تسجيلات البغدادي... أحاديث متكررة عن العودة

لجأ إليها لتفادي الخفوت عبر الإعلان عن «تمدد وهمي»

حرض البغدادي في تسجيل نهاية سبتمبر الماضي عناصره بشكل مباشر على مهاجمة السجون في سوريا والعراق (أ.ف. ب)
حرض البغدادي في تسجيل نهاية سبتمبر الماضي عناصره بشكل مباشر على مهاجمة السجون في سوريا والعراق (أ.ف. ب)
TT

تسجيلات البغدادي... أحاديث متكررة عن العودة

حرض البغدادي في تسجيل نهاية سبتمبر الماضي عناصره بشكل مباشر على مهاجمة السجون في سوريا والعراق (أ.ف. ب)
حرض البغدادي في تسجيل نهاية سبتمبر الماضي عناصره بشكل مباشر على مهاجمة السجون في سوريا والعراق (أ.ف. ب)

تسجيلان صوتيان لزعيم تنظيم داعش، أبي بكر البغدادي، كشفا عن طبيعة التنظيم التي باتت «خافتة»، كمحاولة أخيرة منه لتفادي خسائر الهزائم، عبر الإعلان عن «تمدد وهمي» في بعض الدول. فما بين التسجيل الأول والثاني (الأخير) 5 أشهر، لم يقم فيها التنظيم بأي حراك يُذكر، كما كان من قبل في عامي 2015 و2016، رغم ما جاء على لسان البغدادي من أن تنظيمه ما يزال قوياً، ويمتلك خيوطاً للتمدد في مناطق جديدة، كمحاولة لجذب عناصر جُدد، ووقف مسلسل هروب مقاتلي التنظيم.
أقوال البغدادي تأتي في وقت انحسر فيه التنظيم وتقهقر في العراق وسوريا، واعتمد عناصره على الهجمات الخاطفة، باستهداف الكمائن في المناطق النائية، دون السيطرة المكانية على أي منطقة، فضلاً عن ضعف العمليات الانتحارية نتيجة لنقص الأموال، وفقاً لمراقبين.
يقول مختصون في الشأن الأصولي بمصر إن «البغدادي سعى في التسجيلات الأخيرة إلى رفع الروح المعنوية لبقايا عناصر التنظيم، بهدف مواجهة سيل الانشقاقات، ومقاومة حملات (نقض البيعة)، التي تكررت بشكل متزايد في الآونة الأخيرة».
وأضاف المختصون لـ«الشرق الأوسط» أن «أحاديث البغدادي عن (استمرار العمليات) في دول أخرى ينم عن فشل التنظيم، ويؤكد حجم الخسائر التي مُني بها التنظيم في سوريا والعراق»، لافتين إلى أن «تسجيلات زعيم (داعش) تلمح إلى تبني استراتيجيات بديلة، بالانتقال إلى مناطق صحراوية، والانطلاق منها لشن (حرب عصابات)، بهدف استنزاف الدول وإضعافها».

جُمل زائفة
ففي أبريل (نيسان) الماضي، نشر «داعش» شريط فيديو وزعته مؤسسة «الفرقان»، مدته 18 دقيقة، ظهر فيه البغدادي، وتوعد بالثأر لقتلى التنظيم وأسراه، وكان هذا هو الظهور الأول له بعد 5 سنوات من الاختفاء. وشدد البغدادي حينها على أن «الله أمرنا بالجهاد، ولم يأمرنا بالنصر... وأن الاعتداءات التي استهدفت سريلانكا في عيد الفصح، وتبناها التنظيم، جاءت (ثأراً) للباغوز».
وواصل البغدادي قوله إن «مقاتلي التنظيم الذي مُني بهزائم عسكرية متتالية على مدى السنتين الماضيتين (سيأخذون بثأرهم)»، على حد زعمه.
وأعلن البغدادي قبوله بيعة جاءته من بوركينا فاسو ومالي، مسمياً تحديداً أبو الوليد الصحراوي، ومشيداً به، وبالهجمات التي يشنها ضد القوات الفرنسية، والقوات المتحالفة معها في منطقة الساحل الأفريقي.
وفي تسجيل آخر نهاية سبتمبر (أيلول) الماضي، حرض البغدادي عناصره بشكل مُباشر على مهاجمة السجون في سوريا والعراق لإنقاذ من عدهم «مقاتلي التنظيم، وعائلاتهم المحتجزين والمحتجزات في السجون والمخيمات». ودعا في التسجيل، الذي لم يظهر فيه بشكله، مثلما حدث في تسجيل أبريل (نيسان)، ومدته 30 دقيقة، وبثته مؤسسة «الفرقان»، الذراع الإعلامية لـ«داعش»، المحتجزات والمحتجزين إلى «الصبر»، على حد قوله. وأكد في موضع آخر أن «عمليات التنظيم مستمرة على قدم وساق في مالي وبلاد الشام».
وقال البغدادي في حديثه إن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، عاداً ذلك «اختباراً من الله»، على حد زعمه. وتحدث البغدادي أيضاً عن خطط تنظيمه اللاحقة، داعياً عناصره إلى «الجهاد»، على حد زعمه، مشيراً إلى ما وصفها بـ«مبايعات جديدة» لـ«خلافته» المزعومة. ودعا أيضاً إلى «استهداف رجال الأمن والمحققين والقضاة الذين يحققون مع عناصر تنظيمه في السجون».

