«قانون المواطنة» يضع التعدّدية الهندية أمام الامتحان

في عهد اليمين الهندوسي القومي

«قانون المواطنة» يضع التعدّدية الهندية أمام الامتحان
TT

«قانون المواطنة» يضع التعدّدية الهندية أمام الامتحان

«قانون المواطنة» يضع التعدّدية الهندية أمام الامتحان

فجّر التعديل الذي أقرّه حزب بهاراتيا جاناتا الهندوسي القومي الحاكم في الهند على «قانون المواطنة (الجنسية)» غضبة شعبية واسعة في مناطق كثيرة من البلاد. وللعلم، يسرّع هذا التعديل على «قانون المواطنة» مسار الحصول على الجنسية لكل من الهندوس والسيخ والبوذيين والمسيحيين والبارسي (الزرادشتيون) وما يسمى بـ«الأقليات الدينية المضطهدة» في الدول ذات الغالبية المسلمة المجاورة للهند، وهي بنغلاديش وأفغانستان وباكستان.
ولكن، ما يثير القلق والغضب هو ربط التعديل مسألة الحصول على الجنسية بالهوية الدينية، إذ ينظر كثيرون إلى القانون المعدّل على أنه «حظر للمسلمين»، وهو ما أدى إلى انتشار الاحتجاجات العارمة في طول الهند وعرضها. بل إن بعض هذه الاحتجاجات اتسمت بالعنف، وأسفرت عن سقوط ما لا يقل عن ستة قتلى، واعتقال الآلاف. وما يجدر ذكره، أن التطورات الأخيرة جاءت في أعقاب سلسلة مظاهرات طلابية شملت كثيراً من الجامعات والمعاهد العليا والفنية في البلاد

حظرت السلطات الهندية هذا الأسبوع الاحتجاجات والمظاهرات المناوئة على تعديل «قانون المواطنة» (الجنسية)، وكانت الإشكالية حول التعديل قد وصلت إلى المحكمة الهندية العليا التي أصدرت إخباراً إلى السلطات الاتحادية يشمل 59 عريضة تدحض مشروعية التعديل هذا العام. إلا أن المحكمة أحجمت عن إصدار وقف مؤقت لتطبيق التعديل القانوني الجديد، وأما الموعد المقبل لنظر القضية فهو 22 يناير (كانون الثاني) المقبل.
العرائض المقدمة تعتبر أن التعديل بشكّل تمييزاً سلبياً على أساس الدين بين المهاجرين المسلمين وغير المسلمين الوافدين من أفغانستان وباكستان وبنغلاديش، والمهاجرين الوافدين من الدول الثلاث وباقي المهاجرين، والمهاجرين هرباً من الاضطهاد الديني وغيرهم، وبين المهاجرين غير الشرعيين من أبناء ست ديانات أخرى والمسلمين من الدول الثلاث الذين دخلوا الأراضي الهندية قبل 31 ديسمبر (كانون الأول) 2014، وأولئك الذين دخلوا الهند بعد ذلك التاريخ. ووفق النص الموافق عليه لمشروع قانون التعديل، فإن المهاجرين المسلمين سيُعتبرون مهاجرين غير شرعيين.
من ناحية ثانية، يتواصل الجدل المستعر بين حزب بهاراتيا جاناتا، بقيادة رئيس الحكومة الاتحادية ناريندرا مودي، وقوى المعارضة، مع تزايد القوى الحزبية التي تناوئ التعديل، علماً بأن وزير الداخلية آميت شاه، البالغ النفوذ، أكد أن الحكومة ستنفذه. وبينما تنتشر المظاهرات والاحتجاجات في عموم الهند ضد مشروع قانون التعديل و«السجلّ الوطني للمواطنين»، تلجأ الحكومة إلى إجراءات أمنية هدفها إخماد اللهب السياسي في الشارع.

