لا يكون من قبيل المبالغة القول إن الفترة المقبلة ستشهد عودة «القاعدة» لتصدر المشهد الإرهابي، كوريث لبقايا «داعش»، بعد إعلان هلاك البغدادي، وستتراجع كثير من التنظيمات الإرهابية المحلية عن مبايعتها لـ«داعش»، وتعود لراية «القاعدة» مرة أخرى، ولن يكون أمام دول المنطقة من سبيل للتخلص من ظاهرة التطرف العنيف، إلا من خلال وقف الصراعات المسلحة، وشروعها في برامج للإصلاح، وتمكين الاستقرار والديمقراطية.
ظهرت تنظيمات متطرفة مستمدّة أفكارها من تنظيم «قاعدة الجهاد» الأم، وربما تبنّت نهجاً أكثر عدوانية، حيث ما تركته حرب العراق من استمرار تغلغل مد «جهادي»، إضافة إلى ما خلَّفته الثورات العربية، وعدم مبالاة المنتظم الدولي بظروف الشعوب المستضعفة، والتهافت لتحقيق مصالح كثير من الدول، أدخلت بعض المناطق في حسابات تؤدي ثمنها مجتمعات عربية وإسلامية، لا سيما بلاد الشام والعراق. فبعد اغتيال الزرقاوي من طرف القوات الأميركية بالعراق في يونيو (حزيران) 2006، الذي ترك وراءه ناراً مشتعلة، تولى أبو حمزة المهاجر زعامة التنظيم، وبعد شهر تقريباً من قيادة هذا الأخير، تم الإعلان عن تشكيل «دولة العراق الإسلامية» بزعامة أبو عمر البغدادي، لكن القوات الأميركية مرة أخرى نجحت في استهداف البغدادي ومساعده أبو حمزة، وذلك في أبريل (نيسان) 2010، فاختار التنظيم أبو بكر البغدادي المعروف حالياً بـ«أبو بكر البغدادي الحسيني القريشي»، أو كما ينادونه «أبو دعاء»، وتطلق عليه القوات الأميركية «الشبح»، واسمه الحقيقي إبراهيم البدري.
وحري بالذكر أن الفترة الممتدة ما بين 2006 و2010 شهدت إضعاف التنظيم من طرف القوات الأميركية والعراقية بشكل كبير، بعدما شكلت قوات الصحوة العراقية من مقاتلي العشائر في المناطق السنية، وقتلت ثم اعتقلت أكثر من 34 من كبار القياديين، وبعد انسحاب القوات الأميركية من العراق سنة 2011 شن ما عُرِف بـ«دولة العراق الإسلامية» عدداً من التفجيرات العنيفة في المدن العراقية، لا سيما في العاصمة بغداد تسببت في حصد آلاف الضحايا وسيولة أمنية عارمة، مما جعل القيادة الأميركية تعرض عشرة آلاف دولار مكافأة مالية للقبض على أبو بكر البغدادي أو قتله، وكان رد فعل الطرف الآخر إعلان حملة أطلق عليها «كسر جدران السجون العراقية»، شملت عشرات الهجمات، وأدّت للإفراج عن المئات من المعتقلين، خصوصاً من سجن أبو غريب.
وغني عن البيان أن ظهور «الدولة الإسلامية في العراق والشام» ليس أمراً اعتباطياً؛ فالتنظيم قبل إعلان «الخلافة» قد مر بمراحل عمل من خلالها على لملمة أوراقه واستيفاء كل ما يمكن إضفاء طابع مفهوم الدولة في المنطقة.
