آثار تنميط شخصية الأيقونة الصينية بروس لي لم تنته بعد

تاريخ حافل بنهاية ساخرة

من مشهد الصراع الأخير في فيلم «أدخل التنين»
من مشهد الصراع الأخير في فيلم «أدخل التنين»
TT

آثار تنميط شخصية الأيقونة الصينية بروس لي لم تنته بعد

من مشهد الصراع الأخير في فيلم «أدخل التنين»
من مشهد الصراع الأخير في فيلم «أدخل التنين»

بينما كان المخرج كونتن تارنتينو يصوّر في الصيف الماضي، مشاهد فيلمه الأخير «ذات مرة في هوليوود» كانت عقارب الزمن تشهد بمرور 50 سنة على قيام ممثل صغير الحجم، مليء بالطموح، آت من هونغ كونغ بمهارات قتال غير معهودة، باشتراكه في أول فيلم أميركي له.
الممثل هو بروس لي، والفيلم هو «القبعات الخضر» الذي قام جون واين ببطولته والمشاركة في إخراجه بينما قام ابنه مايكل بإنتاجه. وكان مفاد «القبعات الخضر» هو الدفاع عن الحرب الأميركية في فيتنام؛ وذلك في مواجهة عشرات الأفلام التي عارضتها أو استوحت منها مفادات روائية مبطنة بتلك المعارضة.
كان بروس لي قد خاض غمار أكثر من عشرين فيلماً صُنع في هونغ كونغ، لكن دوره في «القبعات الخضر» لم يكن أمام الكاميرا، بل خلفها كونه شارك في تمرين الممثلين على القتال. المعلومة المؤكدة هي أن بروس لي كان له دور في هذا النطاق، ما هو غير مؤكد أن دوره لم يكن شاملاً مشاهد الفيلم التي تصوّر القتال بين الفرقة التي قادها جون واين وبين الڤييتكونغ. في الفترة ذاتها بدأ يظهر أسبوعياً على شاشة التلفزيون الأميركي في مسلسل ناجح بعنوان The Green Hornet.
بعد «القبعات الخضر» بعام واحد، أي قبل خمسين سنة من العام الحالي، ظهر في أول فيلم أميركي له. المخرج بول بوغارت استعان به في مشاهد قليلة من الفيلم الذي صُوّر في مدينة لوس أنجليس من بطولة جيمس غارنر في شخصية التحري فيليب مارلو. عنوان الفيلم: «مارلو»، يشي بالموضوع القائم على حكاية من تلك التي وفّرها المؤلف رايموند تشاندلر لبطله مارلو.
دور بروس لي كان صغيراً كما تقدم، لكنه كان مثيراً: سيهاجم جيمس غارنر بقدراته القتالية الشرقية التي لا يجيد مارلو منها شيئاً متباهياً بتلك القدرات. يحيد مارلو عن طريقه فيفقد الصيني توازنه ويسقط من على الشرفة في الطابق العلوي من تلك البناية.
المشهد لم يكن متوفراً في أي من روايات تشاندلر، بل أضافه بوغارت لتوفير فرصة التمثيل لهذا الخبير بفن الكاراتيه الآتي من هونغ كونغ. والتفعيلة نجحت. بعد عامين كان بروس لي يقود بطولة الفيلم الأول له الذي توجه لعروض عالمية ربطت ما بين مدينة بيروت في لبنان ومدينة باسو في ولاية تكساس الأميركية. الفيلم حمل عنوان «الزعيم الكبير» (The Big Boss) وأخرجه الصيني واي لو، الذي أتى من التمثيل وتحوّل إلى الإخراج ثم استمر منتجاً ولا يزال.
بروس لي كوّن اسمه منذ ذلك الحين ولعدد من السنوات اللاحقة التي شغل فيها بال الناس بحركاته، التي لم تكن معهودة بالنسبة لرواد السينما، وانطلق كثيرون يقلدونها، ويقلدون كذلك تلك الصرخة التي كان يوزعها في بداية كل هجوم يدوي كان يقوم به.
تبعاً لهذا النجاح غير المتوقع قام بروس لي ببطولة وإخراج «طريق التنين» 1972، ومثّل فيلماً آخر لواي لو، هو «قبضة الغضب» (Fist of Fury) في السنة ذاتها. الفيلمان لبّيا بنسبة نجاح عالية ما توقعه جمهور الأفلام التجارية من هذا الصيني الهائج الذي سيواجه كل أتراب وطنه من الأشرار في قتال يدوي لم يسبق لهم أن حظوا بمثله.