رفض التمييز السلبي

وفي هذا الإطار ظهر آميت شاه في مقابلات تلفزيونية يوم الثلاثاء الماضي، متعهداً بـ«ألا يواجه أي مسلم هندي من أي إجحاف أو ظلم من هذه السياسات». وفي السياق نفسه، نشرت حكومة مودي إعلانات في كثير من الصحف المنشورة باللغتين الهندية والأوردية تحذّر فيها من «الشائعات والأضاليل المروّجة». ولكن، يوم أمس (الخميس)، شهد جولة جديدة من الاحتجاجات ضد التعديل في مناطق عدة على امتداد الهند، فبادر وزير الداخلية إلى الدعوة لعقد اجتماع طارئ لمناقشة الأوضاع الأمنية في الهند. غير أن البرلماني المعارض شاشي ثارور، وزير الدولة السابق للشؤون الخارجية والأمين العام المساعد السابق في الأمم المتحدة، يقول إن استثناء طائفة دينية واحدة في هذا التعديل، الذي أقرّه رئيس الجمهورية رام ناث كوفيند فوراً كقانون ساري المفعول «أساساً خطوة مناقضة لتقاليد الهند العلمانية والتعددية». ومن ثم تساءل ثارور: «لماذا لا يشمل التعديل، مثلاً، ميانمار (بورما) وسريلانكا والصين؟ ولماذا لا يحق للهندوس التاميل من أبناء سريلانكا بالجنسية بموجب التعديل الجديد؟ ولماذا حددت المهلة الأخيرة للاستفادة منه بآخر 2014؟»

«السجلّ الوطني للمواطنين»

بالإضافة إلى تعديل «قانون المواطنة»، كانت الحكومة الهندية قد خرجت ببرنامج منفصل تحت اسم «السجلّ الوطني للمواطنين» في وقت سابق من العام الحالي في ولاية آسام بشمال شرقي البلاد. هذه اللائحة الخاصة بالمواطنية (الجنسية) تشكل جزءاً من جهود الحكومة الهادفة إلى الكشف عمن تزعم أنهم من المهاجرين غير الشرعيين في هذه الولاية، والتخلص منهم. ولقد نشرت اللائحة النهائية بأسماء هؤلاء يوم 31 أغسطس (آب) الماضي، وأخرجت نحو 1.9 مليون من المقيمين في آسام بينهم هندوس. وراهناً يساور القلق سكان آسام من أن كثيرين من هؤلاء سيُمنحون الجنسية الهندية، ما سيشكل خطراً على قوميتهم. وفي المقابل، يشعر تشانشال روي، وهو من أبناء طائفة الماتوا الهندوسية المهاجرة من بنغلاديش إلى شمال شرقي الهند، بالسعادة إزاء التعديل الخاص بالجنسية الذي أقرّه حزب بهاراتيا جاناتا. ويشرح: «لقد تعرّضنا طويلاً للقمع والقهر في بنغلاديش ما دفعنا للهجرة إلى آسام... وبما أن الهند بلد هندوسي، فإن من حقنا الحصول على الجنسية هنا». ولكن في الوقت ذاته، يقر روي بالمشاعر السلبية في أوساط الهندوس الآتين من بنغلاديش من «السجلّ الوطني»، ويوضح حالياً: «الناس هنا ينظرون إلى السحل الوطني المعمول به في آسام ويرون أن كثرة من الهندوس كانوا يُخرجون منه، ولكن بفضل التعديل الجديد على قانون المواطنية ما عدنا نحن الهندوس قلقين».

شكاوى المسلمين

هذا الارتياح معكوس تماماً في مناطق عدة من الهند تشهد الاحتجاجات بسبب استثناء المسلمين من لائحة التعديل. ذلك أن اللاجئين الروهينغا المسلمين الفارين من ميانمار، والمسلمين الأفغان لن يحصلوا بموجب التعديل على الجنسية الهندية، والشيء نفسه ينطبق على تاميل سريلانكا. وحقاً، شهدت شوارع مدن كثيرة في ولايات البنغال الغربية (شمال شرق) وكيرالا (جنوب) وغوا (غرب) احتجاجات، شاب بعضها العنف.
وخلال لقاء مع مسؤول محلي مسلم اسمه إقبال حسين، قال حسين متسائلاً: «هل جميع المسلمين إرهابيون؟ قد تكون هناك عناصر سيئة في كل طائفة، ولكن إقرار القانون بصيغته الحالية، يعني أن حزب (بهاراتيا جاناتا) يريد الهند خالية من المسلمين». وأردف: «الناس غاضبون جداً ويشعرون بضيق شديد... ونحن الآن ندرس ما يجب فعله».
في الاتجاه نفسه، يقول البرلماني دانيش علي متسائلاً: «ما الحاجة أصلاً إلى سن تشريع يستند إلى الهوية الدينية؟ أليست الغاية (فرّق تسُد)؟ إذا كانت الحكومة المركزية (الاتحادية الهندية) تؤمن بالمساواة وبتطبيقها فعليها أن تضم المسلمين، وكذلك المهاجرون من سريلانكا ونيبال وبهوتان وميانمار. ولكن بما أن هدفها الحقيقي خلق حالة استقطابية عند الناخبين الهندوس والمسلمين، وحرف الأنظار بعيداً عن التراجع الاقتصادي». ولكن السيد أحمد بخاري، إمام المسجد الجامع في دلهي، لا يرى في التعديل أي خطر على المسلمين في الهند، متهماً بعض الجهات «بتضليل الناس».

