة التي توصف بأنها التيه في فندق ضخم أهم ممثل للمرحلة ما بعد الكولونيالية، التي في ظلها تغيرت كثير من المقاييس المتعلقة بالانتماء والنظرة المقاومة للثوابت الكبرى الشمولية، ومركزيات العقل والتاريخ واللغة والعلم وقضايا الهامش، وما يتعرض له من قمع وإبادة وعنف وحرمان.
وإذا كانت العولمة تهيئ الأجواء للمطالبة بالمساواة وعدم التمييز والتعدد والتنوع في اللغات والاعتراف بثقافة الأقليات، فإنها يمكن أن ترتهن بالفوضى، وما يرتبط بذلك من مخاطر تحددها الكاتبة في تجاهل الحدود، واختراق البنى التحتية الوطنية، وخلخلة البيروقراطية المحلية، والرقابة على الإنترنت، والرسوم الجمركية والقوانين واللغات. وتشير إلى خطر آخر تمثله العولمة، وهو تشويه الرأي العام، وتدمير القطاع الخاص، من خلال خصائصها الهائلة، كمحو اللغات الأصلية، والإزالة لخصوصيات التسويق وأغراضه. وهو ما يتطلب التخلي عن كثير من متطلبات التفاعل الحكومي والسياسي والتجاري والاحتياجات الأمنية عبر الخصخصة في شروط التطبيقات والسجون ومراقبة الشركات الخاصة للمنشآت العامة والمدارس العامة والقاعات والحدائق والملاعب والشواطئ، الأمر الذي يجعل حياتنا أشبه بمخازن عرض ترتب كديكورات منزلية لا يميز داخلها من خارجها. وهكذا، يؤدي هذان العاملان، الخصخصة والعولمة، إلى طمس أو تهشيم مفهومنا للوطن.
ومن ثم، تتساءل موريسون لأجل أي شيء يكون ولاؤنا؟ وهل أن ما يقلقنا ويشعرنا بعدم الارتياح من الأجنبي الذي نواجهه بمشاعر الغضب هو اللغات أو الثقافات أو الأجناس أو الدين أو الأعراق؟ وهل نحن سنكون ببساطة متسامحين ودودين وعالميين لكي نقرر أين ننتمي؟ وما اقتناعنا بما نفعل؟ وبشكل آخر: ما المشكلة مع الغربة؟
واختارت موريسون للتعليق على هذه الأسئلة روايات كتبت في الثلاثينات والخمسينات، أرادت أن تصب في تحليل هذه الروايات ما أثمرت عنه قراءتها للأدب الأفريقي، مستكملة به تجوالها في أدب الغربة المعاصر، وما فيه من (مشكلات الأجنبي الغريب في الفندق الكولونيالي)، مبينة أنّ الكتّاب الأفارقة ليسوا وحدهم المعنيين بالعولمة والغربة، لكنهم يمتلكون في مواجهتها تاريخاً فريداً طويلاً، فيه الفرد يوجد في وطن هو نفسه منفى.
ومن تلك الروايات رواية «The Radiance of the King»، للكاتب غيني كامارا لاييه (1928-1980)، وقد كتبها بالفرنسية عام 1954، وكرس فيها موضوع الغربة داخل الوطن وخارجه، معالجاً إياه معالجة مجازية وسيكولوجية ضمن أطر محلية ووطنية وآيديولوجية، فيها تشتبك الثقافات بحثاً عن الانتماء. وتدور أحداثها حول رحلة يقوم بها كلارنس، الرجل الأبيض المفلس، في أفريقيا السوداء، في محاولة للوصول إلى الحكمة العميقة التي فيها يجد البطل خلاصه ونعيمه وحريته، شاعراً بالنبض في قلبه الشاب بسبب الكلمات التي ترحب به، والدالة على الانتماء: ألا تعلم أنني كنت بانتظارك؟ (الكتاب، ص13)
ومما وجدته موريسون أن كامارا تمكن من المحاكاة باستعمال الاستعارة الأدبية التي تستنسخ تصورات أفريقية حساسة دقيقة للغربة، وقد حددتها موريسون في التهديد - الفساد - الغموض، واجدة أنها «كلها تضغط علينا لننكر الأجنبي في نفوسنا، ونصنع مقاومة تموت بها كل القواسم البشرية المشتركة».
إن نظرة موريسون الانفتاحية للذات تتضح أكثر وهي تنظر للآخر بعيداً عن العنصرية والفاشية والاستهلاك، مؤكدة أن مقياس قيمتنا كبشر هو إنسانيتنا وتعاطفنا.
- أكاديمية وناقدة عراقية