- غرب ـ شرق
في العام التالي، 1973، حقّق الأميركي روبرت كلاوز، «أدخل التنين» Enter the Dragon، الذي كان ومن حيث لم يتوقع أحد، آخر فيلم مثله بروس لي، ولو أن أفلاماً عدة لاحقة استخدمت مشاهده من أفلامه الأربعة المتوالية لضمان بعض الاستمرارية والربح.
وكل ذلك من خمسين سنة ونحوها قبل أن يقدّم المخرج الأميركي كونتِن تارنتينو في «ذات مرة في هوليوود»، شخصية بروس لي ضمن نظرته إلى هوليوود أواخر الستينات. جاء بالممثل مايك موه وسلّمه المشهد الذي سيُؤدّي به شخصية بروس لي. حسب النص، سيقوم لي بحركاته أمام الشخصية التي يؤديها برات بيت (اسمها كليف) قبل أن يتحداه. عندما يوافق بيت على التحدي يطلق بروس لي صرخته ويرفع يديه ويهز رأسه عصبياً، ثم يتقدّم صوب الأميركي بيت الذي يحيد عنه ثم يواجهه بلكمة ترميه أرضاً.
يقول المخرج إنه استخدم المشهد لكي يظهر مهارة شخصية كليف التي يؤديها براد بِيت والتي تتبدّى كذلك في الفصل الأخير من الفيلم عندما يواجه أفراداً من عصبة تشارلز ماسون. بكلمة أخرى، أراد تارنتنيو، حسب كلامه، التمهيد لمهارة كليف التي ستتبدّى لاحقاً.
لكن هذا التبرير الصحيح سينمائياً لا يبدو السبب الوحيد لذلك المشهد. بروس لي بدأ كحال ذلك الفارس العربي الذي ينتصب فجأة أمام إنديانا جونز (هاريسون فورد) في «غزاة تابوت العهد المفقود» (1981) ممتشقاً سيفه ومؤدياً تهديداً استعراضياً به. لكن إنديانا جونز ليس لديه الوقت للعب. يسحب مسدسه ويقتل العربي برصاصة: الحديث ضد القديم. الغرب ضد الشرق.
هذه السخرية متكررة في «ذات مرة في الغرب»، لكن مع شخصية تمثل ممثلاً معروفاً (وما زال محبوباً عند ملايين). بالتالي، لا يسخر المشهد من «صينية» الشخصية التي يوفرها المشهد، بل من شخصية بروس لي الحقيقية مصوّراً إياها على نمط كاريكاتوري.
هذا التصوير هو ما دفع بابنة الممثل الراحل شانون لي، لانتقاد الفيلم والطلب من السلطات الصينية إعادة النظر في عرض الفيلم، وهذه سحبت الترخيص مطالبة المخرج بحذف تلك المشاهد؛ الأمر الذي رفضه تارنتينو رغم تدخل شركة التوزيع الأميركية (كولمبيا المملوكة من قِبل الشركة اليابانية سوني) لإقناعه حتى لا يُحرم فيلمها من السوق الصينية الشاسعة.
- أزمة تارنتينو
«أدخل التنين» كان آخر فيلم مثله بروس لي. ففي العام نفسه (1973)، مات عن 32 سنة. الذي حدث، حسب مصادر ذلك الحين، أن الممثل سقط مغشياً عليه خلال تأدية بعض المشاهد. حين نقله إلى المستشفى وجد الأطباء ماءً في نخاعه يصيب بعض الناس في أيام الحر (وكانت هونغ كونغ، حيث جرى التصوير في شهر يوليو (تموز) تمر بدرجة حرارة مرتفعة فاقت معدلاتها السابقة في مثل هذا الشهر).
بعد خروجه من المستشفى أكمل التصوير ثم توجه إلى منزل كاتبة سيناريو فيلمه المقبل بَتي تينغ باي. هناك، شعر بصداع حاد. أعطته حبوباً لعلاج وجع الرأس. توجه إلى السرير ونام ولم يستيقظ بعدها.
«أدخل التنين» هو من بين أنجح أفلام الكاراتيه قاطبة، وبالتالي أنجح فيلم قام بروس لي ببطولته. وشركة «وورنر» التي أنتجته، جمعت له ممثلين أميركيين، هما جون ساكسون وجيم كيلي. الأول (انتهى مؤخراً من تصوير فيلم «أجلب لي رأس لانس هنريكسن») لم تكن لديه أي دراية بلعب الكاراتيه أو بالكونغ فو وطريقة تنفيذ المشاهد التي تصوّره في الحلبة تفضح ذلك.