حالة لاجئ أفغاني

في أي حال، تشكل حالة عرمان (25 سنة)، اللاجئ من أفغانستان إلى الهند قبل أربع سنوات، في أعقاب تلقي عائلته تهديدات من حركة «طالبان»، حالة تستحق التوقّف عندها. عرمان سجّل كلاجئ عند كل من المفوضية العليا لشؤون اللاجئين والمكتب الإقليمي لتسجيل الأجانب، وهو واحد من كثير من الأفغان الذين يقيمون اليوم في منطقة لاجبات ناغار بمدينة دلهي. وهو بصف حاله بالقول: «نعم، يجب أن يسمح للسيخ والهندوس أن يأتوا إلى هنا، ولكن ماذا عن المسلمين؟ لقد واجهنا اضطهاداً وتمييزاً ضدنا في أفغانستان، ونرى أن الهند ذلك المكان الرحب الذي يوفر لنا العيش الذي نطمح إليه... ولهذا نود أن ننتقل إلى هنا، لكنني حالياً حزين. فإذا حرمنا من فرصة الاستقرار هنا فإلى أين سنذهب؟ الحياة صعبة بالنسبة للاجئين».
في الوقت ذاته، حذّر رئيس الحكومة الباكستانية عمران خان مجدداً من حرب نووية بين باكستان والهند حول تعديل «قانون المواطنة»؛ إذ جاء في كلمة عمران خان أمام «منبر اللاجئين العالمي»، الذي شارك في تنظيمه: «يهمني أن أبلغ العالم بأسره أن عليه إدراك خطورة أكبر أزمة لاجئين (في جنوب آسيا)... نحن في باكستان لسنا فقط قلقين من أزمة اللجوء، بل يقلقنا احتمال تطورها إلى نزاع. نزاع بين قوتين نوويتين».

الجامعة في الواجهة السياسية

بالتوازي مع الاحتجاجات المتصلة بتعديل «قانون المواطنة» (الجنسية) في الهند دخل طلاب الجامعات الهندية على خط الاحتجاجات، في عموم البلاد. فلقد اجتاحت جموع من الطلاب شوارع عدة مدن اعتراضاً على ما يعتبرونه شكلاً من أشكال التمييز ضد المسلمين في تعديل «قانون المواطنة»، واندلعت الاحتجاجات في أكثر من 20 جامعة.
الواقع أن التوتر تزايد كثيراً منذ 15 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، اعتراضاً على تعامل الشرطة مع طلاب ينتمون إلى الجامعة الملية الإسلامية في العاصمة دلهي وجامعة عليغره الإسلامية العريقة بمدينة عليغره في ولاية أوتار براديش بشمال الهند، وهي كبرى الولايات الهندية من حيث هدد السكان.
ومن ثم، تدخل رجال الشرطة بعنف إثر مسيرات احتجاجية نظمها طلاب في المعهد الهندي للتكنولوجيا (آي آي تي) في بومباي، ومعهد تاتا للعلوم الاجتماعية في المدينة نفسها، وجامعة حيدر آباد المركزية وجامعة مولانا آزاد في حيدر آباد، وندوة العلماء في مدينة لوكناو عاصمة أوتار بردايش، في أعقاب تعاطف طلاب هذه الجامعات والمعاهد مع زملائهم في عليغره ودلهي.
أيضاً نشط المحتجون على وسائل التواصل الاجتماعي، فشنوا حرباً سياسية عبر هذه المواقع، ولعبت بعض المواقع مثل «إنستغرام» دوراً بارزاً في نقل الاعتراضات على التعديل المذكور والمثير للجدل.
هذا النشاط السياسي الاحتجاجي الطلابي لم يأتِ من فراغ. إذ كانت الجامعات العامة والمعاهد الفنية الهندية قد بدأت التحول إلى مواقع من الفوضى والخلافات المريرة وميادين لمظاهرات ضخمة ومتزايدة ضد الحكومة، وسط غضب عارم تجاه قرار حكومة مودي اليمينية القومية الهندوسية إقرار زيادة كبيرة في تكلفة الإقامة في السكن الجامعي. هذه الزيادة أثارت غضب الطلاب ودفعتهم للخروج إلى الشوارع، ما اضطر قوات الشرطة إلى الانتشار في الشوارع هي الأخرى، ووقع صدام بين الجانبين ليتحول الأمر إلى صراع يتجاوز حدود كونه مجرد خلاف حول زيادة الأقساط والأكلاف.

