انتهت «مهرجانات بعلبك» على خير. لا بد أن اللجنة المنظمة تنفست الصعداء مساء أول من أمس، بعد أن أسدل الستار على الحفلة الأخيرة. العوائق التي واجهت المهرجان هذه السنة كانت كبيرة، وعناد المنظمين آتى أكله. أرادت اللجنة أن تمضي في برنامجها رغم الصواريخ والسيارات المفخخة، وأخيرا التهديدات الأميركية بضرب سوريا، مصممة على أن الفن أقوى من العنف والخراب.
بصوت المغنية اللبنانية فاديا طنب، المشاركة في العرض الختامي «بزل»، وباللغة الفرنسية، جاءت المقدمة على النحو التالي: «هذا الحفل مهدى إلى كل الضحايا اللبنانيين والعرب الذين سقطوا في وجه السلطان الزائل والأسلحة المدمرة».
حضر مصمم الرقص سيدي لعربي الشرقاوي، مع راقصيه وكورسه وموسيقيه إلى «جديدة المتن»، حيث انتقلت المهرجانات استثنائيا هذه السنة، وقدم عمله «بزل» الذي استمر ما يقارب الساعتين.
العرض كان منتظرا من كثيرين، فهذا المصمم سبق أن قدم عملا رائعا في لبنان، وتحديدا في «مهرجانات بيت الدين» بعنوان «بابل كلمات»، ثم إن شهرته العالمية كفيلة بأن تجعله مصدر ثقة المتفرجين. هذا إضافة إلى اللغط الكثير الذي سبق الحفلة والاعتراضات على أداء «ترنيمة بيزنطية» خلال العرض، يبدو أنها انتهت إلى حل تسامحي.
«بزل» عرض مسكون بحكاية الحجر وعلاقته بالإنسان. لعربي الشرقاوي أشبه بفيلسوف وموسيقي ومهندس جمالي، قبل أن يكون مصمما يحرك أجساد راقصيه. استوحى فكرته من المحيط الطبيعي لأفينيون الفرنسية، التي أقام فيها العرض الأول لـ«بزل» عام 2011. هناك صمم عمله بالتناغم مع مناخات المدينة، ومنها انطلق إلى بقية مدن العالم.
المشهد الأول من «بزل» ينطلق من عرض فيديو على إحدى الحوائط المصطفة على المسرح. فيديو يسافر بنا إلى داخل غرف مفتوحة الأبواب، ويجري بنا سريعا من غرفة إلى أخرى داخلها، دون أن نصل إلى قرار. هكذا هي الحياة، إذ سرعان ما نرى الراقصين كأنهم يحاولون اختراق الحيطان الصماء، قبل أن يحولوها، وكأنما هي قطع من البزل إلى درج عريض، يتوسط المسرح، يحاولون صعوده بملابسهم السوداء، لكنهم يعودون ويتدحرجون، وهم يفشلون في تسلق القمة.
المصمم المغربي البلجيكي، طويل النفس في عروضه الراقصة، يحتاج متفرجه إلى صبر ونفحات روحانية، ورغبة في التأمل. «بزل» ليس رقصا معاصرا فقط وإنما هو غناء وموسيقى وجماليات مشهدية هندسية متشابكة.
على صوت غناء اللبنانية البديعة فادية طنب ووصلاتها الكلاسيكية، يواصل الراقصون معركتهم مع الحجر، فمرة يبنون، من حجارتهم المكعبة، معبدا سرعان ما ينهار عليهم ليعيدون تركيبه، من جديد. ومرة أخرى يقيمون برجا يتسلقونه، ويتمايلون عليه، لتنشد فأديا طنب الترنيمة البيزنطية المثيرة للجدل، بينما يبدأ الراقصون المتشبثون بالبرج مناجاتهم للسماء. يبقى لعربي الشرقاوي مسحورا بفكرة برج بابل وتوق البشرية إلى الصعود، ومحاولتها المتكررة دون جدوى.
من خلال هذا الصراع، وحفلات العراك الثنائية والجماعية، ومن ثم التسامي والتعالي، وتسلق الجدران، ينسج هذا الفنان لوحاته.
