مدينة نيويورك... النجمة المتألقة في سماء الأفلام

أثناء تصوير مشاهد من فيلم تحولت شوارع فيرست وسكند أفينيو بنيويورك لاستديو سينمائي (نيويورك تايمز)
أثناء تصوير مشاهد من فيلم تحولت شوارع فيرست وسكند أفينيو بنيويورك لاستديو سينمائي (نيويورك تايمز)
TT

مدينة نيويورك... النجمة المتألقة في سماء الأفلام

أثناء تصوير مشاهد من فيلم تحولت شوارع فيرست وسكند أفينيو بنيويورك لاستديو سينمائي (نيويورك تايمز)
أثناء تصوير مشاهد من فيلم تحولت شوارع فيرست وسكند أفينيو بنيويورك لاستديو سينمائي (نيويورك تايمز)

من أبرز المقولات الدائمة ذات الصلة بنقد الأفلام أن «المدينة في حد ذاتها تعد شخصية مستقلة من شخصيات الفيلم». وبما أنني لا أملك من المعلومات ما يؤكد ذلك أو ينفيه، فإن حدسي العميق ينبئني بأن هذه المقولة لم تكن لتتعلق بمدينة أميركية أخرى غير نيويورك.
وإن كان ذلك ليس صحيحاً على تمامه وفي كل الأحوال، فإن نيويورك في واقع أمرها تعد من بين ألمع نجمات السينما ولا تناطحها في ذلك بكل جدية من بين مدن العالم الكبرى الأخرى سوى العاصمة الفرنسية باريس. وهي تستمد شخصيتها المتفردة من الكاريزما التي صاحبت كبار نجوم السينما الأميركية على مر العصور من أمثال «بيتي ديفيس»، أو «كاري غرانت»، أو «سيدني بواتييه»، من بين الكثيرين. ورغم تعدد وتنوع واختلاف الوجوه التي ظهرت بها مدينة نيويورك قبالة الكاميرا - في تألقها أو انحدراها، وفي جاذبيتها أو كراهيتها، وفي مآسيها أو جنونها - فإنها دائماً وبلا أدنى شك لا تعبر إلا عن ذاتها الحقيقية.
وعلى غرار أي نجم سينمائي من نجوم البشر ممن يستحقون سرد التفاصيل عن حياتهم، فإن مدينة نيويورك خارج الشاشة الفضية قد تتسم بقدر من الصعوبة على التحمل بقدر سحرها وجمالها الأخاذ. إنها تبدو كالفتاة اللعوب المغرية، والساحرة، والمتشوقة والمتمنعة في إباء، مع استحالة فصل صورتها عن واقعها الحقيقي. وترى نيويورك على الدوام عميقة الانغماس في مسرح وجودي يعرب عن سرمديتها بين المدن.
تدفعك الحياة في تلك المدينة الصاخبة دفعاً إلى القيام بدورك الفعال بين مختلف مشاهد ولفتات تلك المسرحية الأزلية المستمرة، وأن تتماهى معها من دون عناد أو تردد. فربما تتجول سائراً بين مختلف مباني الحي المفضل لك، تحمل فوق رأسك سماعتين تنقلان إلى دماغك سرديات قصص لم تكن ذاكرتك لتنساها مهما مرت الأيام (من فيلم «تاكسي درايفر» لعام 1976. إلى فيلم «بريكفاست آت تيفاني» لعام 1961. وصولاً إلى فيلم «دو ذي رايت ثينج «لعام 1989).
قد تُضفي الأفلام السينمائية لمسة سحرية فائقة الروعة على حياتنا، غير أن صناعة الأفلام السينمائية في حد ذاتها تمنح سكان مدينة نيويورك سهماً آخر من أسهم المشاكل التي لا تفارقهم كمثل القطارات المتأخرة، والمرور الفظيع بازدحامه الخانق، وجحافل السائحين البطيئة للغاية، ومواقف السيارات التي تحتل أماكن غير معلومة من الشوارع، فضلاً عن قواعد جمع المخلفات العصية على الفهم حتى اليوم، وربما كل شيء مما بات على غير الطريقة التي من المفترض أن يكون عليها في العصر الحاضر.
وصار إنتاج الأفلام السينمائية في مدينة نيويورك، الذي تضاءل وتراجع على مر السنين وعاد إلى أوج ازدهاره في الآونة الأخيرة، من أبلغ مصادر الإحباط في نيويورك العصر الراهن ومن مواضع الحنين والتوق الشديد إلى الأيام الخوالي. وتعكس الصور المأخوذة من محفوظات صحيفة «نيويورك تايمز» - والتي تغطي العقود المتوسطة والأخيرة من القرن الماضي - تلك المفارقة الزمنية المتسمة بكل روعة وجمال. فهي مقتطفات بديعة لسجلات يومية تنقلنا إلى الماضي الجميل في كبسولة زمنية فائقة السرعة.
ولا يمكن توصيفه بسجل المحفوظات الشامل على أي مقياس معروف. فتلك الصور جاءت نتاجاً للصدفة المحضة، أو هي انعكاس للأيام الخوالي التي احتلت فيها طواقم الأفلام وجحافل المصورين الصحافيين جملة المطبوعات الصحافية لتلك الفترة في نفس الوقت.
وكان هناك، بين الكثير من الصور، ما يعبر عن مسلك حقيقي يعطف في مساره على سحر السينما الأميركية في أوائل الستينات وسخرياتها اللاذعة من تفاعلات منتصف السبعينات - ونذكر من بين شخصيات تلك الفترة أسماء لامعة مثل «روك هدسون»، و«دوريس داي»، و«آل باتشينو»، و«جين هاكمان» - فضلاً عن العديد من الشخصيات والسرديات الأخرى التي تحفل بها محفوظات وذاكرة السينما للعديد من الأبطال والمشاهدين على حد سواء. ولا يسعني عبور شارع 110 من دون التفكير في «يافيت كوتو» و«أنتوني كوين» بطلا فيلم «أكروس 110 ستريت» الدرامي لعام 1972. مع أغنيته الرائعة من تأليف «بوبي وماك». وعند عبوري بين بنايات بروكلين العتيقة حيث تفسح أحجارها البنية القائمة المجال للمنازل الصغيرة ذات القوائم الخشبية، أعتقد أنها «جوهرة تاج الحي»، اقتباساً للعبارة من فيلم «ذي سكويد أند ذي وايل» لعام 2005. أما حديقة «سنترال بارك» الشهيرة فقد كان لها نصيب الأسد المتوج من التصوير في مئات الأفلام، لكن الحديقة بالنسبة لي تمثل ذكرى تصوير الفيلم الوثائقي الشهير «سيمبيوسايكوتاكسيبلازم تيك وان»، وهو تحفة مخرج الأفلام الوثائقية العبقري «ويليام غريفز» في عام 1968، وتدور أحداث القصة حول مخرج سينمائي يحاول تصوير فيلم في سنترال بارك - إنه الفيلم الذي يعج بل ويعكس أغلب فعاليات ومجريات تلك الأيام.