جامعة جواهرلال نهرو

في الواجهة كانت ولا تزال جامعة جواهرلال نهرو في العاصمة الهندية نيو دلهي. هذه الجامعة تعد واحدة من أبرز الجامعات على مستوى آسيا. ومنذ إنشائها عام 1969. وقفت الجامعة كمنارة أمل على صعيد التعليم العالي والبحث العلمي في الهند. ولا يقتصر إسهام الجامعة على توفير مساحة تمكين للطلاب تتيح لهم عقد مناقشات حول قضايا سياسية مثيرة للجدل، وإنما يمتد إلى تحريرها الطلاب من سطوة وقمع الهياكل الطبقية والطائفية والأقساط والأكلاف الباهظة. ويصف البعض جامعة جواهرلال نهرو بأنها الجامعة الوحيدة التي توفر تعليماً عالي الجودة مدعوماً بدرجة كبيرة للطلاب الفقراء الذين يفد أكثر من 90 في المائة منهم من ولايات أخرى من أرجاء البلاد.
هنا، بقول شوبهودا تشودهري، الأكاديمي المقيم في نيودلهي: «هذا السبب تحديداً وراء تفاقم حركة الاحتجاجات الطلابية اليوم لتتجاوز مجرد تعبير عن غضب إزاء إدارة الجامعة، وتمتد إلى مسألة أكبر تتعلق بما يعتبره الطلاب كراهية من جانب الحكومة إزاء التعليم وطرح الإعلام للأحداث على نحو مضلل ووجود تباينات اجتماعية واقتصادية هائلة داخل البلاد». وحقاً، يرى كثيرون أن حكومة مودي، في محاولة منها للتغلب على خصومها الآيديولوجيين، رأت في الجامعات مراكز معارضة لنمط السياسات التي تنتهجها.


مقالات ذات صلة

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

حصاد الأسبوع Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

سطرت نيتومبو ناندي ندايتواه، 72 عاماً، اسمها في التاريخ بوصفها أول امرأة تتولى رئاسة ناميبيا منذ استقلال البلاد عام 1990، بعدما حصدت 57 في المائة من الأصوات في

فتحية الدخاخني ( القاهرة)
رياضة سعودية السعودية تستمر في تشكيل خريطة مختلف الرياضات العالمية بتنظيم واستضافات غير مسبوقة (الشرق الأوسط)

السعودية ستُشكل خريطة الرياضة العالمية في 2025

شارف عام حافل بالأحداث الرياضية بما في ذلك الألعاب الأولمبية التي حظيت بإشادة واسعة وأربع بطولات قارية لكرة القدم على الانتهاء ومن المتوقع أن يكون عام 2025 أقل.

«الشرق الأوسط» (لندن)
حصاد الأسبوع فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية بقيادة ميشال بارنييه في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)،

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع خافيير ميلي (أ.ب)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار

شوقي الريّس (مدريد)

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟
TT

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية، بقيادة ميشال بارنييه، في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)، على رأس الحكومة الجديدة. يأتي قرار التعيين في الوقت الذي تعيش فيه فرنسا أزمة برلمانية حادة بسبب غياب الأغلبية وهشاشة التحالفات، مما يضفي على الحياة السياسية جواً من عدم الاستقرار والفوضى. كان هذا القرار متوقَّعاً حيث إن رئيس الوزراء الجديد من الشخصيات المعروفة في المشهد السياسي الفرنسي، والأهم أنه كان عنصراً أساسياً في تحالف ماكرون الوسطي وحليف الرئيس منذ بداية عهدته في 2017. تساؤلات كثيرة رافقت إعلان خبر التعيين، أهمها حظوظ رئيس الوزراء الجديد في تحقيق «المصالحة» التي ستُخرِج البلاد من الأزمة البرلمانية، وقدرته على إنقاذ عهدة ماكرون الثانية.

