«الإخوان» في الدول الإسكندنافية

«التنظيم الدولي» يرسخ وجوده في السويد

رجلا شرطة مسلحان أمام مسجد النور في أوسلو عقب تعرضه لهجوم في أغسطس الماضي  (إ.ب.أ)
رجلا شرطة مسلحان أمام مسجد النور في أوسلو عقب تعرضه لهجوم في أغسطس الماضي (إ.ب.أ)
TT

«الإخوان» في الدول الإسكندنافية

رجلا شرطة مسلحان أمام مسجد النور في أوسلو عقب تعرضه لهجوم في أغسطس الماضي  (إ.ب.أ)
رجلا شرطة مسلحان أمام مسجد النور في أوسلو عقب تعرضه لهجوم في أغسطس الماضي (إ.ب.أ)

ما الذي يجعل التنظيم الدولي لجماعة «الإخوان المسلمين» يكثف جهوده في الآونة الأخيرة من أجل تثبيت حضوره في مجموعة الدول الإسكندنافية وبنوع خاص في السويد؟... لعل ما تعرضت له جماعة «الإخوان المسلمين» من انتكاسات في الأعوام الماضية في الشرق الأوسط، وفي منطقة الخليج العربي مؤخرا، كما في حال افتضاح شأنها في الكويت، جعل السعي المحموم إلى الخارج أمرا ملحا لا سيما إذا كانت في دول تتوفر فيها الشروط الملائمة لنشوء وارتقاء «الجماعة» مرة أخرى من أجل تحقيق أهدافها التي لم تغب عن عينيها.