3 مخرجات في لحظة سينمائية نادرة... «البحر الأحمر» يجمع بينوش وأمين ودعيبس

جولييت بينوش تتوسَّط شهد أمين وشيرين دعيبس (المهرجان)
جولييت بينوش تتوسَّط شهد أمين وشيرين دعيبس (المهرجان)
TT

3 مخرجات في لحظة سينمائية نادرة... «البحر الأحمر» يجمع بينوش وأمين ودعيبس

جولييت بينوش تتوسَّط شهد أمين وشيرين دعيبس (المهرجان)
جولييت بينوش تتوسَّط شهد أمين وشيرين دعيبس (المهرجان)

في لحظة نادرة، تجمع بين التجربة العالمية ونهضة السينما العربية، التقت في مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي» 3 سينمائيات، لكل منهن علاقة مباشرة مع «الأوسكار»، وهن: الممثلة الفرنسية الحائزة «الأوسكار» جولييت بينوش، التي تُعدّ من أبرز الوجوه في السينما الأوروبية، والمخرجة السعودية شهد أمين التي يُمثّل فيلمها «هجرة» السعودية في سباق «الأوسكار»، والمخرجة الفلسطينية - الأميركية شيرين دعيبس التي يُنافس فيلمها «اللي باقي منك» باسم الأردن في «الأوسكار».

جاء ذلك ضمن الجلسة الحوارية لبرنامج «نساء في الحركة»، الذي وُلد من مهرجان «كان» عام 2015 بكونه نافذة تطلّ منها النساء على النقاش العالمي حول الصورة، وصولاً إلى مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي» في جدة، إذ يحضر البرنامج للمرّة الأولى، ويحتفي بمرور عقد عليه، في جلسة حوارية جمعت النجمات الثلاث اللواتي ينتمين إلى خلفيات وثقافات وتجارب متباينة، لكن جمعتهن الأسئلة: كيف تُكتب الذاكرة؟ وكيف تتشكّل هوية المرأة في السينما؟ وكيف تستعيد السينما صوتها الإنساني وسط عالم يتغيَّر بسرعة؟

من التمثيل إلى الإخراج

وشكَّل انتقال الممثلة الفرنسية جولييت بينوش من التمثيل إلى الإخراج محوراً أساسياً في حديثها، خصوصاً عن الصعوبة الكامنة في «إخراج نفسها» داخل الفيلم.

تقول جولييت بينوش: «الممثل لا يستطيع أن يفصل نفسه عن الإخراج. العالمان متداخلان بشكل طبيعي»، مضيفة أنّ أداءها لم يكن خاضعاً لعملية توجيه ذاتي بقدر ما كان «محاولة لترك الحقيقة تمر عبر الجسد».

وتوقَّفت عند سؤال «الحقيقة في الصورة»، مشيرةً إلى أنّ لحظة نسيان المُتفرّج بأنّ ما يشاهده مجرّد صورة هي قلب التجربة السينمائية، وتتابع: «الحقيقة تنتمي إلى الإنسان. عندما تدخل الصورة في داخلك وتنسى أنها مصنوعة، عندها فقط تبدأ السينما».

المخرجة السعودية شهد أمين خلال الجلسة (المهرجان)

شهد أمين... الغرابة السينمائية

من ناحيتها، تناولت المخرجة السعودية شهد أمين فيلمها «هجرة» بإسهاب، وهو فيلم ينسج علاقته بين 3 أجيال نسائية. وقدَّمت مداخلة صريحة وحيوية، بدأت بسرد علاقتها بـ«غرابة أعمالها». قائلةً: «كل مرة أكتب فيلماً أقول إنّ الجميع سيحبه، ثم أصنعه، ويخرج غريباً جداً!».