أصول ريفية بسيطة

وُلِد فرنسوا بايرو في 25 مايو (أيار) عام 1951 في بلدة بوردار بالبرينيه الأطلسية، وهو من أصول بسيطة، حيث إنه ينحدر من عائلة مزارعين، أباً عن جدّ. كان يحب القراءة والأدب، وهو ما جعله يختار اختصاص الأدب الفرنسي في جامعة بوردو بشرق فرنسا. بعد تخرجه عمل في قطاع التعليم، وكان يساعد والدته في الوقت ذاته بالمزرعة العائلية بعد وفاة والده المفاجئ في حادث عمل. بدأ بايرو نشاطه السياسي وهو في سن الـ29 نائباً عن منطقة البرانس الأطلسي لسنوات، بعد أن انخرط في صفوف حزب الوسط، ثم رئيساً للمجلس العام للمنطقة ذاتها بين 1992 و2001. إضافة إلى ذلك، شغل بايرو منصب نائب أوروبي بين 1999 و2002. وهو منذ 2014 عمدة لمدينة بو، جنوب غربي فرنسا، ومفتّش سامٍ للتخطيط منذ 2020.

شغل بايرو مهام وزير التربية والتعليم بين 1993 و1997 في 3 حكومات يمينية متتالية. في 2017 أصبح أبرز حلفاء ماكرون، وكوفئ على ولائه بحقيبة العدل، لكنه اضطر إلى الاستقالة بعد 35 يوماً فقط، بسبب تورطه في تحقيق يتعلق بالاحتيال المالي. ومعروف عن فرنسوا بايرو طموحه السياسي، حيث ترشح للرئاسة 3 مرات، وكانت أفضل نتائجه عام 2007 عندما حصل على المركز الثالث بنسبة قاربت 19 في المائة.

مارين لوبان زعيمة اليمين المتطرف (إ.ب.أ)

شخصية قوية وعنيدة

في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون: كيف ضغط رئيس (الموديم) على إيمانويل ماكرون»، كشفت صحيفة «لوموند» أن رئيس الوزراء الجديد قام تقريباً بليّ ذراع الرئيس من أجل تعيينه؛ حيث تشرح الصحيفة، بحسب مصادر قريبة من الإليزيه، أن بايرو واجه الرئيس ماكرون غاضباً، بعد أن أخبره بأنه يريد تعيين وزير الصناعة السابق رولان لوسكور بدلاً منه، واستطاع بقوة الضغط أن يقنعه بالرجوع عن قراره وتعيينه هو على رأس الحكومة.

الحادثة التي نُقلت من مصادر موثوق بها، أعادت إلى الواجهة صفات الجرأة والشجاعة التي يتحّلى بها فرنسوا بايرو، الذي يوصف أيضاً في الوسط السياسي بـ«العنيد» المثابر. ففي موضوع آخر نُشر بصحيفة «لوفيغارو» بعنوان: «فرنسوا بايرو التلميذ المصاب بالتأتأة يغزو ماتنيون»، ذكرت الصحيفة أن بايرو تحدَّى الأطباء الذين نصحوه بالتخلي عن السياسة والتعليم بسبب إصابته وهو في الثامنة بالتأتأة أو الصعوبة في النطق، لكنه نجح في التغلب على هذه المشكلة، بفضل عزيمة قوية، واستطاع أن ينجح في السياسة والتعليم.

يشرح غيوم روكيت من صحيفة «لوفيغارو» بأنه وراء مظهر الرجل الريفي الأصل البشوش، يوجد سياسي محنّك، شديد الطموح، بما أنه لم يُخفِ طموحاته الرئاسية، حيث ترشح للرئاسيات 3 مرات، و«لن نكون على خطأ إذا قلنا إنه استطاع أن يستمر في نشاطه السياسي كل هذه السنوات لأنه عرف كيف يتأقلم مع الأوضاع ويغيّر مواقفه حسب الحاجة»، مذكّراً بأن بايرو كان أول مَن هاجم ماكرون في 2016 باتهامه بالعمل لصالح أرباب العمل والرأسماليين الكبار، لكنه أيضاً أول مع تحالف معه حين تقدَّم في استطلاعات الرأي.

على الصعيد الشخصي، يُعتبر بايرو شخصية محافظة، فهو أب لـ6 أطفال وكاثوليكي ملتزم يعارض زواج المثليين وتأجير الأرحام، وهو مدافع شرس عن اللهجات المحلية، حيث يتقن لهجته الأصلية، وهي اللهجة البيرينية.

رجل الوفاق الوطني؟

عندما تسلّم مهامه رسمياً، أعلن فرنسوا بايرو أنه يضع مشروعه السياسي تحت شعار «المصالحة» ودعوة الجميع للمشاركة في النقاش. ويُقال إن نقاط قوته أنه شخصية سياسية قادرة على صنع التحالفات؛ حيث سبق لفرنسوا بايرو خلال الـ40 سنة خبرة في السياسة، التعاون مع حكومات ومساندة سياسات مختلفة من اليمين واليسار.

خلال مشواره السياسي، عمل مع اليمين في 1995، حيث كان وزيراً للتربية والتعليم في 3 حكومات، وهو بحكم توجهه الديمقراطي المسيحي محافظ وقريب من اليمين في قضايا المجتمع، وهو ملتزم اقتصادياً بالخطوط العريضة لليبيراليين، كمحاربة الديون وخفض الضرائب. وفي الوقت ذاته، كان فرنسوا بايرو أول زعيم وسطي يقترب من اليسار الاشتراكي؛ أولاً في 2007 حين التقى مرشحة اليسار سيغولين رويال بين الدورين الأول والثاني من الانتخابات الرئاسية للبحث في تحالف، ثم في 2012 حين صنع الحدث بدعوته إلى التصويت من أجل مرشح اليسار فرنسوا هولاند على حساب خصمه نيكولا ساركوزي، بينما جرى العرف أن تصوّت أحزاب الوسط في فرنسا لصالح اليمين.

ومعروف أيضاً عن رئيس الوزراء الجديد أنه الشخصية التي مدّت يد المساعدة إلى اليمين المتطرف، حيث إنه سمح لمارين لوبان بالحصول على الإمضاءات التي كانت تنقصها لدخول سباق الرئاسيات عام 2022، وهي المبادرة التي تركت أثراً طيباً عند زعيمة التجمع الوطني، التي صرحت آنذاك قائلة: «لن ننسى هذا الأمر»، كما وصفت العلاقة بينهما بـ«الطيبة». هذه المعطيات جعلت مراقبين يعتبرون أن بايرو هو الأقرب إلى تحقيق التوافق الوطني الذي افتقدته الحكومة السابقة، بفضل قدرته على التحدث مع مختلف الأطياف من اليمين إلى اليسار.

ما هي حظوظ بايرو في النجاح؟رغم استمرار الأزمة السياسية، فإن التقارير الأولية التي صدرت في الصحافة الفرنسية توحي بوجود بوادر مشجعة في طريق المهمة الجديدة لرئيس الوزراء. التغيير ظهر من خلال استقبال أحزاب المعارضة لنبأ التعيين، وعدم التلويح المباشر بفزاعة «حجب الثقة»، بعكس ما حدث مع سابقه، بارنييه.

الإشارة الإيجابية الأولى جاءت من الحزب الاشتراكي الذي عرض على رئيس الوزراء الجديد اتفاقاً بعدم حجب الثقة مقابل عدم اللجوء إلى المادة 3 - 49 من الدستور، وهي المادة التي تخوّل لرئيس الحكومة تمرير القوانين من دون المصادقة عليها. الاشتراكيون الذين بدأوا يُظهرون نيتهم في الانشقاق عن ائتلاف اليسار أو «جبهة اليسار الوطنية» قد يشكّلون سنداً جديداً لبايرو، إذا ما قدّم بعض التنازلات لهم.

وفي هذا الإطار، برَّر بوريس فالو، الناطق باسم الحزب، أسباب هذا التغيير، بالاختلاف بين الرجلين حيث كان بارنييه الذي لم يحقق حزبه أي نجاحات في الانتخابات الأخيرة يفتقد الشرعية لقيادة الحكومة، بينما الأمر مختلف نوعاً ما مع بايرو. كما أعلن حزب التجمع الوطني هو الآخر، وعلى لسان رئيسه جوردان بارديلا، أنه لن يكون هناك على الأرجح حجب للثقة، بشرط أن تحترم الحكومة الجديدة الخطوط الحمراء، وهي المساس بالضمان الصحّي، ونظام المعاشات أو إضعاف اقتصاد البلاد.

يكتب الصحافي أنطوان أوبردوف من جريدة «لوبنيون»: «هذه المرة سيمتنع التجمع الوطني عن استعمال حجب الثقة للحفاظ على صورة مقبولة لدى قاعدته الانتخابية المكونة أساساً من كهول ومتقاعدين قد ترى هذا الإجراء الدستوري نوعاً من الحثّ على الفوضى».

