قصة «كوكب الشرق» وأغانيها على «خشبة المسرح» في لندن

«أم كلثوم والعصر الذهبي» إنتاج سعودي يهدف إلى تقديمها للجمهور الغربي

أم كلثوم مع إحدى المعجبات بعد حفلها بقاعة الأولمبيا بباريس 1967 (غيتي)
أم كلثوم مع إحدى المعجبات بعد حفلها بقاعة الأولمبيا بباريس 1967 (غيتي)
TT

قصة «كوكب الشرق» وأغانيها على «خشبة المسرح» في لندن

أم كلثوم مع إحدى المعجبات بعد حفلها بقاعة الأولمبيا بباريس 1967 (غيتي)
أم كلثوم مع إحدى المعجبات بعد حفلها بقاعة الأولمبيا بباريس 1967 (غيتي)

منى خاشقجي، عاشقة الفنون والتراث تحمل حلماً بمسرح موسيقي يليق بكبار أساطير الغناء العربي، ترى أن خشبة المسرح في لندن التي تقدم على الدوام مسرحيات استعراضية تحتفي بأشهر المغنين الأجانب، لا يجب أن تكون مقتصرة عليهم: «لماذا لا تكون لدينا في العالم العربي مسرحيات من طراز (ماما ميا) و(وي ويل روك يو)؟»، تتساءل أثناء لقائي معها في أحد المقاهي الشهيرة بالعاصمة البريطانية.
خاشقجي التي ساهمت في تأسيس جمعية «منسوجات» للملابس التراثية في السعودية، وهي مؤسسة تعمل على حفظ الملابس التراثية، وعرضها في المحافل العربية والدولية، وهي أيضاً التي تقتني أعمالاً لفنانين كثيرين في العالم العربي، ترى في مشروعها المقبل خطوة يجب أن تتخذ، وبينما تنشغل بتحضيرات إنتاج مسرحية عن أم كلثوم لتعرض في لندن، تحلم بما يأتي بعدها من مشروعات أخرى.
ولكن لنعد لحلم إنتاج عمل غنائي مسرحي عن أم كلثوم، منى خاشقجي بادرت بإنتاج العمل، وكتبت القصة، تروي لنا كيف تحولت الفكرة العابرة من حديث مع أحد معارفها لتصبح واقعاً وعرضاً على وشك الظهور على خشبة أحد أعرق المسارح في لندن. تقول: «الفكرة جاءت منذ 3 سنوات، كنت في جلسة مع جمع به خليط من الجنسيات على هامش بينالي فينيسيا يعملون في المسرح والأوبرا، وأحدهم دعاني لحضور مسرحية من إنتاجه، وقتها تمنيت لو كان هناك إنتاج عربي لمسرحية على نمط (ماما ميا) وغيرها من المسرحيات الغنائية على مسارح العالم. وقتها سألني ذلك الشخص: لماذا لا تقومي أنت بإنتاجها، كان ردي بأني لا خبرة لي بذلك المجال، أقصى ما فعلته كان في المدرسة من خلال عروض موسيقية من التراث العالمي والرقصات».
تضيف بينما تحتسي من كوب القهوة في ذلك الصباح البارد: «الغريب أني سألت عدداً من العاملين في المجال الفني من العرب عن إمكانية تقديم مسرحية موسيقية عن أم كلثوم، لكن لم أجد تجاوباً، قيل لي إن تراثها موجود على الإنترنت، وبعضهم قال إن أغانيها قد تكون ثقيلة، وأشار آخرون إلى أن هناك الأعمال الفنية التي تروي قصة حياتها، ولا حاجة للمزيد». لكن الحلم الذي بدأ في التكون لدى منى خاشقجي كان قوياً لدرجة أنها قررت أن تخوض التجربة بنفسها: «وقتها قررت أن أنتجها بنفسي، وبالفعل بدأت الكتابة، واستشرت كتاباً مسرحيين في النص، وكانت الآراء مشجعة».