منذ أن تأسست «الجماعة» وحتى الساعة، كان في المقدمة وضمن أهدافها، بسط هيمنتها ومقدراتها لا على العالم العربي والإسلامي فقط، بل تصدير دعوتها واكتساب أرض جديدة يوما تلو الآخر إلى حين تتمكن من التحكم في العالم برمته.
ما الذي يدعو لفتح ملف «الإخوان المسلمين» في الدول الإسكندنافية في هذا الوقت؟ المؤكد أن هناك رصدا ومتابعة دقيقين قد جرت بهما المقادير الأشهر القليلة الماضية، هناك، حيث أكدت الخلاصات أن العديد من أفراد جماعة الإخوان والقياديين في «التنظيم الدولي» قد وقر لديهم يقين بأن السويد والدنمارك والنرويج، هي أفضل ثلاث دول يمكن أن يباشروا عليها أنشطتهم وبخاصة بعد التضييق عليهم من قبل الأجهزة الأمنية، في الدول التقليدية التي عاشوا فيها طويلا لا سيما بريطانيا وألمانيا وفرنسا بدرجة ما.
أضف إلى ذلك أن انحسار تنظيم داعش ومؤيديه أيديولوجيا على الأقل قد كشف أوراق الكثيرين الذين باتوا قولا وفعلا أوراقا محروقة، ويتحتم عليهم الابتعاد والتواري عن المشهد.
عطفا على ذلك فإن الدول الإسكندنافية في هذه الأوقات تبقى الأكثر أمانا من ناحية عدم استطاعة اليمين الأوروبي المتطرف، السيطرة على حكوماتها وهو التيار الذي يعادي جهرا وسرا الوجود الإسلامي على الأراضي الأوروبية.
في دراسة حديثة لـ«وكالة الطوارئ المدنية» في السويد إحدى أهم وزارات الدفاع والتي تقوم بمثابة الاستخبارات على الأرض، نجد خلاصات مفادها أن «الإخوان» يسعون إلى اختراق الوجود الإسلامي في السويد ونشر مفاهيم الجماعة واكتساب أعضاء جدد.
على أن السؤال المطروح في هذا المقام كيف تمكن «الإخوان» من اختراق هيكل الدولة السويدية خلال العقدين الماضيين أي مع أوائل الألفية الجديدة بنوع خاص؟
الجواب يحمله إلينا البرفيسور السويدي ماغنورس نورويل، وعنده أن جماعة «الإخوان» تمكنت على مر السنين من بناء مؤسسات قوية في ذلك البلد الإسكندنافي البعيد بعد أن ضمنت عمليات تمويل من الأموال السويدية العامة، وبعد أن أتقنت فن الاحتيال في هذا البلد منذ سنين طويلة.
أما الباحث السويدي والخبير في شؤون جماعة «الإخوان لمسلمين» لورينزو فيدينو، فيذهب في تحليله لطريقة انتشار الإخوان في السويد، إلى القول بأن جماعة «الإخوان» الأم تعتمد على ثلاث فئات من الكيانات السويدية أعضاء الإخوان أنفسهم، وشبكات الإخوان غير المباشرة، والمنظمات المتأثرة بالإخوان.
ولعل تعميق البحث في مسألة الوجود الإخواني في السويد يقودنا إلى اكتشاف جذور تعود إلى ثلاثة عقود خلت وليس لعقدين فقط، وأنهم عرفوا كيف يتعاطون وإن بذكاء شديد مع مفاتيح الدولة السويدية، وعليه فقد قاموا ببناء هيكل مؤسسي يستخدم بسلاسة «النموذج السويدي» للاستفادة الكاملة من نظام المنح السخي والمساعدات المالية من الخزائن العامة.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل أنشأت جماعة «الإخوان» منظمات مستقلة ظاهريا لكنها ترتبط بها تشمل شبكات من المدارس والشركات والجمعيات الخيرية وغيرها من الكيانات، كل واحدة تنتمي إلى إحدى الفئات الثلاث المتقدمة، تحصل على تمويلها من دافعي الضرائب.
في هذا الصدد كانت هيئة «الحماية المدنية والتأهب» تصدر تقريرا بعنوان «النشاط الإسلامي في سياق متعدد الثقافات» قام على إعداده أستاذ الأنثروبولوجيا الاجتماعية السويدي «إيه كارلوم»، من جامعة «مالمو» خلص فيه إلى أن «الإخوان» على أراضي السويد لديهم مهمة راديكالية الطابع ذات خطر على الدولة، ولا ينبغي أن تتلقى أموالا من الأصول الضريبية.
دعا تقرير «كارلوم» إلى فتح العيون على أهم بل وأخطر أربع جمعيات كبرى في السويد على صلة مباشرة بالإخوان وأشهرها «جمعية الإغاثة» و«جمعية بن رشد التعليمية» و«جمعية الشباب السويدي المسلم» و«الرابطة الإسلامية» التي تعد مقرا لـ«الإخوان».
يستدعي الحديث عن هذه الرابطة حديثا مطولا لا سيما بعد أن باتت ملاحقة رسميا من السلطات السويدية متمثلة في جهازي الشرطة والمخابرات، فهي تابعة بشكل كامل «للتنظيم الدولي» والذي ينشط بأذرع متعددة في أوروبا وخصوصا في السويد عبر نشاط اقتصادي مغلف بعمل خيري أو تربوي أو حتى تعليمي وديني وإرشادي، وإن كانت المحصلة النهائية لكافة هذه التنظيمات واحدة أي ملء خزائن التنظيم الدولي لـ«الإخوان» بالأموال، وهي تستوحي قيمها من أفكار المؤسس حسن البنا، ورئيسها يدين بالولاء التام للزعيم الروحي لـ«الإخوان» يوسف القرضاوي.
تزعم الرابطة اليوم أنها تمثل ما لا يقل عن سبعين ألف سويدي مسلم، وهو رقم كبير يكاد يشمل الغالبية العظمى للمسلمين في السويد، وتشكل الرابطة مظلة لعدد من المنظمات السويدية، بما فيها المجلس الإسلامي السويدي، ومسجد ستوكهولم والأصول التابعة له في السويد.