كما أعلن حزب اليمين الجمهوري، على لسان نائب الرئيس، فرنسوا كزافييه بيلامي، أن اليمين الجمهوري سيمنح رئيس الحكومة الجديد شيئاً من الوقت، موضحاً: «سننتظر لنرى المشروع السياسي للسيد بايرو، ثم نقرر». أما غابرييل أتال، رئيس الوزراء السابق عن حزب ماكرون، فأثنى على تعيين بايرو من أجل «الدفاع على المصلحة العامة في هذا الظرف الصعب».

أما أقصى اليسار، الممثَّل في تشكيلة «فرنسا الأبية»، إضافة إلى حزب الخضر، فهما يشكلان إلى غاية الآن الحجر الذي قد تتعثر عليه جهود الحكومة الجديدة؛ فقد لوَّحت فرنسا الأبية باللجوء إلى حجب الثقة مباشرة بعد خبر التعيين، معتبرة أن بايرو سيطبق سياسة ماكرون لأنهما وجهان لعملة واحدة.

فرانسوا بايرو يتحدث في الجمعة الوطنية الفرنسية (رويترز)

أهم الملفات التي تنتظر بايرو

أهم ملف ينتظر رئيس الوزراء الجديد الوصول إلى اتفاق عاجل فيما يخص ميزانية 2025؛ حيث كان النقاش في هذا الموضوع السبب وراء سقوط حكومة بارنييه. وكان من المفروض أن يتم الإعلان عن الميزانية الجديدة والمصادقة عليها قبل نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2024، لولا سقوط الحكومة السابقة، علماً بأن الدستور الفرنسي يسمح بالمصادقة على «قانون خاص» يسمح بتغطية تكاليف مؤسسات الدولة وتحصيل الضرائب لتجنب الشلّل الإداري في انتظار المصادقة النهائية. أوجه الخلاف فيما يخّص القانون تتعلق بعجز الميزانية الذي يُقدَّر بـ60 مليار يورو، الذي طلبت الحكومة السابقة تعويضه بتطبيق سياسة تقشفية صارمة تعتمد على الاقتطاع من نفقات القطاع العمومي والضمان الاجتماعي، خاصة أن فرنسا تعاني من أزمة ديون خانقة حيث وصلت في 2023 إلى أكثر من 3200 مليار يورو. الرفض على المصادقة قد يأتي على الأرجح من اليسار الذي يطالب بإيجاد حل آخر لتغطية العجز، وهو رفع الضرائب على الشركات الكبرى والأثرياء. وكان فرنسوا بايرو من السياسيين الأكثر تنديداً بأزمة الديون، التي اعتبرها مشكلة «أخلاقية» قبل أن تكون اقتصادية؛ حيث قال إنه من غير اللائق أن «نحمّل أجيال الشباب أخطاء التدبير التي اقترفناها في الماضي».

الملف الثاني يخص نظام المعاشات، وهو ملف يقسم النواب بشّدة بين اليمين المرحّب بفكرة الإصلاح ورفع سن التقاعد من 62 إلى 64 سنة، إلى اليسار الذي يرفض رفع سنّ التقاعد، معتبراً القانون إجراءً غير عادل، وبالأخص بالنسبة لبعض الفئات، كذوي المهن الشاقة أو الأمهات.

وتجدر الإشارة إلى أن فرنسا كانت قد شهدت حركة احتجاجات شعبية عارمة نتيجة إقرار هذا القانون، وبالأخص بعد أن كشفت استطلاعات الرأي أن غالبية من الفرنسيين معارضة له. صحيفة «لكبرس»، في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون ماذا كان يقول عن المعاشات» تذكّر بأن موقف رئيس الوزراء بخصوص هذا الموضوع كان متقلباً؛ فهو في البداية كان يطالب بتحديد 60 سنة كحّد أقصى للتقاعد، ثم تبنَّى موقف الحكومة بعد تحالفه مع ماكرون.