التأثير شرق الآسيوي على موضوع العرض ومشهدياته كبير. هناك الملابس وكذلك استعمال الكرات الزجاجية في أيدي الراقصين التي تساعد، تقليديا في دول آسيوية، في إجراء العمليات الحسابية. وهناك أيضا الأيادي المتعددة التي يخيل للمتفرج أنها لشخص واحد بعشرات الأذرع، المستوحاة من بوذا. اليد في ثقافات كثيرة، هي رمز السلطة والقوة، وكثرتها تحيل إلى العلوية والقدرة.
يستفيد لعربي الشرقاوي من غرامه بالشرق، وثقافاته وموسيقاه، ليحاول فهم الغرب وما وصلت إليه الحضارة الإنسانية الحديثة.
هكذا يأخذنا عرض «بزل» في رحلة صوفية على أنغام موسيقى كلاسيكية بيزنطية، ويابانية وحتى كورسيكية عبر مزمار المؤلف الموسيقي البديع كازوناري آبي، ليصل بنا إلى زمن الإنسان الآلي.
الجزء الأخير من العرض، هو الأكثر حيوية، ليس فقط من حيث موسيقاه السريعة، والإضاءة الفرحة، وإنما أيضا لجهة عصريته وطرافته. الولادات المتكررة للإنسان على مسرح لعربي الشرقاوي، وانبعاثه من قلب الألم، يصل إلى الزمن الراهن. أناس ينحتون أناسا آخرين يجلسون كالأصنام، بالإزميل أو الآلات. الراقص يصبح لعبة إلكترونية قيد النحت والتشكيل والبرمجة. مهارة أخاذة في صياغة مشهديات راقصة بديعة. الكائن الجفصيني الأبيض الذي يدور بين الراقصين وكأنما تمت برمجته بعناية، يلعب دورا أساسيا.
إنها رحلة الإنسان على الأرض، بجلافتها المادية (من خلال الصراع مع الحجارة والمباني) وبعدها الروحاني (عبر الغناء والابتهال ورفع الأيدي صوب السماء) هي تلك التي يحاول أن يختصرها لعربي الشرقاوي في «بزل»، مع الحرص على جماليات لا تنقطع، إن لجهة السينوغرافيا والإضاءة وتشكيلات الراقصين. يشغل «بزل» الحواس ويفتنها، مشتغلا على الرهافة، سمعا وبصرا. كل اللغات لغته حتى تلك التي يستخدمها الصم والبكم تتحول صيغة راقصة بليغة.
عرض كل ما فيه حي ومباشر، من الرقص إلى الغناء والعزف. فالفن هنا لا يتوسل واسطة كي يصل إليك، وإنما يخاطبك ويأسرك ويدغمك فيه.
في النهاية، وبعد مكابدات طويلة، لأناس يبحثون عن خلاص، تنتصب فأديا طنب على خلفية المسرح مع الكورس، بينما نرى من جديد، ذلك المشهد الذي يعيدنا إلى الأبواب المفتوحة المتوازية أو هي تقودنا إلى غرف متوالية لا قرار لها.
ربما أن «بزل» أطول مما يجب، ربما أن بعض المشاهد جاءت بليدة، ربما أن من يذهب لرؤية عرض للرقص المعاصر، لا يكون مستعدا للاستماع لمقطوعات مطولة من الغناء الكلاسيكي مهما بلغت رهافتها، لكن سيدي لعربي الشرقاوي، يقودنا من خلال كل هذا إلى ساعتين من الفلسفة الراقصة الحديثة والرصينة.
اختتام «مهرجانات بعلبك الدولية» بعد مكابدة
انتهت «مهرجانات بعلبك» على خير. لا بد أن اللجنة المنظمة تنفست الصعداء مساء أول من أمس، بعد أن أسدل الستار على الحفلة الأخيرة. العوائق التي واجهت المهرجان هذه السنة كانت كبيرة، وعناد المنظمين آتى أكله. أرادت اللجنة أن تمضي في برنامجها رغم الصواريخ والسيارات المفخخة، وأخيرا التهديدات الأميركية بضر...
اختتام «مهرجانات بعلبك الدولية» بعد مكابدة
انتهت «مهرجانات بعلبك» على خير. لا بد أن اللجنة المنظمة تنفست الصعداء مساء أول من أمس، بعد أن أسدل الستار على الحفلة الأخيرة. العوائق التي واجهت المهرجان هذه السنة كانت كبيرة، وعناد المنظمين آتى أكله. أرادت اللجنة أن تمضي في برنامجها رغم الصواريخ والسيارات المفخخة، وأخيرا التهديدات الأميركية بضر...
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة

