سيناريوهات غامضة لـ«داعش» تحت زعامة «القرشي»

الانقسامات تضرب «أوهام التمدد»

«داعش» سيأخذ وقتاً طويلاً لـ«لملمة شتاته» في أعقاب مقتل زعيمه السابق أبو بكر البغدادي (أ.ب)
«داعش» سيأخذ وقتاً طويلاً لـ«لملمة شتاته» في أعقاب مقتل زعيمه السابق أبو بكر البغدادي (أ.ب)
TT

سيناريوهات غامضة لـ«داعش» تحت زعامة «القرشي»

«داعش» سيأخذ وقتاً طويلاً لـ«لملمة شتاته» في أعقاب مقتل زعيمه السابق أبو بكر البغدادي (أ.ب)
«داعش» سيأخذ وقتاً طويلاً لـ«لملمة شتاته» في أعقاب مقتل زعيمه السابق أبو بكر البغدادي (أ.ب)

ما استراتيجية تنظيم داعش الإرهابي تحت زعامة أبو إبراهيم الهاشمي القرشي؟ وهل سيتمدد الفترة المقبلة أم سيواصل الخفوت؟ وما دور كتيبته الإعلامية مع تعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً له؟ وكيف سيواجه «سيل الانقسامات» داخله؟... أسئلة كثيرة تشغل الخبراء والمختصين مع تنصيب الزعيم الجديد. والإجابة عنها قد ترسم ملامح السيناريوهات المحتملة للتنظيم التي يغلب عليها الغموض.
مختصون في الحركات الأصولية، وباحثون وخبراء أمنيون أجمعوا على أن «(داعش) سيأخذ وقتاً طويلاً لـ(لملمة شتاته) في أعقاب مقتل زعيمه السابق أبو بكر البغدادي». وأكدوا لـ«الشرق الأوسط» أنه «من المُرجح إجراء تغييرات في (ديوان الأمن العام) للتنظيم الفترة المقبلة، والإعلان عن معاقبة بعض عناصره، لتلافي صورة فشل التنظيم في حماية البغدادي ومتحدث التنظيم السابق»، لافتين إلى أن «التنظيم لن يتأثر بمقتل البغدادي؛ بل يسعى لرد اعتباره من أميركا، فضلاً عن شن حرب إعلامية ضد عناصر (القاعدة) وقادتها، لأن مقتل البغدادي عمق الخلافات بين (القاعدة) و(داعش)».
وقالوا إن «(داعش) قد يعود للرهان مجدداً على (الانفراديين) و(الخلايا النائمة) لتنفيذ ضربات سريعة في الدول، لإحداث دوي وتأكيد بقاء التنظيم، وسيحاول التنظيم مواجهة سيل الانشقاقات».
وأعلن «داعش» مقتل البغدادي في أعقاب غارة أميركية الشهر الماضي، وتعيين «القرشي» خلفاً له، ومقتل المتحدث السابق باسمه أبو الحسن المهاجر، وتعيين أبو حمزة القرشي... وقبل تولي «القرشي» قيادة التنظيم كان هناك تباين حول أعداد التنظيم؛ ففي حين أكد غينادي كوزمين، نائب مندوب روسيا الدائم لدى الأمم المتحدة في أغسطس (آب) الماضي، أن «عناصر (داعش) في سوريا قرابة 3 آلاف شخص»، رجحت تقديرات أخرى أن «عناصر التنظيم في العراق ما بين ألف و3 آلاف»، وأشارت تقارير أميركية إلى أن «(داعش) يضم ما بين 14 ألف عنصر إرهابي و18 ألفاً منهم».

