خصلات الشعر «الإنسانية»... تبرعات لمرضى السرطان

شباب نشيطون يؤكدون بساطة الفكرة وعمق معناها

شابات يتبرّعن بخصلات من شعرهن لمرضى السرطان
شابات يتبرّعن بخصلات من شعرهن لمرضى السرطان
TT

خصلات الشعر «الإنسانية»... تبرعات لمرضى السرطان

شابات يتبرّعن بخصلات من شعرهن لمرضى السرطان
شابات يتبرّعن بخصلات من شعرهن لمرضى السرطان

إيلاكشي وسميرة، شقيقتان صغيرتان من الصف السابع والرابع، قصّتا خصلات من شعرهما الطويل لهدف بسيط في فكرته، وعميق في معناه، وعظيم في أثره، إذ كان الدافع مجرد رسم البسمة الطيبة على وجوه بعض الناس. وتبرعت الطفلتان الصغيرتان بشعرهما لصناعة باروكة للمصابين بمرض السرطان. وتقول الفتاتان الصغيرتان: «سنكتب أيضا خطابا إلى الشخص الذي يتولّى صناعة الباروكة من الشعر».
على نحو مماثل، تبرعت الفتاة ربيعة سيد، البالغة من العمر 14 عاما، بما مقداره 12 بوصة من شعرها، وقالت عن ذلك: «عندما سمعت عن هذه المبادرة، قررت من دون تفكير التبرع بجزء من شعري لهذه القضية. فإن لم يمكننا التخفيف من الآلام أو معاناة مرضى السرطان، فأقل ما يمكننا فعله لأجلهم هو منحهم جزءا من شعرنا. وأحاول أينما ذهبت أن أنشر الفكرة والوعي بهذه المبادرة وحض الناس الآخرين على التبرع بالشعر بأعداد كبيرة قدر المستطاع».
وكانت السيدة راديكا، البالغة من العمر 36 عاما، وهي إحدى المريضات الناجيات من المرض الخبيث، تستعين بالشعر المستعار الذي تبرعت به الفتاة ربيعة، وقالت عن تجربتها: «لقد تأثرت للغاية بتلك اللفتة الطيبة الراقية من هذه الفتاة الصغيرة. لقد تبرعت بشعرها لأجلي رغم اعتراض جديها على ذلك».
لعلاجات السرطان العديد من الآثار الجانبية المعروفة للجميع، ولكن أكثر ما يكسر قلب المريضة أو المريض، هو تساقط الشعر وذهابه. ويرجع ذلك بسبب خضوع المريض للعلاج الكيميائي الذي يقضي على الشعر ويجعل المريض يعاني من فقدان احترامه لنفسه بصورة عميقة، ويصل الأمر ببعض المرضى لآثار نفسية شديدة مثل التوتر والاكتئاب المزمن.
يقول طبيب علاج الأورام ساتيش شارما: «نشعر جميعا بذعر عارم لمجرد رؤية بعض الشعيرات العالقة المتشابكة بلا نظام في فرشاة تمشيط الشعر اليومية. ذلك لأنّ الخوف من فقدان الشعر بالكامل في يوم من الأيام بات كالشبح الذي يطاردنا أينما ذهبنا. تصوروا مدى ما يعانيه مرضى السرطان – أو الناجون من هذا المرض – من قلق وانزعاج شديد عندما يشاهدون أنفسهم من دون شعر على الإطلاق»، واصفا المبادرة المذكورة بأنّها من أفضل الهدايا الرائعة التي يمكن للمرأة تقديمها عن طيب خاطر إلى مرضى السرطان. وتقول الدكتورة تارانغ غيانشانداني، مديرة مستشفى ومركز جاسلوك للأبحاث الطبية في مدينة مومباي: «في بعض الأحيان، يفقد المرضى ثقتهم بأنفسهم، وإنّنا نريد مساعدتهم ونشر الوعي وحض الناس على التبرع بشعورهم لأجلهم».
يستعد الطفل مير ديف، البالغ من العمر ثلاث سنوات، لمساعدة مرضى السرطان الذين يخضعون للعلاج الكيميائي من خلال مبادرة «شعور الأمل»، المعنية بجمع الشعر لصالح مرضى السرطان، وقالت المؤسسة المشرفة على المبادرة إنّ مير ديف هو أصغر المشاركين في هذه المبادرة على مستوى العالم للتبرع بالشعر لصالح مرضى السرطان.
تقول السيدة بريمي ماثيو، مؤسسة الحملة في الهند: «أصبح التبرع بالشعر لصالح مرضى السرطان من المبادرات الكبيرة الآن، حتى أنّ النساء يرغبن في التخلص من شعور رؤوسهن في تحد واضح للأعراف الاجتماعية لمكافحة آلام فقدان أحد الأحبة إثر الإصابة بمرض السرطان. كما يتبرّع المئات من الرجال لصالح الحملة أيضا. ويعتبر الطفل مير ديف هو أصغر المشاركين فيها حتى الآن».