لاحقا تكشف لجهات الأمن السويدية أنهم أمام تشكيلات إخوانية تكاد تكون صورة طبق الأصل من نظيراتها في الشرق الأوسط والعالم العربي والإسلامي، إذ تتألف كل منظمة من المنظمات التابعة لـ«الإخوان» في السويد من مجلس شورى تحت قيادة أمير أو زعيم، ويتكون كل مجلس من اثني عشر شخصا يتناوبون على رئاسته، وينقسم الأعضاء بدورهم إلى وحدات صغيرة تتألف من خمسة أفراد ليشكلوا بذلك أسرة أو عائلة، وتقوم الأسرة بدورها بتنظيم اجتماعات أسبوعية تتخللها مناقشة الأمور الأيديولوجية في البلاد. ويضع تقرير المعهد الأميركي جيتسون السويديين أمام حقائق مخيفة حول ما يجري على أراضيهم من خداع فعلى سبيل المثال لم يكن هناك مشروع لإنشاء مسجد يعد مركزا لـ«الإخوان» في مدينة مالمو، بل مركز للأنشطة الشبابية والأسرية، وحين تم سؤال المسؤول عن البناء المدعو خالد عاصي قال إن الوقف غير تابع لأي مؤسسة، وإن جميع المساهمات المالية تأتي من أفراد المنطقة. فيما الأمر الأكثر إزعاجا أن العديد من أعضاء ما يعرف بـ«الوقف الإسلامي السويدي» ينتمون إلى الجمعية الثقافية الإسلامية السويدية التي ينتمي متحدثها الرسمي عمار دواد إلى طائفة أتباع الإمام الدنماركي أبو لبن، المعروف بصلاته بعناصر جهادية وبتحريضه للعالم الإسلامي ضد الدنمارك، وقد وصف أبو لبن ذات مرة «سيد قطب» منظر جماعة الإخوان المسلمين الأشهر بأنه مثله الأعلى.
ولعل خلاصة التقارير السويدية عن حالة «الإخوان المسلمين» في البلاد يمكن إجمالها في أن الجماعة تسعى في الداخل إلى بناء وخلق مجتمع مواز بمساعدة النخب السياسية التي تدعم سياسات الصمت على أنشطة هذه المجموعة الأصولية غير البريئة، وأن هذه الجماعة تبني كيانا موازيا في هذه الدولة الإسكندنافية، يمتد ليتصل ببقية الإخوان في الدنمارك والنرويج، كما أن هناك حالة جهل عام في صفوف السياسيين السويديين بشأن المجموعات المنتسبة إلى جماعة الإخوان، وبشأن مفهوم الإسلام السياسي ككل، وقد حان الوقت للاعتراف بالمشاكل المتجذرة المنبثقة عن وصول الجماعة إلى المال العام دون قيود، ولا بد من تحقيق رقابة على الأفراد الذين يديرون منظمات قد تكون بديلا عن اللبنات الأساسية للمجتمع.
ولعله من المؤكد أن الحديث عن التمدد «الإخواني» في الدول الإسكندنافية لا يستقيم بدون الحديث عن ذلك الوجود في النرويج وكذا الدنمارك.
يستلفت النظر في النرويج بداية وجود الرابطة الإسلامية الموازية لنظيرتها في السويد، والتي لها مسجد مستقل هو «مسجد الرابطة» في العاصمة النرويجية أوسلو، ويديره بعض الأشخاص وثيقو الصلة بالمرشد الروحي لـ«الإخوان» يوسف القرضاوي.
يستغل إخوان النرويج بنفس العقلية مؤسسات الدولة النرويجية التي تسبغ حرصها ودعمها للأقليات، وعليه يحصلون من الدولة على دعم مالي يستخدم في خدمة الأغراض الإخوانية، وخلال إجراء النيابة النرويجية التحقيقات حول نشاط خلية مايكل داود المتهم بتفجير صحيفة جيلاندز بوست الدنماركية ورد ذكر اسم مسجد الرابطة، فقد كان داود، وهو نرويجي من أصل صيني تحول إلى الإسلام عقب زواجه من امرأة مسلمة من أصول مغربية يتردد بشكل مستمر على المسجد قبل سفره إلى دول عربية حيث تواصل مع تنظيم «القاعدة»، وأشار إلى أنه أثناء قيادة الإخواني الأردني إبراهيم الكيلاني لـ«الرابطة الإسلامية» عام 2006 توسعت المؤسسة الإخوانية في أنشطتها الاجتماعية ونظمت فعاليات ومؤتمرات اشترك فيها قادة من الجماعة.
ماذا عن الدنمارك؟ الشاهد أن بعض التقارير الإعلامية الغربية تحدثت مؤخرا عن العاصمة الدنماركية كوبنهاجن، فوصفتها بأنها «مغارة الحمدين» في إشارة لا تخطئها العين لما تقوم به قطر منذ عام 2000 في نشر رؤاها الأصولية من خلال الجماعات الإخوانية المنتشرة هناك.
منذ عقدين أسست قطر ما يعرف بـ«المجلس الإسلامي الدنماركي»، لتجعل منه صندوقا لتمويل تيارات متطرفة وفلول جماعة الإخوان الفارين من الدول العربية وحصالة لجمع الأموال وتوزيعها على قياديين في جماعات وتنظيمات وتيارات مشبوهة داخل أوروبا.
ولعل ما كشف حقيقة الدور المزعج لذلك المجلس قضية اختلاس بعض أعضائه لمبالغ تصل إلى ملايين الدولارات، مما جعل أجهزة الاستخبارات الدنماركية تتساءل من أين تحصلوا على تلك الأموال؟ وفيم أنفقوها؟
وفي كل الأحوال يتكشف للدنماركيين والحديث على لسان هنريك يرني عضو اللجنة القانونية بالحزب الديمقراطي الاجتماعي أنه منذ عام 2010 تدفقت الأموال القطرية بالملايين على المركز المعروف باسم المجلس الإسلامي، وما أثار المخاوف هو أن تبرعات المسلمين في الدنمارك ومساعدات الدولة تكفي لبناء هذ المسجد وأكثر، وعليه فلماذا المزيد من ملايين قطر تلك التي يقوم بنقلها مسؤولون كبار في قطر.
ويبقى السؤال قبل الانصراف: هل يتحتم على الدول الإسكندنافية التيقظ اليوم لما يحاك لها ويجري على أراضيها؟


