سيناريوهات غامضة لـ«داعش» تحت زعامة «القرشي»

الانقسامات تضرب «أوهام التمدد»

«داعش» سيأخذ وقتاً طويلاً لـ«لملمة شتاته» في أعقاب مقتل زعيمه السابق أبو بكر البغدادي (أ.ب)
«داعش» سيأخذ وقتاً طويلاً لـ«لملمة شتاته» في أعقاب مقتل زعيمه السابق أبو بكر البغدادي (أ.ب)
TT

سيناريوهات غامضة لـ«داعش» تحت زعامة «القرشي»

«داعش» سيأخذ وقتاً طويلاً لـ«لملمة شتاته» في أعقاب مقتل زعيمه السابق أبو بكر البغدادي (أ.ب)
«داعش» سيأخذ وقتاً طويلاً لـ«لملمة شتاته» في أعقاب مقتل زعيمه السابق أبو بكر البغدادي (أ.ب)

ما استراتيجية تنظيم داعش الإرهابي تحت زعامة أبو إبراهيم الهاشمي القرشي؟ وهل سيتمدد الفترة المقبلة أم سيواصل الخفوت؟ وما دور كتيبته الإعلامية مع تعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً له؟ وكيف سيواجه «سيل الانقسامات» داخله؟... أسئلة كثيرة تشغل الخبراء والمختصين مع تنصيب الزعيم الجديد. والإجابة عنها قد ترسم ملامح السيناريوهات المحتملة للتنظيم التي يغلب عليها الغموض.
مختصون في الحركات الأصولية، وباحثون وخبراء أمنيون أجمعوا على أن «(داعش) سيأخذ وقتاً طويلاً لـ(لملمة شتاته) في أعقاب مقتل زعيمه السابق أبو بكر البغدادي». وأكدوا لـ«الشرق الأوسط» أنه «من المُرجح إجراء تغييرات في (ديوان الأمن العام) للتنظيم الفترة المقبلة، والإعلان عن معاقبة بعض عناصره، لتلافي صورة فشل التنظيم في حماية البغدادي ومتحدث التنظيم السابق»، لافتين إلى أن «التنظيم لن يتأثر بمقتل البغدادي؛ بل يسعى لرد اعتباره من أميركا، فضلاً عن شن حرب إعلامية ضد عناصر (القاعدة) وقادتها، لأن مقتل البغدادي عمق الخلافات بين (القاعدة) و(داعش)».
وقالوا إن «(داعش) قد يعود للرهان مجدداً على (الانفراديين) و(الخلايا النائمة) لتنفيذ ضربات سريعة في الدول، لإحداث دوي وتأكيد بقاء التنظيم، وسيحاول التنظيم مواجهة سيل الانشقاقات».
وأعلن «داعش» مقتل البغدادي في أعقاب غارة أميركية الشهر الماضي، وتعيين «القرشي» خلفاً له، ومقتل المتحدث السابق باسمه أبو الحسن المهاجر، وتعيين أبو حمزة القرشي... وقبل تولي «القرشي» قيادة التنظيم كان هناك تباين حول أعداد التنظيم؛ ففي حين أكد غينادي كوزمين، نائب مندوب روسيا الدائم لدى الأمم المتحدة في أغسطس (آب) الماضي، أن «عناصر (داعش) في سوريا قرابة 3 آلاف شخص»، رجحت تقديرات أخرى أن «عناصر التنظيم في العراق ما بين ألف و3 آلاف»، وأشارت تقارير أميركية إلى أن «(داعش) يضم ما بين 14 ألف عنصر إرهابي و18 ألفاً منهم».