كانت ديفا كابور، الفتاة التي تبلغ من العمر ثماني سنوات من العاصمة دلهي، تحتفل بعيد ميلادها مع الأطفال من مرضى السرطان منذ العامين الماضيين. وعندما علمت بأمر مبادرة التبرع بالشعر طلبت الإذن من والديها للتبرع بشعرها الطويل لصالح أحد الأطفال الذي يحتاج إليه أكثر منها كما قالت.
بدأت مبادرة «شعور الأمل» في الهند اعتبارا من عام 2013. لنشر الوعي بين الناس بشأن التبرع بالشعر لصالح مرضى السرطان الذين يخضعون للعلاج الكيميائي. وضمن حملة «أنقذ والدتك» لصالح المريضات بسرطان الثدي، وحتى الآن، تبرّع ستة آلاف شخص بالشعر لهنّ في كافة أنحاء البلاد. وأقيمت فعاليات التبرع لمرضى السرطان في العديد من أجزاء البلاد.
واستدركت ماثيو قائلة: «نظرا لأن السرطان من الأمراض العصية على الشفاء، وقد يستثير مكامن اليأس وفقدان الأمل في الحياة لدى النشطاء والمرضى على حد سواء، جاءت تلك المبادرة كنوع من أنواع الرد والانتقام من أحد أفراد الأسرة بسببه. ووراء كل حالة تبرع بالشعر، هناك قصة تعصف بالقلوب، حيث تتحدى الناس أعراف المجتمع ويتحدى الرجال تقاليد العائلات انتصارا للقضية. ولقد صممت إحدى الفتيات على التبرع بشعرها بالكامل حتى صارت صلعاء تماما من أجل القضية، ذلك لأنّها قد فقدت العديد من أحبائها بسبب الإصابة بالمرض الخبيث».
وذاعت عبر الإنترنت أخبار الشرطية الهندية آبارنا لافاكومار، التي تبرعت بشعرها الطويل، الذي يصل إلى ركبتيها، لصالح صناعة الباروكات لأجل مرضى السرطان. والجانب المثير للدهشة من هذه القصة أنّها لم تخبر أحدا قط بما تعتزم فعله بشعرها، لأنّها خشيت من تعرضها لبعض الردع العائلي أو المهني جراء ذلك، وقالت: «لو كنت قد أخبرت أحداً مسبقا بما كنت أنوي فعله، لواجهت قدرا من الردع ربما يثنيني عن التبرع والمساعدة. لذا، انطلقت مباشرة صوب صالون الكوافير من دون تردد أو مشاورة. وبعد كل شيء، فإنّني لا أعتبر الأمر بالإنجاز العظيم. فهناك أناس آخرون يبذلون من التضحيات والمساعدات ما هو أكبر وأروع من ذلك بكثير. وإنّا لست في وضع يسمح لي بمساعدة مرضى السرطان ماديا. وكان شعري هو كل ما أستطيع التبرع به لأولئك المرضى المساكين».
وكان معهد «أديار» لأبحاث السرطان قد أقام صندوقا كبيرا للتبرع بالشعر حيث يضع الرّاغبون بالتبرّع قصاصات أو خصلات من شعرهم فيه. وبعد التبرع بالشعر، يجري فرزه وفقا لنوع ونسيج الشعر من قبل المشاركين في صناعة الباروكات في المستشفى. ويتم التخلص من الرطوبة اللاحقة بالشعر وتجفيفه تماما من ثمّ تحويله إلى شعر مستعار. وتقول بريا، التي قصت شعر رأسها وتبرعت به لأجل القضية في أبريل (نيسان) الماضي، إنّه كان من أفضل القرارات التي اتخذتها في حياتها: «فعلت ذلك للإسهام في نشر الوعي بالقضية والمبادرة بشأن مرض السرطان ومرض الشلل الرعاش. ولم أفكر في الأمر مرتين قط، بل نفذت الفكرة بمجرد ما وردت في رأسي».
وقالت الإعلامية الهندية البارزة أكشايا نافانيثان، التي تبرعت بشعر رأسها لصالح مرضى السرطان: «شعرت وأنا أتبرع بشعري وكأنّني أولد من جديد وأحسست بأنّني انتقلت لمستوى جديد ورائع من الثقة والإيمان بالذات. وبعدما نشرت تجربتي على صفحتي الخاصة بالتواصل الاجتماعي، استلهم كثيرون الفكرة وحذوا حذوي تماما للتبرع بشعر رؤوسهم».
قبل بضع سنوات، اجتمعت مجموعة من الأطباء المحترفين لتشكيل مبادرة «شيناي للتبرع بالشعر». وقال الدكتور مانوغ من أطباء تلك المبادرة: «رأينا العديد من ضحايا مرض السرطان يعانون من آثار نفسية ومعنوية بالغة السوء إثر فقدان شعرهم بسبب العلاج الكيميائي والإشعاعي. فقررنا القيام بشيء لأجل التخفيف من ذلك».