هيكلة داخلية
استراتيجية «داعش» المقبلة تحت قيادة «القرشي»، فسرها عمرو عبد المنعم، المختص في شؤون الحركات الأصولية، بقوله: «في الأغلب لن يتغير نظام (داعش) وهياكله الداخلية وهي 14 هيكلاً، أهمها ما يسمى (ديوان الأمن العام)، وأعلى مكتب به يطلق عليه (مكتب الخدمات والمعلومات)، وهو قريب الشبه بإدارات الاستخبارات في الدول»، مضيفاً أنه «وفقاً لمعلومات، فإن (ديوان الأمن العام) يخضع حالياً للتحقيقات، وتم سجن أحد عناصره القيادية المتورطة في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة للعناصر في (حراس الدين)... ومن المرجح أن تتم هيكلة (الديوان) في المرحلة المقبلة، وقد يتم إعلان إعدام أحد مسؤوليه، لتلافي ما تردد عن فشل التنظيم في حماية البغدادي».
وقال عبد المنعم إن «التجربة أثبتت أن مقتل أي زعيم للجماعات الجهادية لا يؤثر على مسار هذه الجماعات بشكل مباشر، وزعامة (داعش) أسست ما يسمى (اللجنة المفوضة) التي تقوم فعلاً بالحكم على الأرض، والبغدادي انحصر أداؤه بعد هزيمة التنظيم في الموصل، واقتصر على الأداء الإعلامي فقط، فكانت هذه اللجنة هي من تقوم بقيادة التنظيم على الأرض، وهو ما وضح بشكل كبير خلال الاختيار السريع لـ(القرشي) والمتحدث الإعلامي الجديد».
وبحسب دراسة أعدها باحثون في «مرصد الأزهر لمكافحة التطرف»، فإن «هناك إشكالية ستواجه (القرشي) هي الأموال، وما يُعرف بـ(بيت مال التنظيم) وخزانته، التي تسيطر عليها بعض القيادات، وقد يطمع هؤلاء في الأموال، ويهربون بها، أو ينفصلون، ويشكلون جماعات إرهابية أخرى، وقد حدث هذا بالفعل بعد مقتل أبو مصعب الزرقاوي، وأبو حمزة المهاجر». يذكر أن الزرقاوي، هو مؤسس التنظيم في بداياته، وأول من قام بذبح أحد الرهائن الأميركيين في العراق ويدعى يوجيين أرمسترونغ عام 2004، بحز رقبته بسكين، وقد قامت جماعة «التوحيد والجهاد» حينذاك بنشر الفيديو المصور لعملية الذبح على الإنترنت.
وحول قيام «داعش» بعمليات جديدة خلال الفترة المقبلة لإثبات الذات خصوصاً لـ«القاعدة»، أكد عبد المنعم، أن «(داعش) يخطط لرد اعتباره من أميركا، والانتقام من الأكراد وقوات سوريا الديمقراطية، فضلاً عن شن حرب إعلامية ضد عناصر (القاعدة) وقادته، فعملية مقتل البغدادي عمقت الخلافات بين (القاعدة) و(داعش)، لأن مقتل البغدادي كان بسبب أو بآخر بسبب تسريبات (القاعدة)، وهذا هو سر وجود (حراس الدين) في قصة مقتل البغدادي».
في حين قال باحثون بـ«مرصد الأزهر»، إن «مقتل قادة أي تنظيم إرهابي له تأثيرات قد تكون إيجابية أو سلبية؛ إذ يرى فريق أن مقتل قائد أي تنظيم قد يصل إلى حل التنظيم أو إضعافه بصورة كبيرة، لأن موته سيؤدي لوقف العمليات، وترك كثير من الميليشيات للتنظيم، وخفض الروح المعنوية لعناصره، وعدم الاستقرار والضعف التنظيمي... في حين يرى فريق آخر أن شعور التنظيم بأن الزعيم قتل في سبيل القضية، قد يؤدي لتدفق ميليشيات جديدة، والقيام بعمليات إرهابية».