هيكلة داخلية
استراتيجية «داعش» المقبلة تحت قيادة «القرشي»، فسرها عمرو عبد المنعم، المختص في شؤون الحركات الأصولية، بقوله: «في الأغلب لن يتغير نظام (داعش) وهياكله الداخلية وهي 14 هيكلاً، أهمها ما يسمى (ديوان الأمن العام)، وأعلى مكتب به يطلق عليه (مكتب الخدمات والمعلومات)، وهو قريب الشبه بإدارات الاستخبارات في الدول»، مضيفاً أنه «وفقاً لمعلومات، فإن (ديوان الأمن العام) يخضع حالياً للتحقيقات، وتم سجن أحد عناصره القيادية المتورطة في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة للعناصر في (حراس الدين)... ومن المرجح أن تتم هيكلة (الديوان) في المرحلة المقبلة، وقد يتم إعلان إعدام أحد مسؤوليه، لتلافي ما تردد عن فشل التنظيم في حماية البغدادي».
وقال عبد المنعم إن «التجربة أثبتت أن مقتل أي زعيم للجماعات الجهادية لا يؤثر على مسار هذه الجماعات بشكل مباشر، وزعامة (داعش) أسست ما يسمى (اللجنة المفوضة) التي تقوم فعلاً بالحكم على الأرض، والبغدادي انحصر أداؤه بعد هزيمة التنظيم في الموصل، واقتصر على الأداء الإعلامي فقط، فكانت هذه اللجنة هي من تقوم بقيادة التنظيم على الأرض، وهو ما وضح بشكل كبير خلال الاختيار السريع لـ(القرشي) والمتحدث الإعلامي الجديد».
وبحسب دراسة أعدها باحثون في «مرصد الأزهر لمكافحة التطرف»، فإن «هناك إشكالية ستواجه (القرشي) هي الأموال، وما يُعرف بـ(بيت مال التنظيم) وخزانته، التي تسيطر عليها بعض القيادات، وقد يطمع هؤلاء في الأموال، ويهربون بها، أو ينفصلون، ويشكلون جماعات إرهابية أخرى، وقد حدث هذا بالفعل بعد مقتل أبو مصعب الزرقاوي، وأبو حمزة المهاجر». يذكر أن الزرقاوي، هو مؤسس التنظيم في بداياته، وأول من قام بذبح أحد الرهائن الأميركيين في العراق ويدعى يوجيين أرمسترونغ عام 2004، بحز رقبته بسكين، وقد قامت جماعة «التوحيد والجهاد» حينذاك بنشر الفيديو المصور لعملية الذبح على الإنترنت.
وحول قيام «داعش» بعمليات جديدة خلال الفترة المقبلة لإثبات الذات خصوصاً لـ«القاعدة»، أكد عبد المنعم، أن «(داعش) يخطط لرد اعتباره من أميركا، والانتقام من الأكراد وقوات سوريا الديمقراطية، فضلاً عن شن حرب إعلامية ضد عناصر (القاعدة) وقادته، فعملية مقتل البغدادي عمقت الخلافات بين (القاعدة) و(داعش)، لأن مقتل البغدادي كان بسبب أو بآخر بسبب تسريبات (القاعدة)، وهذا هو سر وجود (حراس الدين) في قصة مقتل البغدادي».
في حين قال باحثون بـ«مرصد الأزهر»، إن «مقتل قادة أي تنظيم إرهابي له تأثيرات قد تكون إيجابية أو سلبية؛ إذ يرى فريق أن مقتل قائد أي تنظيم قد يصل إلى حل التنظيم أو إضعافه بصورة كبيرة، لأن موته سيؤدي لوقف العمليات، وترك كثير من الميليشيات للتنظيم، وخفض الروح المعنوية لعناصره، وعدم الاستقرار والضعف التنظيمي... في حين يرى فريق آخر أن شعور التنظيم بأن الزعيم قتل في سبيل القضية، قد يؤدي لتدفق ميليشيات جديدة، والقيام بعمليات إرهابية».