وفي بعض الأفلام الأخرى، برغم كل شيء، فإن الحاضر المصور ضمن فعاليات الفيلم هو تاريخ الحقبة المُعاد بناؤه بلمسة فنية بديعة. ونذكر صورة أحد شوارع نيويورك القديمة حيث العربات التي تجرها الخيول، وحبال الغسيل التي ترفرف على الشرفات، بين مختلف الرافعات ومصابيح الإضاءة الزيتية العتيقة، والتي تعكس حقبة عشرينات القرن الماضي على نحو ما ظهرت به في الفيلم الموسيقي «ذي نايت ذاي ريديد مينسكي» لعام 1968، ويُقال إنه الفيلم الموسيقي الأول الذي جرى تصويره بالكامل في مدينة نيويورك. وعندما طُرح الفيلم للعرض في نفس العام، وجد إشادة كبيرة لدى المؤلفة والناقدة السينمائية الأميركية «ريناتا أدلر» والتي كانت أبرز نقاد الأفلام لدى صحيفة نيويورك تايمز في تلك الفترة حيث قالت عنه: «مفعم بالتفاصيل والعناية بها في كل ثانية. كان الجانب الشرقي السفلي من المدينة حقيقي في كل شيء».
والفيلم الموسيقي «ذي نايت ذاي ريديد مينسكي» هو من أعمال المخرج ويليام فريدكين الذي نذكر له فيلم «ذي فرنش كونيكشن» الدرامي من بطولة جين هاكمان لعام 1971، وكان من أحد أبرز الأفلام المميزة لحقبة السبعينات من حيث تصويره لمدينة نيويورك في الزمان والمكان الحقيقيين؛ حيث تزداد تلك الأماكن رونقاً وبهاءً في كل مرة تمر بها وتمر هي بذاكرتك. ويصور الفيلم نفسه كذلك واحدة من أعظم مطاردات السيارات التي صورت في السينما الأميركية قاطبة، حيث ينطلق المحقق بوباي دويل - جين هاكمان بسرعة فائقة أسفل مسار المترو في «بنسونهيرست» في بروكلين مندفعاً وراء المشتبه به الذي استقل لتوه القطار.
وشخصية المحقق «بوباي دويل» من نماذج الشخصيات المألوفة في أفلام مدينة نيويورك - ذلك الرجل الفظ، العنيد، صلب المراس، والساخر للغاية من رجال إدارة الشرطة في مدينة نيويورك الذي يذكرنا بشخصية المغني اللامع «فرانك سيناترا» ودور المحقق «جو ليلاند»، الذي قام به في فيلم «ذي ديتيكتيف» من إنتاج عام 1968، وكذلك دور «زاكري غاربر» للممثل الأميركي «والتر ماثاو» في فيلم «ذي تيكينج أوف بيلام وان تو ثري» لعام 1974. وربما يعد ذلك الفيلم من أروع الأفلام التي تصور وسائل النقل العامة في مدينة نيويورك لتلك الفترة. ولقد كان فيلماً جميلاً للغاية لدرجة أنه أعيد إنتاجه مرة أخرى من بطولة «دينزل واشنطن» و«جون ترافولتا» بعنوان «ذي تيكينج أوف بيلام 123» في عام 2009 في تحديث جديد للأدوار التي قام بها كل من «والتر ماثاو»، و«روبرت شاو».
وفي عام 1974 الذي شهد العرض الأول للنسخة الأصلية من الفيلم، قالت صحيفة نورا ساير عنه: «لقد مر وقت طويل منذ أن شاهدنا فيلماً يعكس المزاج الحقيقي لمدينة نيويورك وسكانها»، ولقد كان وصفاً على مسمى حقيقي للفيلم بنسخته الأولى والأخيرة. وهو لا يتعلق بمجرد خطة محكمة الإتقان، وربما عصية على التنفيذ، لاختطاف قطار مليء بالركاب وطلب فدية ضخمة من المدينة في المقابل، بل إنه يتعلق بالتفاعل الواقعي بين الجريمة، والبيروقراطية، والبنية التحتية، والنظام، والمدينة التي ينتظم سيرها اليومي حول العمل.
تعكس هذه الأفلام وتحتفي بقيمة العمل المتضمنة في إنتاج الخيال الذي يحوم عائداً إلى أرض الواقع. وتعمل كاميرا التصوير السينمائي على ترتيب وتوظيف العناصر المادية الحقيقية - المباني، والوجوه، والأرصفة، واللافتات، والإشارات - ضمن منظومة خيالية فذة الإتقان. وتعمل عدسة الكاميرا الفوتوغرافية الثابتة على التقاط خط التماس بين عالم الخيال والعالم الحقيقي في محاولة للكشف عنه. ولكن، ما الذي يمكن وصفه بالطبيعي في هذا السياق؟ نجوم السينما هم نجوم السينما، سواء يحتلون المشاهد الأولى، أو يحولون اتجاههم، أو ينتهون من المكياج قبل التصوير، أو يتناولون المشروبات، أو يدخنون في فترات الراحة. إن بريقهم حقيقي وأصيل، ولا يسهل التغلب عليه ومقاومته. ولا يمكنك إدراكه إلا بمصادفته، حتى حال متابعتك لأحوال أعمالك اليومية، وحتى وإن عجزت لديك الكلمات عن توصيف ما رأيته بعينيك تماماً.
ويصدق نفس الأمر على المدن سواء بسواء.