انقسامات وتململ
في السياق ذاته، كشفت دعوة أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» لأعضاء التنظيم عند إعلان الولاء للزعيم الجديد، عن حالة الانقسامات التي تخيم على التنظيم، خصوصاً أن لغته لم تختلف كثيراً عن لغة البغدادي، حيث حث أبو حمزة أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها «بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، والوعيد والتهديد لأميركا، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
وكان البغدادي قد حرض بشكل مُباشر في سبتمبر الماضي على مهاجمة السجون في سوريا والعراق، لإنقاذ ما عدّهم «مقاتلي التنظيم وعائلاتهم المحتجزين والمحتجزات في السجون والمخيمات». وقال البغدادي في حديثه حينها، إن «تنظيمه لا يزال موجوداً رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، عادّاً ذلك «اختباراً من الله» - على حد زعمه. وقال العميد السيد عبد المحسن، الخبير الأمني في مصر، إن «أبو حمزة سعى في تسجيله الأخير إلى رفع الروح المعنوية لعناصر التنظيم، بهدف مواجهة سيل الانشقاقات»، لافتاً إلى أن «حديث أبو حمزة ينم عن حجم صراعات وانشقاقات، وتراجع في قدرات التنظيم المادية والبشرية، لذا سعى لبث روح الثبات في نفس فلوله المتبقية، بالحديث عن تمددات وهمية»، مضيفاً: «قد يعود (داعش) للرهان مجدداً على (الانفراديين) أو (الذئاب المنفردة)، و(الخلايا النائمة) لتنفيذ ضربات سريعة في الدول، لإحداث دوي وتأكيد بقاء التنظيم، وأنه ما زالت لديه القدرة على تنفيذ عمليات إرهابية».
الكلام السابق، اتسق مع تحذيرات لمرصد «الإسلاموفوبيا» التابع لدار الإفتاء المصرية، من «قيام عناصر (داعش) خلال الفترة المقبلة بعمليات إرهابية في الغرب... وأنه عقب كل عملية إرهابية سيخرج التنظيم بفيديو تسجيلي يعلن فيه مسؤوليته عن العملية الإرهابية، ويبرر قيامه بها بأنها على سبيل القصاص من الغرب - على حد زعم التنظيم، وهذه العمليات سوف تنطلق فرادى وجماعات، لإثبات أن التنظيم لا يزال صلباً ولم يهتز بقتل زعيمه السابق».
في حين أوضح عمرو عبد المنعم أن «التنظيم لن يتوانى عن سياسة التجنيد، التي تعتمد على حماس واندفاع الشباب، ومن هنا تنبع فكرة الاستقطاب الحادة في صفوف هذا التنظيم، التي أسفرت الأعوام الماضية عن حجم كبير من الانشقاقات». و«الانفراديون» هم شخص أو أشخاص يخططون وينفذون باستخدام السلاح المتاح لديهم... وكان البغدادي قد توعد في وقت سابق بحرب تحت عنوان «الذئاب المنفردة».
ويشار إلى أن أول ظهور لمصطلح «الذئاب المنفردة» كان في أحد فصول كتاب «دعوة المقاومة العالمية» الذي أعده أبو مصعب السوري بعد التحديات الأمنية التي واجهها تنظيم «القاعدة» عقب هجمات 11 سبتمبر (أيلول) عام 2001، والذي دعا فيه أفراد التنظيم والمتعاطفين معه لقتال الغرب.
وحول نشاط «داعش» الإعلامي الفترة المقبلة، قال عبد المنعم إن «التنظيم يعاني ضربة قوية بفقده المتحدث الإعلامي السابق، وبالتالي يحتاج وقتاً لاستعادة الثقة مرة أخرى في بعض مكوناته الداخلية، خصوصاً أنه يملك ترسانة إعلامية، بأدوات تكنولوجية حديثة».
وأكد مراقبون أن «(داعش) منذ نشاطه الذي تبلور عام 2014 نجح في استغلال العالم الإلكتروني، لبث عملياته، واستقطاب المتعاطفين من الجنسيات المختلفة نتيجة افتتانهم بفكر التنظيم».
ويشار إلى أن «داعش» اعتمد كلياً منذ نشأته على آلته الإعلامية لبث آيديولوجيته خلال الشبكة العنكبوتية، حيث كان يقضي أنصار التنظيم غالب وقتهم على مواقع التواصل؛ للعمل على استقطاب مُناصرين جُدد، وتجنيد مقاتلين من كل أنحاء العالم... وكذلك لتلقي نداءات التنظيم، وشرح كيفية إعداد المتفجرات يدوية الصنع، وكيفية شن هجمات بأي وسيلة كانت، حتى لا يلفت أنظار المحيطين به.
وعن عودة التنظيم لقوته السابقة، قال عمرو عبد المنعم: «لا أظن أن التنظيم يعود بفائق قوته وقدراته الكاملة التي كان عليها خلال عامي 2014 و2015 نتيجة للحصار المتناهي، والسيطرة الكبيرة على بعض المناطق في العراق وسوريا من قبل القوات النظامية والتحالف الدولي، التي تستخدم طرقاً جديدة غير الطرق التقليدية في الحرب والمواجهة، لكن هناك خطوة من (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».


مقالات ذات صلة

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)
شؤون إقليمية عناصر من الجيش الوطني السوري الموالي لتركيا في شمال سوريا (إعلام تركي)

العملية العسكرية التركية في شمال سوريا تواجه رفضاً روسياً وغموضاً أميركياً

تصاعدت التصريحات التركية في الفترة الأخيرة حول إمكانية شن عملية عسكرية جديدة تستهدف مواقع «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) في شمال سوريا.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