وأضافت بابتسامة لا تخفي صدقها: «أقول لنفسي: (أرجوكِ اصنعي فيلماً طبيعياً)، لكن النهاية تكون دائماً لفيلم لا يُشبه أي فيلم آخر». وترى أمين أنّ هذا الاختلاف ليس هدفاً، بل نتيجة طبيعية لخياراتها الشخصية.

وبسؤالها عن دورها في إخراج المرأة السعودية من القوالب النمطية، تُجيب: «أنا لا أصنع أفلاماً لإثبات شيء عن المرأة السعودية أو لتغيير صورة ما، هذا ليس هدفي. أكبر خطأ يمكن أن أرتكبه هو أن أفرض أفكاري على الفيلم».

وعند سؤالها عن حضور الأجيال الثلاثة في فيلم «هجرة»، أجابت بتأمّل عميق: «كلّ ما نحن عليه اليوم صنعته أمّهاتنا وجداتنا. لا يمكن فَهْم الحاضر من دون العودة إلى الخلف».

أما عن المشهد السينمائي في السعودية اليوم، فرأت أنه يشهد واحدة من أسرع المراحل تطوراً على مستوى العالم، مضيفةً: «السعودية مكان ممتع لصناعة الأفلام. كلّ شيء جديد، وكلّ شيء يبدأ من الصفر. هناك مساحة لكلّ صوت».

كما حذّرت المخرجين الجدد من محاولة تقليد النموذج الأميركي: «لا حاجة لتكرار أحد... كن نفسك... كن غريباً إن أردت... ربما يجد أحدهم نفسه في هذا الغريب».

المخرجة شيرين دعيبس وتقاطعات الذاكرة والهوية (المهرجان)

شيرين دعيبس... صناعة الذاكرة

المحطة الثالثة حملت صوت المخرجة الفلسطينية - الأميركية شيرين دعيبس، التي تُشارك في المهرجان بفيلم «اللي باقي منك»، الذي يتناول أحداث فلسطين ما بعد النكبة. وهي المخرجة المعروفة باشتغالها على هوية المرأة العربية في سياقات الشتات. تطرَّقت دعيبس لفيلمها، بالقول: «وجدنا أنفسنا نصنع فيلماً عن النكبة بينما نشاهد نكبة أخرى تتكشَّف أمام عيوننا... نكبة بلا حدود».

ورأت أن البحث عن «فلسطين خارج فلسطين» كان عملية قاسية، لكنها ضرورة لصنع الفيلم، مضيفةً: «كان علينا أن نُعيد تشكيل الذاكرة بصرياً، ونبحث عن جذورنا في أماكن لا تمتلك الأرض نفسها».

وعن جذورها الشخصية، قالت بوضوح: «نشأت في عائلة فلسطينية - أردنية. أحمل الفرح والألم معاً. مشاركة هذا الإرث ليست خياراً، إنها واجب».

وفي تحليلها لتطوّر الدعم العالمي للسينما العربية، قالت شيرين دعيبس إنّ أوروبا والعالم العربي كانا أكثر دعماً من الولايات المتحدة، مضيفةً: «بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) أدركنا أن صورتنا تُروى من دوننا. وكان علينا أن نستعيد قصصنا». وأثنت على التحوّل السينمائي في السعودية، قائلة: «ما يحدث هنا استثنائي. الدعم الذي نراه في المنطقة خلال السنوات الأخيرة غير مسبوق».

ورغم اختلاف اللغات والخلفيات، تقاطعت مداخلات المخرجات الثلاث عند 3 محاور عميقة: الذاكرة بكونها منظوراً سردياً، والغرابة بوصفها توقيعاً، ورؤية الإنسان من الداخل. ويمكن القول إنّ جلسة «نساء في الحركة» في «البحر الأحمر» لم تكن مجرّد لقاء حول حضور المرأة في السينما، بل كانت مساحة لقراءة العالم من خلال العين النسائية؛ عين تتأمل الحقيقة، وتستعيد الذاكرة، وتتجاوز الخطاب التقليدي.


شوارع بريطانيا تحمل أسماء الطيور... وسماؤها تفتقدها

الأسماء تتكاثر لكنّ الطيور تختفي من الحقول والسماء (شاترستوك)
الأسماء تتكاثر لكنّ الطيور تختفي من الحقول والسماء (شاترستوك)
TT

شوارع بريطانيا تحمل أسماء الطيور... وسماؤها تفتقدها

الأسماء تتكاثر لكنّ الطيور تختفي من الحقول والسماء (شاترستوك)
الأسماء تتكاثر لكنّ الطيور تختفي من الحقول والسماء (شاترستوك)

تزداد في بريطانيا تسمية الشوارع بأسماء طيور مثل القُبرات والزقزاق والزرازير، في وقت تشهد فيه أعداد هذه الأنواع تراجعاً مقلقاً.

فقد كشف تقرير لجمعية حماية الطيور الملكية، نقلته «الغارديان»، عن أنّ أسماء شوارع من قبيل «ممر القُبرة» و«جادة السمامة» باتت أكثر شيوعاً خلال العقدين الماضيين. وبالاستناد إلى بيانات «أو إس أوبن نيمز» بين عامَي 2004 و2024، تبيَّن أن الشوارع التي تحمل أسماء طائر القُبرة ارتفعت بنسبة 350 في المائة، وتلك التي تحمل اسم الزرزور بنسبة 156 في المائة، فيما ارتفعت أسماء الشوارع المرتبطة بطيور الزقزاق بنسبة 104 في المائة، رغم الانخفاض الكبير في أعداد هذه الطيور في البرّية.

ويشير التقرير إلى أنّ بريطانيا فقدت بين عامَي 1970 و2022 نحو 53 في المائة من القُبرات المتكاثرة، و62 في المائة من الزقزاق، و89 في المائة من العندليب.

وقالت المديرة التنفيذية للجمعية، بيكي سبيت، إنّ التحليل «يكشف عن أن البلديات والمطوّرين العقاريين لا يجدون غضاضة في تسمية الشوارع بأسماء الطبيعة التي نحبّها، بينما تبقى الجهود الرامية إلى منع اختفاء هذه الطيور من سمائنا بعيدة تماماً عن المستوى المطلوب».

ووصف تقرير «حالة الطبيعة 2023» المملكة المتحدة بأنها «واحدة من أكثر الدول استنزافاً للطبيعة على وجه الأرض»، مشيراً إلى الانهيار الحاد في أعداد الطيور البرية منذ سبعينات القرن الماضي.

كما أظهر تحليل الجمعية أنّ استخدام كلمة «مرج» في أسماء الشوارع زاد بنسبة 34 في المائة، في حين اختفت 97 في المائة من المروج البرّية منذ الثلاثينات. ودعت الجمعية الحكومة إلى تعزيز جهود حماية الطبيعة، مع دخول مشروع قانون التخطيط والبنية التحتية في إنجلترا مراحله النهائية.

كانت الحكومة قد تراجعت في أكتوبر (تشرين الأول) عن دعم تعديل يُلزم بتركيب «طوب السمامات» في كلّ منزل جديد، رغم أنّ أسماء الشوارع المرتبطة بالسمامات ارتفعت بنسبة 58 في المائة.

وأكدت الجمعية أنه من «الممكن والضروري» تبنّي نظام تخطيط عمراني يُسهم في استعادة البيئة الطبيعية، مستشهدةً ببحث صادر عن مؤسّسة «مور إن كومون» يفيد بأنّ 20 في المائة فقط من البريطانيين يرون أنه ينبغي خفض المعايير البيئية لتشييد مزيد من المنازل.

من جانبه، قال مؤلّف كتاب «ليا الوقواق» عن تاريخ الطيور في أسماء الأماكن البريطانية، مايكل وارن، إنّ البريطانيين «يعشقون أسماء الطبيعة، ويعرف المطوّرون ذلك جيداً». لكنه أوضح أنّ رواج أسماء الطيور في المشروعات السكنية الجديدة «يخفي انفصالاً عميقاً يعانيه كثيرون عن الطبيعة، ويعطي انطباعاً مضلّلاً بأنّ كلّ شيء على ما يرام».

وأشار وارن إلى أنّ أسماء الأماكن كانت سابقاً تعكس الواقع البيئي، أما الأسماء الحديثة فهي «في أفضل الأحوال جميلة المظهر، لكنها في الحقيقة وسيلة خادعة ورخيصة وسهلة لخلق إيحاء بمعالجة تدهور الطبيعة من دون القيام بأيّ تحرّك فعلي».

وختمت سبيت: «يستحق الناس أن يستمتعوا بصوت العندليب في ذروة غنائه، أو بصيحات السمامات وهي تحلّق فوق رؤوسهم، بدلاً من العيش في شوارع صامتة تحمل أسماء ساخرة».


علي الكلثمي... المخرج السعودي الذي صاغ من السخرية رؤية سينمائية

علي الكلثمي شارك تفاصيل منهجه الإخراجي ورحلته داخل الصناعة السعودية (البحر الأحمر)
علي الكلثمي شارك تفاصيل منهجه الإخراجي ورحلته داخل الصناعة السعودية (البحر الأحمر)
TT

علي الكلثمي... المخرج السعودي الذي صاغ من السخرية رؤية سينمائية

علي الكلثمي شارك تفاصيل منهجه الإخراجي ورحلته داخل الصناعة السعودية (البحر الأحمر)
علي الكلثمي شارك تفاصيل منهجه الإخراجي ورحلته داخل الصناعة السعودية (البحر الأحمر)

للمخرج السعودي علي الكلثمي أسلوب ساخر لا ينفصل عن شخصيته، ولا عن أعماله، ولا حتى عن طريقته في مقاربة أكثر الأسئلة الفنّية جدّية. بدا ذلك واضحاً في حديثه على المسرح خلال الجلسة الحوارية التي تناولت تجربته في مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي»، في مزيج بين الخفّة والعمق، وبين اللعب والملاحظة الحادّة، ما يجعله قادراً على قول أكثر الأفكار تعقيداً بأبسط المفردات وأكثرها تلقائية.

الجلسة، التي بيعت تذاكرها بالكامل، وشهدت حضوراً كثيفاً من المهتمّين، لم تكن مجرّد لقاء عابر؛ إذ بدا واضحاً أنّ تجربة الكلثمي باتت اليوم محطَّ متابعة عربية وخليجية، مع حضور لافت لجمهور من الكويت وعُمان ودول أخرى. فهو يُعد أحد أبرز الأصوات التي خرجت من فضاء «يوتيوب» في السعودية، وبدأ رحلته السينمائية عبر الفيلم القصير «وسطي» عام 2016، كما يُعد أحد المساهمين في نقل السينما المحلّية إلى مرحلة جديدة من خلال فيلمه الطويل «مندوب الليل» الذي حصد جوائز عدّة.

من السخرية إلى المنهج

وحملت الجلسة كثيراً من الجدّية في التفاصيل التي قدَّمها الكلثمي عن عمله مع الممثلين. وكان لافتاً أنه بدأ إحدى إجاباته بنصيحة غير معتادة: «أنصح كلّ الخرّيجين أن يُجرّبوا التمثيل ولو في ورشة قصيرة. التجربة تُغيّر فهمك للممثل تماماً!». هذه الجملة وحدها كانت كافية لفتح باب واسع حول علاقته بالممثلين، وكيف أسهمت تجربته القصيرة في التمثيل، التي وصفها بـ«الكراش كورس»، في تغيير طريقته في التعامل مع الممثل أمام الكاميرا.

يرى الكلثمي أنّ الممثل لحظة وصوله إلى موقع التصوير يكون «مكشوفاً بالكامل». هذه النظرة العميقة لطبيعة الوقوف أمام الكاميرا جعلته يؤمن بأنّ المخرج لا يمكنه قيادة الأداء من دون أن يكون قادراً على الشعور بذلك الخوف الإنساني الخام. لذلك، فإنّ أول ما يمنحه للممثل ليس التوجيه، بل الثقة. يضيف: «أول ما يحتاج إليه هو أن يشعر أنك لن تحاكمه. أنك شبكة الأمان التي تحميه حين يُغامر».