لكن جيم كيلي، كان ممارساً لتلك الفنون. أفرو - أميركي لديه خبرة مارسها في أكثر من فيلم، وكان بدأ التمثيل سنة 1972 ما يجعل «أدخل التنين» فيلمه الثاني. كلاهما أميركي يقف إلى جانب بروس لي في محاولة فهم ما يدور فوق جزيرة صينية يملكها شرير اسمه هان (كين شيه) المسلح بيد ذات قفاز حديدي تنتهي بمخالب. وهو يقيم حفلاً سنوياً لألعاب الكاراتيه ولديه جيش من المتمرسين في هذا القتال. لكن لي يشترك في الحفل السنوي لا للعب فقط، بل للكشف عن التجارة السرية التي تشكل عصب أعمال الشرير الصيني بعدما دفعت شقيقته حياتها ثمناً وهي تهرب من رجاله. وكما يعرض الفيلم، نجد الكثير من الفتيات سجينات تمهيداً للاتجار بهن. قبل ذلك يبدي لي مهارته ضد لاعبين خطيرين، هما بولو (بولو يونغ) وهو صيني يلعب شخصية سادية لا تمتنع عن القتل حتى خلال التمارين، وأوهارا (الأميركي روبرت وول) الذي يحاول قتل بروس لي بعدما خسر أمامه خلال تلك الألعاب.
العدو الأشرس أمام لي هو مالك الجزيرة هان. والفصل الأخير، فنياً، هو الأفضل والأكثر ابتكاراً. الصراع بين الإثنين يزداد حدة عندما ينتقل إلى غرفة مليئة بالمرايا. بروس لي لن يعرف أين عدوه إذ عكست المرايا نسخاً كثيرة من هان المتربص. بروس لي وقد تعرض لجرح نازف بسبب مخالب هان الحديدية يمشي بحذر بين تلك المرايا. عندما يقفز هان للإجهاز عليه يوجه بروس إليه ضربة تدفعه إلى باب تلك القاعة. في صلب الباب رمح ذي نصل حاد يدخل ظهر هان ويخرج من صدره.
تأثير بروس لي على السينما فاق كثيراً الفترة المحدودة من الظهور في أفلامها. عشرات الأفلام الصينية والكورية والأميركية تداعت صوب هذا النوع من أفلام القتال (معظمها رديء الصنعة؛ ما تسبب في تهاوي النوع بعد سنوات قليلة). إلى ذلك، دخلت فنون القتال الشرقية هوليوود من باب عريض. شاهدنا ديفيد كارادين يقود بطولة مسلسل الوسترن «كونغ فو»، حيث لعب شخصية صيني - أميركي لا يستخدم أكثر من يديه في قتال الأشرار.
في السينما تداعى كثيرون لاحتلال مكانه، بينهم تشاك نوريس (الذي كان له باع تلفزيوني في هذا المجال أيضاً عبر مسلسل «ووكر، تكساس رانجر») وستيفن سيغال، وجيت لي، وجاكي تشان، وجان - كلود ڤان دام، ووسلي سنايبس، وبالطبع جيم كيلي الذي مات شاباً بعد سنوات قليلة من «أدخل التنين». كل واحد من هؤلاء مارس القتال الشرقي الذي تعلمه والذي ليس بالضرورة ما مارسه بروس لي على الشاشة.
أزمة تارنتينو مع بروس لي لم تنته بسحب الصين ترخيصها بعرض «ذات مرة في هوليوود»، فها هو الأوسكار قادم وفي ظل محاولات التصدي للتنميط وتبعاً لشكوى شانون في أجواء نصرة القضايا النسائية، فإنّ ما بدا مؤكداً حتى شهر مضى من وثوب فيلم تارنتينو إلى نيل الأوسكار عنوة عن الأفلام الأخرى التي ستُرشّح، يبدو الآن أمراً تتداخله نسبة ملحوظة من الشكوك. لقد قدّم تارنتينو نسخة كاريكاتورية لشخصية حقيقية. هذه الشخصية حدث أنها ليست بيضاء وليست أميركية. وهناك نسبة عالية من البيض والسود والآسيويين أعضاء في أكاديمية العلوم والفنون السينمائية الذين سينظرون بعين الاعتبار إلى هذا الوضع ويصوّتون بناءً عليه.


