«قانون المواطنة» يضع التعدّدية الهندية أمام الامتحان

في عهد اليمين الهندوسي القومي

«قانون المواطنة» يضع التعدّدية الهندية أمام الامتحان
TT

«قانون المواطنة» يضع التعدّدية الهندية أمام الامتحان

«قانون المواطنة» يضع التعدّدية الهندية أمام الامتحان

فجّر التعديل الذي أقرّه حزب بهاراتيا جاناتا الهندوسي القومي الحاكم في الهند على «قانون المواطنة (الجنسية)» غضبة شعبية واسعة في مناطق كثيرة من البلاد. وللعلم، يسرّع هذا التعديل على «قانون المواطنة» مسار الحصول على الجنسية لكل من الهندوس والسيخ والبوذيين والمسيحيين والبارسي (الزرادشتيون) وما يسمى بـ«الأقليات الدينية المضطهدة» في الدول ذات الغالبية المسلمة المجاورة للهند، وهي بنغلاديش وأفغانستان وباكستان.
ولكن، ما يثير القلق والغضب هو ربط التعديل مسألة الحصول على الجنسية بالهوية الدينية، إذ ينظر كثيرون إلى القانون المعدّل على أنه «حظر للمسلمين»، وهو ما أدى إلى انتشار الاحتجاجات العارمة في طول الهند وعرضها. بل إن بعض هذه الاحتجاجات اتسمت بالعنف، وأسفرت عن سقوط ما لا يقل عن ستة قتلى، واعتقال الآلاف. وما يجدر ذكره، أن التطورات الأخيرة جاءت في أعقاب سلسلة مظاهرات طلابية شملت كثيراً من الجامعات والمعاهد العليا والفنية في البلاد

حظرت السلطات الهندية هذا الأسبوع الاحتجاجات والمظاهرات المناوئة على تعديل «قانون المواطنة» (الجنسية)، وكانت الإشكالية حول التعديل قد وصلت إلى المحكمة الهندية العليا التي أصدرت إخباراً إلى السلطات الاتحادية يشمل 59 عريضة تدحض مشروعية التعديل هذا العام. إلا أن المحكمة أحجمت عن إصدار وقف مؤقت لتطبيق التعديل القانوني الجديد، وأما الموعد المقبل لنظر القضية فهو 22 يناير (كانون الثاني) المقبل.
العرائض المقدمة تعتبر أن التعديل بشكّل تمييزاً سلبياً على أساس الدين بين المهاجرين المسلمين وغير المسلمين الوافدين من أفغانستان وباكستان وبنغلاديش، والمهاجرين الوافدين من الدول الثلاث وباقي المهاجرين، والمهاجرين هرباً من الاضطهاد الديني وغيرهم، وبين المهاجرين غير الشرعيين من أبناء ست ديانات أخرى والمسلمين من الدول الثلاث الذين دخلوا الأراضي الهندية قبل 31 ديسمبر (كانون الأول) 2014، وأولئك الذين دخلوا الهند بعد ذلك التاريخ. ووفق النص الموافق عليه لمشروع قانون التعديل، فإن المهاجرين المسلمين سيُعتبرون مهاجرين غير شرعيين.
من ناحية ثانية، يتواصل الجدل المستعر بين حزب بهاراتيا جاناتا، بقيادة رئيس الحكومة الاتحادية ناريندرا مودي، وقوى المعارضة، مع تزايد القوى الحزبية التي تناوئ التعديل، علماً بأن وزير الداخلية آميت شاه، البالغ النفوذ، أكد أن الحكومة ستنفذه. وبينما تنتشر المظاهرات والاحتجاجات في عموم الهند ضد مشروع قانون التعديل و«السجلّ الوطني للمواطنين»، تلجأ الحكومة إلى إجراءات أمنية هدفها إخماد اللهب السياسي في الشارع.