كما تعاونت المنظمة غير الحكومية المذكورة مع بعض منافذ شركة صالونات الحلاقة البريطانية الأصل «توني أند غاي» للمتبرعين الذين يرغبون في قصة شعر أنيقة. وأوضح الدكتور مانوغ الأمر بقوله: «هناك خصومات مالية للمتبرعين. ويمكنهم المجيء لتصفيف شعرهم مجانا هنا بعد التبرع أول مرة. ولكن ليس من اللازم أن يُصفّف المتبرعون شعرهم في هذه الصالونات تحديدا. بل يمكنهم فعل نفس الأمر واتّباع نفس الإرشادات في الصالونات العادية التي يعتادون الذهاب إليها. ويمكننا الحصول على الشعر بعد ذلك. وإن تردّد بعض الناس في القيام بذلك في الصالونات، فلدينا فريق محترف يمكنه زيارة المتبرع في المنزل ويحصل على الشعر هناك».
وبما أن طول الشعر القياسي للمتبرعين يتراوح بين 8 إلى 10 بوصات، يقول الدكتور مانوغ إنّ الأمر يتغير وفقا لجودة الشعر، وكثافته، وملمسه: «حتى الناس الذين طغى الشّيب على شعرهم بنسبة 50 في المائة لا يزال بإمكانهم التبرع». كما تتلقى المنظمة غير الحكومية التبرعات من مدينة فيساخاباتنام، بولاية أندهرا براديش على خليج البنغال، ومن دولة ماليزيا، ومن سريلانكا. وبمجرد جمع كميات معينة من شعر المتبرعين، يتم إرسالها إلى شركاء صناعة الشعر المستعار.
وتعتبر جمعية «هير كراون – تاج الشعر» من المنظمات غير الحكومية الأخرى التي تقبل كافة أنواع وأشكال وطول الشعر، سواء كان معالجا أو ملونا. ويصرون على ألا يقل طول خصلة الشعر المتبرع بها عن 12 إلى 15 بوصة. وتوضح أرشيث من تلك الجمعية العملية الواجب اتباعها عند التبرع: «لا بد من غسيل الشعر جيدا قبل التبرع، يجب عدم إضافة أي منتجات لتصفيف الشعر أو المواد المثبتة للشعر قبل التبرع. وبعد تجفيف الشعر تماما، لا بد من جمعه بعناية خلف العنق في صورة ذيل حصان. مع التأكد أنّ ذيل الحصان محكم تماما مع جمع كافة الشعيرات في وحدة واحدة. ثم لا بد من قياس الطول الذي تريد التبرع به قبل القص. ويجب وضع الشعر المتبرع به في حقيبة محكمة الغلق، ثم في مظروف مغلق لتُرسل بعدها إلى الجمعية».
كانت نيلام جيهاني، تدير شركة مزدهرة للتجميل، ولكن كانت هناك عميلة غير عادية دخلت إلى الصالون وغيّرت مسار حياتها بعد ذلك - ومنحت عملها التجاري غرضا جديدا وفريدا.
كانت العميلة تعاني من مرض السرطان، وكانت في حاجة لارتداء باروكة من الشعر المستعار لإخفاء آثار العلاج الكيميائي عن رأسها. وطلبت السيدة جيهاني منها العودة لزيارة الصالون في غضون أيام معدودة. وبعد فترة وجيزة، منحت جيهاني العميلة المريضة الباروكة التي طلبتها، وقالت: «لن أنسى ما حييت إمارات السعادة والسرور التي ارتسمت على قسمات وجهها وهي تأخذ مني باروكة الشعر المستعار».
ثم شرعت جيهاني في تنظيم حملة للتبرع بالشعر من خلال صالونها الخاص. وتقول اللافتة الخاصة بذلك في الصالون: «إننا نتبرع بالأموال والدماء، وربما الأعضاء لخدمة الأغراض الخيرية للآخرين، الآن، يمكنكم التبرع بالشعر لمن يستحقونه من المرضى استجلابا للبركات».
وكانت الصحافية سنيها شيتي، المختصة بعالم السفر والسياحة قد قررت التبرع بشعرها بالكامل، وعن ذلك قالت: «إنني أعلن عن نفسي من خلال فقداني الاختياري لشعري. وعندما يسألني أحد عن ذلك. أود أن أخبرهم أنّني أحاول إعانة ودعم أولئك الذين يعانون من مرض السرطان. وهذا ليس بيانا للموضة أو الأزياء، وإنّما هو أمر يجعلني أشعر بالارتياح وبالسعادة البالغة». وأضافت، «نجت عمتي من مرض السرطان. وعندما كانت تحاربه دفاعا عن حياتها، كنت أبحث معها عن باروكات الشعر المستعار التي تناسبها. ولقد خبرت المشكلة وعاينتها بنفسي معها، من أجل الحصول على باروكة شعر مستعار من نوعية جيدة وبسعر مناسب».