مقالات ذات صلة

ضبط أجهزة كومبيوتر محمولة وأموال خلال مداهمة مقرّ جمعية إسلامية محظورة بألمانيا

أوروبا العلم الألماني في العاصمة برلين (أ.ب)

ضبط أجهزة كومبيوتر محمولة وأموال خلال مداهمة مقرّ جمعية إسلامية محظورة بألمانيا

صادرت الشرطة الألمانية أجهزة كومبيوتر محمولة وأموالاً، خلال عمليات مداهمة استهدفت جمعية إسلامية تم حظرها حديثاً، ويقع مقرّها خارج برلين.

«الشرق الأوسط» (برلين)
شؤون إقليمية إردوغان استقبل السيسي في مطار أنقرة في إسطنبول (من البث المباشر لوصول الرئيس المصري) play-circle 00:39

السيسي وصل إلى أنقرة في أول زيارة لتركيا

وصل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى أنقرة، الأربعاء، في أول زيارة يقوم بها لتركيا منذ توليه الرئاسة في مصر عام 2014

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
المشرق العربي قوات من الأمن بميدان التحرير في القاهرة (أ.ف.ب)

مصر: توقيف المتهم بـ«فيديو فيصل» وحملة مضادة تستعرض «جرائم الإخوان»

أعلنت «الداخلية المصرية»، الثلاثاء، القبض على المتهم ببث «فيديو فيصل» الذي شغل الرأي العام، مؤكدة «اعترافه» بارتكاب الواقعة، بـ«تحريض» من عناصر «الإخوان».

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
أوروبا الإعلامي بقناة «الشرق» الإخوانية عماد البحيري تم توقيفه بسبب التهرب الضريبي (من حسابه على  «فيسبوك»)

تركيا توقف إعلامياً في قناة إخوانية لتهربه من الضرائب

أحالت السلطات التركية، (الخميس)، المذيع بقناة «الشرق» المحسوبة على «الإخوان المسلمين»، عماد البحيري، إلى أحد مراكز التوقيف بدائرة الهجرة في إسطنبول.

سعيد عبد الرازق (أنقرة )
شمال افريقيا الرئيس عبد المجيد تبون (د.ب.أ)

الجزائر: فصيل «الإخوان» يرشح الرئيس تبون لعهدة ثانية

أعلنت حركة البناء الوطني (فصيل الإخوان في الجزائر)، الجمعة، عن ترشيحها الرئيس عبد المجيد تبون للانتخابات الرئاسية التي ستُجرى في 7 سبتمبر المقبل.

«الشرق الأوسط» (الجزائر)

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.