رفض التمييز السلبي

وفي هذا الإطار ظهر آميت شاه في مقابلات تلفزيونية يوم الثلاثاء الماضي، متعهداً بـ«ألا يواجه أي مسلم هندي من أي إجحاف أو ظلم من هذه السياسات». وفي السياق نفسه، نشرت حكومة مودي إعلانات في كثير من الصحف المنشورة باللغتين الهندية والأوردية تحذّر فيها من «الشائعات والأضاليل المروّجة». ولكن، يوم أمس (الخميس)، شهد جولة جديدة من الاحتجاجات ضد التعديل في مناطق عدة على امتداد الهند، فبادر وزير الداخلية إلى الدعوة لعقد اجتماع طارئ لمناقشة الأوضاع الأمنية في الهند. غير أن البرلماني المعارض شاشي ثارور، وزير الدولة السابق للشؤون الخارجية والأمين العام المساعد السابق في الأمم المتحدة، يقول إن استثناء طائفة دينية واحدة في هذا التعديل، الذي أقرّه رئيس الجمهورية رام ناث كوفيند فوراً كقانون ساري المفعول «أساساً خطوة مناقضة لتقاليد الهند العلمانية والتعددية». ومن ثم تساءل ثارور: «لماذا لا يشمل التعديل، مثلاً، ميانمار (بورما) وسريلانكا والصين؟ ولماذا لا يحق للهندوس التاميل من أبناء سريلانكا بالجنسية بموجب التعديل الجديد؟ ولماذا حددت المهلة الأخيرة للاستفادة منه بآخر 2014؟»

«السجلّ الوطني للمواطنين»

بالإضافة إلى تعديل «قانون المواطنة»، كانت الحكومة الهندية قد خرجت ببرنامج منفصل تحت اسم «السجلّ الوطني للمواطنين» في وقت سابق من العام الحالي في ولاية آسام بشمال شرقي البلاد. هذه اللائحة الخاصة بالمواطنية (الجنسية) تشكل جزءاً من جهود الحكومة الهادفة إلى الكشف عمن تزعم أنهم من المهاجرين غير الشرعيين في هذه الولاية، والتخلص منهم. ولقد نشرت اللائحة النهائية بأسماء هؤلاء يوم 31 أغسطس (آب) الماضي، وأخرجت نحو 1.9 مليون من المقيمين في آسام بينهم هندوس. وراهناً يساور القلق سكان آسام من أن كثيرين من هؤلاء سيُمنحون الجنسية الهندية، ما سيشكل خطراً على قوميتهم. وفي المقابل، يشعر تشانشال روي، وهو من أبناء طائفة الماتوا الهندوسية المهاجرة من بنغلاديش إلى شمال شرقي الهند، بالسعادة إزاء التعديل الخاص بالجنسية الذي أقرّه حزب بهاراتيا جاناتا. ويشرح: «لقد تعرّضنا طويلاً للقمع والقهر في بنغلاديش ما دفعنا للهجرة إلى آسام... وبما أن الهند بلد هندوسي، فإن من حقنا الحصول على الجنسية هنا». ولكن في الوقت ذاته، يقر روي بالمشاعر السلبية في أوساط الهندوس الآتين من بنغلاديش من «السجلّ الوطني»، ويوضح حالياً: «الناس هنا ينظرون إلى السحل الوطني المعمول به في آسام ويرون أن كثرة من الهندوس كانوا يُخرجون منه، ولكن بفضل التعديل الجديد على قانون المواطنية ما عدنا نحن الهندوس قلقين».