مقالات ذات صلة

ممارسة الرياضة ساعة أسبوعياً قبل الإصابة بالسرطان تقلل فرص الوفاة للنصف

صحتك ممارسة الرياضة في العام السابق لتشخيص الإصابة بالسرطان تقلل من فرص الوفاة إلى النصف (رويترز)

ممارسة الرياضة ساعة أسبوعياً قبل الإصابة بالسرطان تقلل فرص الوفاة للنصف

أكدت دراسة جديدة أن ممارسة الرياضة في العام السابق لتشخيص الإصابة بالسرطان يمكن أن تقلل من فرص الوفاة إلى النصف.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق سرطان الكبد من بين السرطانات الأكثر شيوعاً في العالم (جامعة ييل)

الإفراط في تناول الدهون والسكر قد يدمر الكبد

حذّرت دراسة أميركية من أن الإفراط في تناول الدهون والسكريات يمكن أن يزيد من خطر الإصابة بسرطان الكبد، وذلك من خلال تدمير الحمض النووي في خلايا الكبد.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
صحتك يبحث العلماء عن نموذج يتنبّأ بكيفية تأثير العلاج على أورام المرضى (رويترز)

«أسماك مزروعة بخلايا سرطانية»... جديد الأطباء لعلاج الأورام «بسرعة»

هل يستطيع أطباء الأورام اتخاذ قرارات أفضل لعلاج السرطان باستخدام الأسماك؟ تهدف تجربة سريرية من المقرر أن تبدأ هذا الشهر في البرتغال إلى معرفة ذلك.

«الشرق الأوسط» (لشبونة)
صحتك أظهرت الدراسة أن الأشخاص الذين يتناولون أربعة فناجين من القهوة يومياً تتراجع احتمالات إصابتهم بسرطان الرأس والعنق بشكل عام (رويترز)

دراسة: تناول الشاي والقهوة يقلل مخاطر الإصابة بسرطان الرأس والعنق

كشفت دراسة علمية أن تناول بعض المشروبات الساخنة في الصباح مثل الشاي والقهوة ربما يقلل الإصابة ببعض أنواع السرطان التي تصيب منطقة الرأس والعنق.

«الشرق الأوسط» (سان فرنسيسكو)
صحتك فنجان قهوة (أ.ب)

شرب الشاي أو القهوة يومياً قد يقلل خطر الإصابة بسرطان الرأس والرقبة

كشفت دراسة جديدة عن أن تناول الشاي أو القهوة يومياً قد يوفر بعض الحماية من سرطان الرأس والرقبة.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)