علي الكلثمي على السجادة الحمراء في المهرجان (البحر الأحمر)

يُصرّ الكلثمي على أنّ العمل الجوهري لا يتم في موقع التصوير، بل قبله. وهي فكرة تُشكّل أحد أعمدة منهجه الإخراجي. وقدَّم مثالاً على ذلك من خلال علاقته المهنية الطويلة مع الممثل محمد الدوخي (بطل «مندوب الليل»)، التي تمتد لسنوات.

في التحضير للشخصيات، كانا يستحضران أشخاصاً من الماضي، ويقولان: «تتذكر فلان؟ هذا ظله... طيف منه». هنا يظهر الجانب الإنساني عند الكلثمي، الذي يرى في التفاصيل الصغيرة والعلاقات العابرة مادة حقيقية لبناء الشخصية. فليست الحكايات الكبيرة ما تصنع صدق الأداء، بل هشاشة التفاصيل التي لا ينتبه لها أحد.

ويتعمَّق هذا المنهج عبر أداة إضافية يستخدمها تحت إطار البحث عن تفاصيل الشخصية. فهو يرى أنّ الممثل مُطالب بمعرفة دفاتر الشخصية، وكتاباتها، وطريقة تفكيرها، وحتى ما يمكن أن تستمع إليه في عزلتها. ليس ذلك بهدف خلق صورة مُكتملة، بل بهدف فتح مسارات داخلية تُساعد الممثل على الوصول إلى جوهر الشخصية.

النصّ بصوت المُخرج

ومن أكثر جوانب الجلسة إثارة للانتباه، اعتراف الكلثمي بأنه يحب أن يقرأ النصّ للممثل بعد أن ينتهي الأخير من قراءته. ورغم أنه يصرّ على أن ذلك ليس لتلقينه الأداء، فإنه يراه «نافذة إضافية» تمنح الممثل فرصة للدخول إلى العالم الداخلي للشخصية. يقول: «أقرأ النص بصوتي، وأمثّل الشخصية أمامه، ليس لأريه كيف يؤدّي، بل لأفتح له نافذة يُطل من خلالها على عالم الشخصية».

هذا النهج، الذي يجمع بين الحسّ التمثيلي والقدرة على الإصغاء، يعكس رؤية الكلثمي لموقعه في الصناعة، كما ظهر بوضوح في الجلسة التي امتدَّت لنحو ساعة، وحاوره فيها الصحافي أحمد العياد. فهو لا يضع نفسه في موضع السلطة، بل في موضع الشريك الذي يُمهّد للممثل الطريق بدل أن يفرض عليه مساراً واحداً.

من «يوتيوب» إلى السينما

الحضور الواسع للكلثمي في الجلسة يعكس مساراً غير تقليدي في السينما السعودية. فالمخرج الذي خرج من عباءة المحتوى الرقمي لا يحمل عقدة الانتقال إلى السينما، ولا يضع بينهما طبقية، بل يرى أنّ لكل وسيط لغته وجمهوره، والفنان الحقيقي لا ينتمي إلى منصة بقدر ما ينتمي إلى صدق التجربة. وقد بدا هذا المبدأ حاضراً في ردوده، وفي التواضع الذي يتعامل به مع مشواره، سواء في البدايات مع «وسطي»، أو في نجاحات «مندوب الليل» التي نقلته إلى دائرة الضوء السينمائية.

لم تكن الجلسة مجرّد استعراض لسيرة مخرج شاب، وإنما درس في فَهْم الممثل، وفي التحضير، وفي الدور الذي يمكن أن يلعبه التعاون في رفع جودة صناعة كاملة. وربما كانت أيضاً نافذة إلى روح الكلثمي نفسه: فنان يسخر من كلّ شيء، لكنه لا يسخر من الفنّ.