مقالات ذات صلة

عُدي رشيد لـ«الشرق الأوسط»: لم أقرأ نصاً لغيري يستفزني مخرجاً

يوميات الشرق المخرج عدي رشيد مع بطل فيلمه عزام أحمد علي (الشرق الأوسط)

عُدي رشيد لـ«الشرق الأوسط»: لم أقرأ نصاً لغيري يستفزني مخرجاً

قال المخرج العراقي عُدي رشيد المتوج فيلمه «أناشيد آدم» بجائزة «اليسر» لأفضل سيناريو من مهرجان «البحر الأحمر» إن الأفلام تعكس كثيراً من ذواتنا.

انتصار دردير (جدة)
يوميات الشرق مريم شريف في لقطة من فيلم «سنو وايت» (الشركة المنتجة)

بطلة «سنو وايت»: الفيلم يُنصف قِصار القامة ويواجه التنمر

رغم وقوفها أمام عدسات السينما ممثلة للمرة الأولى؛ فإن المصرية مريم شريف تفوّقت على ممثلات محترفات شاركن في مسابقة الأفلام الطويلة بـ«مهرجان البحر الأحمر».

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق وجوه من فيلم «السادسة صباحاً» (غيتي)

من طهران إلى كابل... حكايات نساء يتحدّيْن الظلم في «البحر الأحمر»

«السادسة صباحاً» و«أغنية سيما» أكثر من مجرّد فيلمين تنافسيَّيْن؛ هما دعوة إلى التأمُّل في الكفاح المستمرّ للنساء من أجل الحرّية والمساواة.

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق جوني ديب لفت الأنظار بحضوره في المهرجان (تصوير: بشير صالح)

اختتام «البحر الأحمر السينمائي» بحفل استثنائي

بحفل استثنائي في قلب جدة التاريخية ، اختم مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي» فعاليات دورته الرابعة، حيث أُعلن عن الفائزين بجوائز «اليُسر». وشهد الحفل تكريمَ

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق ياسمين عبد العزيز في كواليس أحدث أفلامها «زوجة رجل مش مهم» (إنستغرام)

«زوجة رجل مش مهم» يُعيد ياسمين عبد العزيز إلى السينما

تعود الفنانة المصرية ياسمين عبد العزيز للسينما بعد غياب 6 سنوات عبر الفيلم الكوميدي «زوجة رجل مش مهم».

داليا ماهر (القاهرة )

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».