وفي 29 يونيو (حزيران) 2014، أعلن الناطق الرسمي باسم تنظيم «داعش»، أبو محمد العدناني عن قيام «دولة الخلافة» ممثلة بـ«أهل الحل والعقد فيها من الأعيان والقادة والأمراء ومجلس الشورى، وتنصيب خليفة المسلمين»، ومبايعة أبو بكر البغدادي، فقبل البيعة، وصار بذلك «إماماً» و«خليفة» لفرع «القاعدة» في العراق وسوريا وفروع أخرى. وقد جاء البيان مشيراً إلى اندماج بين تنظيم «داعش» في العراق، التابع لتنظيم «القاعدة»، و«جبهة النصرة» السورية، إلا أن هذه الأخيرة رفضت الاندماج على الفور، ما سبب اندلاع معارك بين الطرفين بشكل متقطع.
ويمكن القول إن تنظيم «داعش» قد خرج عن طاعة زعيم تنظيم «القاعدة» أيمن الظواهري، حيث اعترض على سلطته ورفض الاستجابة لدعوته للتركيز على العراق، وترك سوريا لـ«جبهة النصرة»، كما شمل البيان الدعوة لضم كل المسلمين تحت راية وحيدة، ولتبني استراتيجية جديدة أكثر راديكالية على مستوى «الجهاد»، قبل أن يتم التركيز من قاعدة «الجهاد» على قتل العدو البعيد المتجلي في الغرب أو الموالين له. وجاءت سياسة أبو بكر البغدادي لتبلور ملامح فكرية ترتكز حول عدد من الأصول، أهمها العمل على تأسيس «داعش» بالقوة المسلحة، والدعوة إلى تطبيق الفوري للشريعة، وكذلك عدم جواز العمل في الأجهزة الأمنية والحكومية في الدولة، ورفض التعليم الغربي وثقافته وتغيير نظام التعليم.
ويعني انكماش الأراضي التي يسيطر عليها «داعش» ونهاية خلافاته المتوهمة أن «القاعدة» ستستعد لتصدر المشهد الإرهابي، من جديد، بعد أن تراجعت مكانتها بصورة كبيرة عقب ظهور تنظيم «داعش»، وهناك عدة مؤشرات ما بعد قتل البغدادي على ذلك، أبرزها الانهيار الأكيد للهيكل التنظيمي في سوريا وفي العراق عقب عملية تصفية البغدادي في ريف إدلب، فضلاً عن تراجع تمدد «داعش» في ولايات خراسان وغرب أفريقيا وشرق آسيا، بسبب وجود تنظيمات متطرفة مناوئة للتنظيم هناك، خاصة تنظيم «القاعدة». كذلك انكماش كثير من مواردهم البشرية بسبب الانقسامات، وانهيار الحماسة، وزعزعة الثقة بالقيادة الجديدة، خصوصاً إذا كانت غير عراقية أو سورية.
وحتى بالنسبة للفروع التي كانت تتبع «داعش» في دول مختلفة، ونقلت ولاءها إلى «داعش» عقب «النجاحات الميدانية» التي حققها في سوريا والعراق، وإعلانه «الدولة»، مثل تنظيم «بوكو حرام» في نيجيريا عام 2015، ثم تنظيم «القاعدة في المغرب»، وتنظيم «الشباب» في الصومال؛ فمن الملحوظ أن المبايعات كانت شكلية بدرجة كبيرة، وهي اقتصادية وظيفية، إذ لم يترتب عليها أي تعاون مع تنظيم من المتوقع بسقوط خلافة «داعش» الوهمية أن تتراجع تلك التنظيمات عن مبايعتها له، وتعود إلى راية تنظيم «القاعدة» أو التنظيمات «التكفيرية» الأخرى مرة ثانية.
ومن الواضح الآن، أنه قد لا يكون أمام «داعش» من خيار سوى العودة لوضعه السابق كشريك صغير لتنظيم «القاعدة»، أو حتى انشقاق بعض عناصره وانضمامهم لـ«القاعدة» («القاعدة الأم»)، وتراجع تلك التنظيمات التي انضوت تحت لوائه عن مبايعتها له.
- متخصص في شؤون الجماعات المسلحة