انقسامات وتململ
في السياق ذاته، كشفت دعوة أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» لأعضاء التنظيم عند إعلان الولاء للزعيم الجديد، عن حالة الانقسامات التي تخيم على التنظيم، خصوصاً أن لغته لم تختلف كثيراً عن لغة البغدادي، حيث حث أبو حمزة أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها «بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، والوعيد والتهديد لأميركا، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
وكان البغدادي قد حرض بشكل مُباشر في سبتمبر الماضي على مهاجمة السجون في سوريا والعراق، لإنقاذ ما عدّهم «مقاتلي التنظيم وعائلاتهم المحتجزين والمحتجزات في السجون والمخيمات». وقال البغدادي في حديثه حينها، إن «تنظيمه لا يزال موجوداً رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، عادّاً ذلك «اختباراً من الله» - على حد زعمه. وقال العميد السيد عبد المحسن، الخبير الأمني في مصر، إن «أبو حمزة سعى في تسجيله الأخير إلى رفع الروح المعنوية لعناصر التنظيم، بهدف مواجهة سيل الانشقاقات»، لافتاً إلى أن «حديث أبو حمزة ينم عن حجم صراعات وانشقاقات، وتراجع في قدرات التنظيم المادية والبشرية، لذا سعى لبث روح الثبات في نفس فلوله المتبقية، بالحديث عن تمددات وهمية»، مضيفاً: «قد يعود (داعش) للرهان مجدداً على (الانفراديين) أو (الذئاب المنفردة)، و(الخلايا النائمة) لتنفيذ ضربات سريعة في الدول، لإحداث دوي وتأكيد بقاء التنظيم، وأنه ما زالت لديه القدرة على تنفيذ عمليات إرهابية».
الكلام السابق، اتسق مع تحذيرات لمرصد «الإسلاموفوبيا» التابع لدار الإفتاء المصرية، من «قيام عناصر (داعش) خلال الفترة المقبلة بعمليات إرهابية في الغرب... وأنه عقب كل عملية إرهابية سيخرج التنظيم بفيديو تسجيلي يعلن فيه مسؤوليته عن العملية الإرهابية، ويبرر قيامه بها بأنها على سبيل القصاص من الغرب - على حد زعم التنظيم، وهذه العمليات سوف تنطلق فرادى وجماعات، لإثبات أن التنظيم لا يزال صلباً ولم يهتز بقتل زعيمه السابق».
في حين أوضح عمرو عبد المنعم أن «التنظيم لن يتوانى عن سياسة التجنيد، التي تعتمد على حماس واندفاع الشباب، ومن هنا تنبع فكرة الاستقطاب الحادة في صفوف هذا التنظيم، التي أسفرت الأعوام الماضية عن حجم كبير من الانشقاقات». و«الانفراديون» هم شخص أو أشخاص يخططون وينفذون باستخدام السلاح المتاح لديهم... وكان البغدادي قد توعد في وقت سابق بحرب تحت عنوان «الذئاب المنفردة».
ويشار إلى أن أول ظهور لمصطلح «الذئاب المنفردة» كان في أحد فصول كتاب «دعوة المقاومة العالمية» الذي أعده أبو مصعب السوري بعد التحديات الأمنية التي واجهها تنظيم «القاعدة» عقب هجمات 11 سبتمبر (أيلول) عام 2001، والذي دعا فيه أفراد التنظيم والمتعاطفين معه لقتال الغرب.
وحول نشاط «داعش» الإعلامي الفترة المقبلة، قال عبد المنعم إن «التنظيم يعاني ضربة قوية بفقده المتحدث الإعلامي السابق، وبالتالي يحتاج وقتاً لاستعادة الثقة مرة أخرى في بعض مكوناته الداخلية، خصوصاً أنه يملك ترسانة إعلامية، بأدوات تكنولوجية حديثة».
وأكد مراقبون أن «(داعش) منذ نشاطه الذي تبلور عام 2014 نجح في استغلال العالم الإلكتروني، لبث عملياته، واستقطاب المتعاطفين من الجنسيات المختلفة نتيجة افتتانهم بفكر التنظيم».
ويشار إلى أن «داعش» اعتمد كلياً منذ نشأته على آلته الإعلامية لبث آيديولوجيته خلال الشبكة العنكبوتية، حيث كان يقضي أنصار التنظيم غالب وقتهم على مواقع التواصل؛ للعمل على استقطاب مُناصرين جُدد، وتجنيد مقاتلين من كل أنحاء العالم... وكذلك لتلقي نداءات التنظيم، وشرح كيفية إعداد المتفجرات يدوية الصنع، وكيفية شن هجمات بأي وسيلة كانت، حتى لا يلفت أنظار المحيطين به.
وعن عودة التنظيم لقوته السابقة، قال عمرو عبد المنعم: «لا أظن أن التنظيم يعود بفائق قوته وقدراته الكاملة التي كان عليها خلال عامي 2014 و2015 نتيجة للحصار المتناهي، والسيطرة الكبيرة على بعض المناطق في العراق وسوريا من قبل القوات النظامية والتحالف الدولي، التي تستخدم طرقاً جديدة غير الطرق التقليدية في الحرب والمواجهة، لكن هناك خطوة من (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».


مقالات ذات صلة

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)
شؤون إقليمية عناصر من الجيش الوطني السوري الموالي لتركيا في شمال سوريا (إعلام تركي)

العملية العسكرية التركية في شمال سوريا تواجه رفضاً روسياً وغموضاً أميركياً

تصاعدت التصريحات التركية في الفترة الأخيرة حول إمكانية شن عملية عسكرية جديدة تستهدف مواقع «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) في شمال سوريا.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.