منى التي ولدت بالسعودية، ونشأت في بيروت، تحمل ذكريات من حضورها لعروض مسرحيات موسيقية بامتياز لفيروز وصباح، وغيرهما من نجوم الغناء في لبنان، تريد اليوم أن تنفذ مسرحية غنائية على المستوى نفسه، وعلى مسرح عريق يليق بشخصية أم كلثوم. تقول إنها شاهدت لقاءً تلفزيونياً مُسجّلاً مع أم كلثوم، وهي في أواخر حياتها، تحدثت فيه عن دعوة قدمت لها للغناء في لندن: «أريد أن أحقق لها ذلك، وأن أحقق حلمي أنا أيضاً، أن أحضرها إلى لندن عبر أغانيها وقصتها».
العرض الذي يقدم على مسرح «البالاديوم» بوسط لندن يوم 2 مارس (آذار) المقبل، سيقدم بلغتين، حيث سيكون الحوار بالإنجليزية، والغناء بالعربية، مع تقديم ترجمة للأغاني على شاشات معلقة. أسألها: «لماذا الإنجليزية؟»، وتقول: «العرض للأجانب، وللعرب أيضاً، ولكني أردت أن أقدم للغربيين قصة من عندنا، وقصة أم كلثوم مشوقة جداً، وموسيقاها أيضاً، سنقوم أيضاً بإبراز الآلات الموسيقية الشرقية مثل العود والقانون». وتضيف قائلة: «نقدم المسرحية لتعريف الغرب بحضارتنا وعصرها الذهبي، كما يشير العنوان (أم كلثوم والعصر الذهبي)، ليس فقط أم كلثوم، لأن ذلك العصر كان هناك أفضل الكتاب والملحنين والموسيقيين في الوقت ذلك، وأيضاً قصتها مشوقة جداً».
من الأغاني التي ستقدم في العرض: «إنت عمري» و«ألف ليلة وليلة» و«فكروني» وغيرها، غير أن منى تشير إلى أن العرض سيقدم مقاطع تتراوح مدتها ما بين الدقيقتين إلى 6 دقائق.
بالنسبة للخطوات العملية نحو تقديم مسرحية بهذه الضخامة وعلى خشبة حي المسارح اللندني «وست إند»، تقول لنا إنها تعرفت على المنتج علي مطر، وهو الذي أنتج مسرحية «الأجنحة المتكسرة» لجبران خليل جبران، منذ عامين: «تحدثت معه عن الفكرة التي أعمل عليها، قلت بأن لدي الفكرة والتصور لما ستكون عليه المسرحية، ولكني أريد من يساعدني على تحويلها لمسرحية في لندن، وبالفعل انضم لي وهو يدير المشروع معي كمدير وكمنتج مشارك». وتفرغت هي للجانب الفني من القصة والملابس والديكور وغيرها.
العرض سيقدم لليلة واحدة فقط في «البالاديوم»، وأسألها لماذا ليلة واحدة فقط؟ تجيب بأن مسرح بحجم «بالاديوم» مزدحم دائماً بالعروض، وتوفرت لعرض أم كلثوم ليلة واحدة فقط، وأضافت: «المهم لدينا أن ينطلق العرض من لندن، وأن يحمل ختم حي المسارح اللندني العريق».
سيتجول العرض في عدد من الدول العربية والأجنبية، وتقول: «تلقينا دعوات من عدد كبير من البلدان لاستضافة العرض، منها السعودية والإمارات والبحرين وغيرها، العرض سينتقل بكامل طاقمه الأصلي، ما عدا بعض التغييرات التي قد نضطر لعملها، كما سيقدم باللغتين العربية والإنجليزية».
بالنسب لجدول العمل، بدأت هذا الأسبوع تجارب الأداء، ومن المتوقع أن تبدأ البروفات في شهر فبراير (شباط) المقبل.
أما بالنسبة لحلمها القادم، فتقول: «أن أقدم عملاً استعراضياً عن أسمهان وفريد الأطرش». أترك الحديث عند هذه النقطة والحلم الجميل أن يصدح فريد الأطرش وأسمهان على المسرح في لندن، وأن تكون الموسيقى العربية ضيفاً دائماً في العاصمة البريطانية.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)