- خدمة «نيويورك تايمز»


مقالات ذات صلة

«غولدن غلوب» 2025 يؤكد أن «القالب غالب»

لمسات الموضة أنجلينا جولي في حفل «غولدن غلوب» لعام 2025 (رويترز)

«غولدن غلوب» 2025 يؤكد أن «القالب غالب»

أكد حفل الغولدن غلوب لعام 2025 أنه لا يزال يشكِل مع الموضة ثنائياً يغذي كل الحواس. يترقبه المصممون ويحضّرون له وكأنه حملة ترويجية متحركة، بينما يترقبه عشاق…

«الشرق الأوسط» (لندن)
سينما صُناع فيلم «إيميليا بيريز» في حفل «غولدن غلوب» (رويترز)

«ذا بروتاليست» و«إيميليا بيريز» يهيمنان... القائمة الكاملة للفائزين بجوائز «غولدن غلوب»

فاز فيلم «ذا بروتاليست» للمخرج برادي كوربيت الذي يمتد لـ215 دقيقة بجائزة أفضل فيلم درامي في حفل توزيع جوائز «غولدن غلوب».

«الشرق الأوسط» (لوس أنجليس)
يوميات الشرق عصام عمر خلال العرض الخاص للفيلم (حسابه على فيسبوك)

عصام عمر: «السيد رامبو» يراهن على المتعة والمستوى الفني

قال الفنان المصري عصام عمر إن فيلم «البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو» يجمع بين المتعة والفن ويعبر عن الناس.

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق الممثل الجزائري الفرنسي طاهر رحيم في شخصية المغنّي العالمي شارل أزنافور (باتيه فيلم)

«السيّد أزنافور»... تحيّة موفّقة إلى عملاق الأغنية الفرنسية بأيادٍ عربية

ينطلق عرض فيلم «السيّد أزنافور» خلال هذا الشهر في الصالات العربية. ويسرد العمل سيرة الفنان الأرمني الفرنسي شارل أزنافور، من عثرات البدايات إلى الأمجاد التي تلت.

كريستين حبيب (بيروت)
يوميات الشرق محمد سعد في العرض الخاص لفيلم «الدشاش» (الشركة المنتجة للفيلم)

هل استعاد محمد سعد «توازنه» بفضل «الدشاش»؟

حقق فيلم «الدشاش» للفنان المصري محمد سعد الإيرادات اليومية لشباك التذاكر المصري منذ طرحه بدور العرض.

داليا ماهر (القاهرة )

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».