«مسك للإعلام» يسلط الضوء على أخلاقيات الإعلام الإلكتروني

يستعرض 6 تقنیات غيّرت ملامح صناعة الاتصال

«مسك للإعلام» يسلط الضوء على أخلاقيات الإعلام الإلكتروني
TT

«مسك للإعلام» يسلط الضوء على أخلاقيات الإعلام الإلكتروني

«مسك للإعلام» يسلط الضوء على أخلاقيات الإعلام الإلكتروني

يركز «منتدى مسك للإعلام» الذي يعقد يوم السبت المقبل 26 أكتوبر (تشرين الأول) بالعاصمة المصرية القاهرة، على أخلاقيات الإعلام الإلكتروني، بجانب محاور أخرى عديدة، ونقاشات بشأن تحويل المنابر الحكومية من دوائر خدمية إلى منصات رقمية.
ويشهد المنتدى الذي ينظمه مركز المبادرات في مؤسسة محمد بن سلمان الخيرية (مسك الخيرية) تحت عنوان «التحولات الذكية في صناعة الإعلام»، انعقاد 8 جلسات و10 ورش عمل وعدد من العروض التقديمية للجهات الرائدة في مجال الإعلام الورقي والرقمي والمرئي.
وقال الكاتب الصحافي موفق النويصر، رئيس تحرير صحيفة «مكة» السعودية، في اتصال هاتفي مع «الشرق الأوسط»: «مصر دولة رائدة في المجال الإعلامي ولديها تجارب ناجحة في الصحف الورقية والرقمية، فضلاً عن تنوع المدارس الصحافية في مصر وتجاربها أشمل بمحددات كثيرة منها تعداد السكان ومعدلات القراءة ونشاط كثيف على (السوشيال ميديا)، لذا هي تعطي نموذجاً شاملاً عن كافة الممارسات الإعلامية وهو ما يثري المنتدى ونقاشاته».
وعن القضايا التي سوف يطرحها خلال مشاركته بالملتقى، كشف النويصر: «سوف أتحدث عن الإعلام الرقمي، وأهم محور سأركز عليه هو أخلاقيات العمل الصحافي التي تكاد تكون منعدمة في الإعلام الإلكتروني، خاصة أنه لا يمكنني أن أسمي كل ما ينشر في المواقع الإخبارية (صحافة)؛ لأن الإعلام والصحافة عملية منضبطة لها أسس وقواعد معلومة للجميع».
مضيفا: «ما يحدث في (السوشيال ميديا) والإعلام الإلكتروني ممارسات غير منضبطة، لا يمكن أن نتركه ليندرج تحت اسم صحافة، وسوف أتحدث كذلك عن إشكالية فوضى الإعلان الرقمي ضمن هذه القضية بشكل عام».
ويرى النويصر أن «اختفاء الصحافي الجيد أدى إلى أنه نادراً ما يعلق بأذهاننا اسم لصحافي مميز»، مؤكداً: «الخبر بحد ذاته لم يعد مشكلة ولكن المهم هو كيف يمكن تقديم هذا الخبر ومناقشته وتحليله وإعطاء معلومات خلفية عنه». وأعزى النويصر «ضعف المحتوى إلى أن العمل الصحافي لم يعد آمناً، بعدما هجره الكثير من الصحافيين المتميزين، وبات الصحافي يختار وظيفة مستقرة يعطيها جهده بينما يمارس العمل الإعلامي بشكل هامشي؛ مما أعاد الصحافة السعودية على سبيل المثال إلى مشهد ما قبل سنة 2000. لأنه منذ عام 2000 أصبحت الصحافة مهنة لها وضعها ومكانتها، إلا أن عدم استقرارها أدى لعزوف عدد كبير من الشباب عنها».
ورغم أن الإعلام الرقمي أصبح له تأثير كبير في المشهد الحالي، فإن النويصر يرى «أن الصحافة الورقية محطة أساسية للصحافة، إذ تمتلك معظم الصحف حالياً أكثر من منصة رقمية، كما أن الصحف الورقية في المملكة العربية السعودية تحقق دخلاً إعلانياً أكبر من المنصات الرقمية الأخرى».
وعبر 8 جلسات حوارية يشارك بها 29 متحدثاً من 12 دولة، سيستعرض المنتدى عدداً من الموضوعات تبحث دور الذكاء الاصطناعي في تطوير صناعة الإعلام، وتأثير ذلك في تشكيل القرارات المتماسة مع المتطلبات المجتمعية، ومدى مواكبة الإعلام الذكي ومواجهته للأحداث والمتغيرات، وقدرة الحكومات على صناعة منصات حكومية مؤثرة، وما تقدمه تجاه صناعة الجيل الإعلامي الريادي.
وسوف تعقد جلسة هامة بعنوان «الصوت الرسمي والتفاعل المجتمعي»، والتي يشارك فيها عدد من المتحدثين باسم الحكومات العربية والعالمية، تتناول الجلسة دور السفارات في توطيد التواصل الثقافي بين الشعوب وتصديره للعالم ودور السفارات كحاضنة ومشجعة للذكاء الإعلامي، وتطرح تساؤلات من بينها: كيف تسهم السفارات والجهات الرسمية في التواصل الثقافي بين الشعوب؟. كما يبحث المشاركون كيف يمكن تحويل المنابر الحكومية من دوائر خدمية إلى منصات رقمية صديقة للآخر؟».