شكاوى المسلمين

هذا الارتياح معكوس تماماً في مناطق عدة من الهند تشهد الاحتجاجات بسبب استثناء المسلمين من لائحة التعديل. ذلك أن اللاجئين الروهينغا المسلمين الفارين من ميانمار، والمسلمين الأفغان لن يحصلوا بموجب التعديل على الجنسية الهندية، والشيء نفسه ينطبق على تاميل سريلانكا. وحقاً، شهدت شوارع مدن كثيرة في ولايات البنغال الغربية (شمال شرق) وكيرالا (جنوب) وغوا (غرب) احتجاجات، شاب بعضها العنف.
وخلال لقاء مع مسؤول محلي مسلم اسمه إقبال حسين، قال حسين متسائلاً: «هل جميع المسلمين إرهابيون؟ قد تكون هناك عناصر سيئة في كل طائفة، ولكن إقرار القانون بصيغته الحالية، يعني أن حزب (بهاراتيا جاناتا) يريد الهند خالية من المسلمين». وأردف: «الناس غاضبون جداً ويشعرون بضيق شديد... ونحن الآن ندرس ما يجب فعله».
في الاتجاه نفسه، يقول البرلماني دانيش علي متسائلاً: «ما الحاجة أصلاً إلى سن تشريع يستند إلى الهوية الدينية؟ أليست الغاية (فرّق تسُد)؟ إذا كانت الحكومة المركزية (الاتحادية الهندية) تؤمن بالمساواة وبتطبيقها فعليها أن تضم المسلمين، وكذلك المهاجرون من سريلانكا ونيبال وبهوتان وميانمار. ولكن بما أن هدفها الحقيقي خلق حالة استقطابية عند الناخبين الهندوس والمسلمين، وحرف الأنظار بعيداً عن التراجع الاقتصادي». ولكن السيد أحمد بخاري، إمام المسجد الجامع في دلهي، لا يرى في التعديل أي خطر على المسلمين في الهند، متهماً بعض الجهات «بتضليل الناس».

حالة لاجئ أفغاني

في أي حال، تشكل حالة عرمان (25 سنة)، اللاجئ من أفغانستان إلى الهند قبل أربع سنوات، في أعقاب تلقي عائلته تهديدات من حركة «طالبان»، حالة تستحق التوقّف عندها. عرمان سجّل كلاجئ عند كل من المفوضية العليا لشؤون اللاجئين والمكتب الإقليمي لتسجيل الأجانب، وهو واحد من كثير من الأفغان الذين يقيمون اليوم في منطقة لاجبات ناغار بمدينة دلهي. وهو بصف حاله بالقول: «نعم، يجب أن يسمح للسيخ والهندوس أن يأتوا إلى هنا، ولكن ماذا عن المسلمين؟ لقد واجهنا اضطهاداً وتمييزاً ضدنا في أفغانستان، ونرى أن الهند ذلك المكان الرحب الذي يوفر لنا العيش الذي نطمح إليه... ولهذا نود أن ننتقل إلى هنا، لكنني حالياً حزين. فإذا حرمنا من فرصة الاستقرار هنا فإلى أين سنذهب؟ الحياة صعبة بالنسبة للاجئين».
في الوقت ذاته، حذّر رئيس الحكومة الباكستانية عمران خان مجدداً من حرب نووية بين باكستان والهند حول تعديل «قانون المواطنة»؛ إذ جاء في كلمة عمران خان أمام «منبر اللاجئين العالمي»، الذي شارك في تنظيمه: «يهمني أن أبلغ العالم بأسره أن عليه إدراك خطورة أكبر أزمة لاجئين (في جنوب آسيا)... نحن في باكستان لسنا فقط قلقين من أزمة اللجوء، بل يقلقنا احتمال تطورها إلى نزاع. نزاع بين قوتين نوويتين».

الجامعة في الواجهة السياسية

بالتوازي مع الاحتجاجات المتصلة بتعديل «قانون المواطنة» (الجنسية) في الهند دخل طلاب الجامعات الهندية على خط الاحتجاجات، في عموم البلاد. فلقد اجتاحت جموع من الطلاب شوارع عدة مدن اعتراضاً على ما يعتبرونه شكلاً من أشكال التمييز ضد المسلمين في تعديل «قانون المواطنة»، واندلعت الاحتجاجات في أكثر من 20 جامعة.
الواقع أن التوتر تزايد كثيراً منذ 15 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، اعتراضاً على تعامل الشرطة مع طلاب ينتمون إلى الجامعة الملية الإسلامية في العاصمة دلهي وجامعة عليغره الإسلامية العريقة بمدينة عليغره في ولاية أوتار براديش بشمال الهند، وهي كبرى الولايات الهندية من حيث هدد السكان.
ومن ثم، تدخل رجال الشرطة بعنف إثر مسيرات احتجاجية نظمها طلاب في المعهد الهندي للتكنولوجيا (آي آي تي) في بومباي، ومعهد تاتا للعلوم الاجتماعية في المدينة نفسها، وجامعة حيدر آباد المركزية وجامعة مولانا آزاد في حيدر آباد، وندوة العلماء في مدينة لوكناو عاصمة أوتار بردايش، في أعقاب تعاطف طلاب هذه الجامعات والمعاهد مع زملائهم في عليغره ودلهي.
أيضاً نشط المحتجون على وسائل التواصل الاجتماعي، فشنوا حرباً سياسية عبر هذه المواقع، ولعبت بعض المواقع مثل «إنستغرام» دوراً بارزاً في نقل الاعتراضات على التعديل المذكور والمثير للجدل.
هذا النشاط السياسي الاحتجاجي الطلابي لم يأتِ من فراغ. إذ كانت الجامعات العامة والمعاهد الفنية الهندية قد بدأت التحول إلى مواقع من الفوضى والخلافات المريرة وميادين لمظاهرات ضخمة ومتزايدة ضد الحكومة، وسط غضب عارم تجاه قرار حكومة مودي اليمينية القومية الهندوسية إقرار زيادة كبيرة في تكلفة الإقامة في السكن الجامعي. هذه الزيادة أثارت غضب الطلاب ودفعتهم للخروج إلى الشوارع، ما اضطر قوات الشرطة إلى الانتشار في الشوارع هي الأخرى، ووقع صدام بين الجانبين ليتحول الأمر إلى صراع يتجاوز حدود كونه مجرد خلاف حول زيادة الأقساط والأكلاف.