وعلى طاولة رئيس الوزراء الجديد أيضاً ملف «الهجرة»؛ حيث كان برونو ريتيلو، وزير الداخلية، قد أعلن عن نصّ جديد بشأن الهجرة في بداية عام 2025، الهدف منه تشديد إجراءات الهجرة، كتمديد الفترة القصوى لاحتجاز الأجانب الصادر بحقهم أمر بالترحيل أو إيقاف المساعدات الطبية للمهاجرين غير الشرعيين. سقوط حكومة بارنييه جعل مشروع الهجرة الجديد يتوقف، لكنه يبقى مطروحاً كخط أحمر من قِبَل التجمع الوطني الذي يطالب بتطبيقه، بعكس أحزاب اليسار التي هددت باللجوء إلى حجب الثقة في حال استمرت الحكومة الجديدة في المشروع. وهذه معادلة صعبة بالنسبة للحكومة الجديدة. لكن محللّين يعتقدون أن الحكومة الجديدة تستطيع أن تنجو من السقوط، إذا ما ضمنت أصوات النواب الاشتراكيين، بشرط أن تُظهر ليونة أكبر في ملفات كالهجرة ونظام المعاشات، وألا تتعامل مع كتلة اليمين المتطرف.

إليزابيث بورن (أ.ف.ب)

بومبيدو

دوفيلبان

حقائق

رؤساء الحكومة الفرنسيون... معظمهم من اليمين بينهم سيدتان فقط


منذ قيام الجمهورية الخامسة عام 1958، ترأَّس حكومات فرنسا 28 شخصية سياسية، ينتمي 8 منها لليسار الاشتراكي، بينما تتوزع الشخصيات الأخرى بين اليمين الجمهوري والوسط. ومن بين هؤلاء سيدتان فقط: هما إيديت كريسون، وإليزابيث بورن.هذه قائمة بأشهر الشخصيات:جورج بومبيدو: ترأَّس الحكومة بين 1962 و1968. معروف بانتمائه للتيار الوسطي. شغل وظائف سامية في مؤسسات الدولة، وكان رجل ثقة الجنرال شارل ديغول وأحد مقربيه. عيّنه هذا الأخير رئيساً للوزراء عام 1962 ومكث في منصبه 6 سنوات، وهو رقم قياسي بالنسبة لرؤساء حكومات الجمهورية الخامسة. لوران فابيوس: ترأَّس الحكومة بين 1984 و1986. ينتمي للحزب الاشتراكي. شغل منصب وزير المالية، ثم وزيراً للصناعة والبحث العلمي. حين عيّنه الرئيس الراحل فرنسوا ميتران كان أصغر رئيس وزراء فرنسي؛ حيث كان عمره آنذاك 37 سنة. شغل أيضاً منصب رئيس الجمعية الوطنية. تأثرت شعبيته بعد محاكمته بوصفه مسؤولاً عن الحكومة في قضية الدم الملوّث الذي راح ضحيته أكثر من 4 آلاف فرنسي. كما تكرر اسمه في مفاوضات الملف النووي الإيراني.جاك شيراك: إضافة لوظيفته الرئاسية المعروفة، ترأَّس جاك شيراك الحكومة الفرنسية مرتين: المرة الأولى حين اختاره الراحل فاليري جيسكار ديستان وكان ذلك بين 1974 و1976، ثم إبان عهدة الرئيس فرنسوا ميتران بين 1986 و1988. شغل مناصب سامية، وتقلّد مسؤوليات عدة في مؤسسات الدولة وأجهزتها، حيث كان عمدة لمدينة باريس، ورئيس حزب التجمع الجمهوري اليميني، ووزيراً للزراعة.دومينيك دوفيلبان: شغل وظيفة رئيس الحكومة في عهدة الرئيس جاك شيراك بين 2005 و2007، وكان أحد مقربي الرئيس شيراك. كما شغل أيضاً حقيبة الخارجية ونال شعبية كبيرة بعد خطابه المعارض لغزو العراق أمام اجتماع مجلس الأمن في عام 2003. حين كان رئيس الوزراء، أعلن حالة الطوارئ بعد أحداث العنف والاحتجاجات التي شهدتها الضواحي في فرنسا.فرنسوا فيون: عيّنه الرئيس السابق نيكولا ساركوزي في منصب رئيس الوزراء بين 2007 و2012، وهو بعد بومبيدو أكثر الشخصيات تعميراً في هذا المنصب. شغل مناصب وزارية أخرى حيث كُلّف حقائب التربية، والتعليم، والشؤون الاجتماعية، والعمل. أصبح رسمياً مرشح حزب الجمهوريون واليمين والوسط للانتخابات الرئاسية الفرنسية 2017، وأُثيرت حوله قضية الوظائف الوهمية التي أثّرت في حملته الانتخابية تأثيراً كبيراً، وانسحب بعدها من الحياة السياسية.