وعن مشاركتها بالمنتدى، قالت الإعلامية التونسية نوفر رمول، المذيعة بتلفزيون دبي لـ«الشرق الأوسط»: «يسعى المنتدى للحضور بقوة، ففي عام واحد عقدت دورة ناجحة في الرياض، ويعقد الآن دورة ثانية في القاهرة بحضور كمي ونوعي كبيرين، وحسب رأيي الشخصي فإن أي جهد إعلامي يراد له النجاح، يتطلب ملامسة القضايا الجوهرية من جهة، وأعتقد أن المنتدى في دورته الجديدة كان موفقاً في اختيار موضوعاته ومحاوره عبر التطرق لمضامين جوهرية في تطوير العمل الإعلامي العربي، وفي توجيه بوصلته إلى مسايرة التطور الرقمي المذهل».
وعن أهم القضايا التي تتمنى أن تتم مناقشتها في المنتدى، قالت: «آمل أن يسلط المنتدى الضوء على إمكانات المنطقة العربية وقدرتها على رفع كل التحديات، وأن يتم التركيز أكثر على ضرورة توظيف كل المنصات لما يخدم التطوير والحيوية وكسر الجمود، ومواصلة العمل على التأسيس لصناعة إعلامية تستهوينا، تخدم أولويات الشعوب العربية وخاصة شبابها، الذي تتربص به ماكينات إعلام التضليل والتحجر والإرهاب».
إلى ذلك، يتضمن برنامج المنتدى تقديم عروض خاصة لتجارب من الجانب الرقمي، منها عرض تقديمي يستعرض كيف تمكن شاب عشريني من التربع على قمة الانتشار والمشاهدات المليونية على موقع «يوتيوب» من خلال صناعة محتوى في العلوم بطرق مبتكرة ذكية، كما سيتم إقامة عرض آخر بعنوان «كيف تجعل هويتك الشخصية مواكبة للمستقبل؟»، وذلك بالإضافة إلى مجموعة العروض التي ستقدم في الساحة الاجتماعية وتشمل 10 ورش عمل لمجموعة من الشباب.
وسيستعرض المنتدى 6 تقنيات جديدة في القطاع الإعلامي، وذلك تحت عنوان «التحولات الذكية في صناعة الإعلام»، هي روبوتات الدردشة والواقع الافتراضي وتقنية تحسين محركات البحث والصحافة الآلية والطائرات المسيرة ومنصات الفيديوهات المباشرة، حيث يتزايد اهتمام المؤسسات الإعلامية بهذه التقنيات على مستوى العالم، وهو ما أحدث تغيراً في قدرة وسائل الإعلام على التأثير والتواصل مع الجمهور من جانب، وتوفير الحلول الإعلامية السهلة والسريعة للمتلقي أياً كانت اهتماماته من جانب آخر.
وتعتمد تقنية روبوتات الدردشة «شات بوت» على تتبع الأخبار الرئيسية، وتظهرها للمستخدم في مواقع التواصل الاجتماعي بحسب اهتمامه، وتاريخه في محركات البحث، فيما تمكن تقنية الواقع الافتراضي المستخدم من أن يكون وسط الحدث، وتنقل له مشهداً واقعياً، ينتج عنه تفاعل كبير مع الأحداث الراهنة، في حين تعتبر تقنية تحسين محركات البحث (SEO) ضمن أكثر التقنيات التي يحتاجها صانع المحتوى، خصوصاً مع التحديثات المستمرة التي دخلت عليها، وتستخدم من أجل تحسين ظهور المحتوى الإلكتروني في أعلى نتائج محركات البحث.
أما تقنية الصحافة الآلية التي سيستعرضها المنتدى أيضاً من خلال إحدى جلساته، فهي تساعد الصحافي أو الناشر في عمليهما، إذ تترجم وتحلل البيانات من أجل صناعة المحتوى، بينما تستخدم تقنية الطائرات المسيرة «الدرون» لجمع البيانات أو لأغراض إعلانية، حيث تعتبر وسيلة أقل تكلفة من استخدام الهليكوبتر، وأكثر فاعلية في التقاط المقاطع، بينما تتيح تقنية منصات الفيديوهات المباشرة للصحف والبرامج التلفزيونية، تقديم نشراتها اليومية بعرض مباشر، لجذب الجمهور وإشراكهم في الحَدث.
ومع هذا التحول الذي تبرز فيه هذه التقنيات وغيرها من المتوقع أيضاً أن توفر أنظمة وتطبيقات الذكاء الاصطناعي أكثر من ذلك، حيث نرى بوادر ذلك جلياً في الحملات الإعلامية المنظمة التي ترتكز على منطلقات تفكير وتوجهات وسلوكيات الجماهير لتعمل بعد ذلك على مخاطبتهم إعلامياً وفق أهوائهم عبر أدوات الإعلام المتنوعة، وهو ما جعل المنتدى يأخذ بعين الاعتبار ضرورة التوعية بالأدوات والأساليب وتمكين جيل الشباب من الإعلاميين من اكتسابها والتعامل معها. ويهدف المنتدى إلى رفع مستوى الوعي لدى الشباب بالتطورات والحلول الإعلامية في خدمة الأفراد والمجتمعات، واستكشاف فرص العمل المتاحة أمام الشباب في كل مجالات الإعلام، وتسريع نقل المهارات والتقنيات المتقدمة في مجالات الإعلام إلى الشباب العربي.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)