جامعة جواهرلال نهرو

في الواجهة كانت ولا تزال جامعة جواهرلال نهرو في العاصمة الهندية نيو دلهي. هذه الجامعة تعد واحدة من أبرز الجامعات على مستوى آسيا. ومنذ إنشائها عام 1969. وقفت الجامعة كمنارة أمل على صعيد التعليم العالي والبحث العلمي في الهند. ولا يقتصر إسهام الجامعة على توفير مساحة تمكين للطلاب تتيح لهم عقد مناقشات حول قضايا سياسية مثيرة للجدل، وإنما يمتد إلى تحريرها الطلاب من سطوة وقمع الهياكل الطبقية والطائفية والأقساط والأكلاف الباهظة. ويصف البعض جامعة جواهرلال نهرو بأنها الجامعة الوحيدة التي توفر تعليماً عالي الجودة مدعوماً بدرجة كبيرة للطلاب الفقراء الذين يفد أكثر من 90 في المائة منهم من ولايات أخرى من أرجاء البلاد.
هنا، بقول شوبهودا تشودهري، الأكاديمي المقيم في نيودلهي: «هذا السبب تحديداً وراء تفاقم حركة الاحتجاجات الطلابية اليوم لتتجاوز مجرد تعبير عن غضب إزاء إدارة الجامعة، وتمتد إلى مسألة أكبر تتعلق بما يعتبره الطلاب كراهية من جانب الحكومة إزاء التعليم وطرح الإعلام للأحداث على نحو مضلل ووجود تباينات اجتماعية واقتصادية هائلة داخل البلاد». وحقاً، يرى كثيرون أن حكومة مودي، في محاولة منها للتغلب على خصومها الآيديولوجيين، رأت في الجامعات مراكز معارضة لنمط السياسات التي تنتهجها.


مقالات ذات صلة

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

حصاد الأسبوع Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

سطرت نيتومبو ناندي ندايتواه، 72 عاماً، اسمها في التاريخ بوصفها أول امرأة تتولى رئاسة ناميبيا منذ استقلال البلاد عام 1990، بعدما حصدت 57 في المائة من الأصوات في

فتحية الدخاخني ( القاهرة)
رياضة سعودية السعودية تستمر في تشكيل خريطة مختلف الرياضات العالمية بتنظيم واستضافات غير مسبوقة (الشرق الأوسط)

السعودية ستُشكل خريطة الرياضة العالمية في 2025

شارف عام حافل بالأحداث الرياضية بما في ذلك الألعاب الأولمبية التي حظيت بإشادة واسعة وأربع بطولات قارية لكرة القدم على الانتهاء ومن المتوقع أن يكون عام 2025 أقل.

«الشرق الأوسط» (لندن)
حصاد الأسبوع فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية بقيادة ميشال بارنييه في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)،

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع خافيير ميلي (أ.ب)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار

شوقي الريّس (مدريد)

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.