سيل انشقاقات
فيما قال الدكتور إبراهيم نجم، مستشار مفتي مصر، إن «البغدادي سعى في التسجيلات الأخيرة إلى رفع الروح المعنوية لبقايا عناصر التنظيم، بهدف مواجهة سيل الانشقاقات والهروب من صفوفه، ومقاومة حملات (نقض البيعة) التي تكررت بشكل متزايد في الآونة الأخيرة، لكنه نسي أن تنظيمه فقد الأرض والانتشار الإعلامي، ولم يعد قادراً على عمل شيء يُذكر، بفضل جهود الدول في التصدي له».
وفي مارس (آذار) الماضي، ظهر تنظيم «ولاية سيناء... أنصار بيت المقدس سابقاً»، الموالي لـ«داعش» بمصر، في إصدار مرئي، بعد أشهر طويلة من الاختفاء، عرض فيه عدد من عناصر التنظيم مشاهد إعادة البيعة للبغدادي.
وأكد المراقبون أن «التنظيم يسعى من حلال كلمات البغدادي لمواجهة سيل (نقض البيعة)، وانقلاب كثير من العناصر على منهج وفكر زعيم (داعش)، وانتقال البعض الآخر نحو تنظيم (القاعدة)، فضلاً عن قيام عدد كبير من عناصر التنظيم بتسليم أنفسهم للسلطات المحلية في الدول، والإدلاء بمعلومات حول خطط التنظيم وخلاياه النائمة».
وقال عبد الله محمد، الباحث في شؤون الحركات المتطرفة، إن «أحاديث البغدادي عن (استمرار العمليات) في دول أخرى ينم عن فشل التنظيم، عبر الحديث عن انتصارات و(تمدد وهمي)، ويشير لحجم الخسائر التي مُني بها التنظيم في سوريا والعراق»، مضيفاً: «يتضح من تسجيلات البغدادي إدراكه للخسائر التي تعرض لها تنظيمه منذ عام 2017، وفقدانه القدرة الكاملة على استعادة نشاطه، ومن ثم التفكير في التركيز على شن هجمات في مناطق متنوعة، بعيداً عن محاولات السيطرة على الأرض، فضلاً عن إدراك البغدادي حجم الصراعات والانشقاقات، وتراجع أعداده وأنصاره، وكذلك تراجع قدراته المادية والبشرية، ومن ثم يسعى لبث روح الثبات والصبر في نفس فلوله المتبقية، بالحديث عن انتصارات مستقبلية».

«حرب عصابات»
ومن جهته، قال خالد الزعفراني، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «هناك ملمحاً مهماً في تسجيلات زعيم (داعش)، وهو تبني استراتيجيات بديلة بالانتقال إلى مناطق صحراوية، والانطلاق منها لشن (حرب عصابات)، بهدف استنزاف الدول وإضعافها، في محاولة لإعادة السيطرة على المدن ثانية، وإقامة (الخلافة) المزعومة»، مضيفاً: «من المؤكد أن استراتيجيات التنظيم الجديدة، بعد خسارته مناطق السيطرة، اتجهت نحو توسيع النفوذ في المناطق (الهشة) أمنياً»، موضحاً أن «(داعش) يمتلك قدرات على التحرك ليلاً بمجموعات صغيرة في بعض المناطق لشن هجمات».
يشار إلى أن هناك تبايناً الآن حول أعداد مقاتلي التنظيم، حيث تم تقدير عددهم في السابق بنحو 30 ألفاً، وهو السقف الأعلى لأعداد التنظيم، لكن غينادي كوزمين، نائب مندوب روسيا الدائم لدى الأمم المتحدة، أكد خلال جلسة لمجلس الأمن الدولي حول قضايا الإرهاب في أغسطس (آب) الماضي أن «العدد العام من عناصر (داعش) وأنصاره في سوريا الآن قرابة 3 آلاف شخص». وترجح تقديرات أخرى عدد عناصر «داعش» الذين ما زالوا يعملون في العراق بين نحو ألف وثلاثة آلاف.
وبالرجوع لتسجيلات سابقة للبغدادي قبل عام 2019، وجد أنها لم تخلو أيضاً من دعوة عناصره للثبات. ففي أغسطس (آب) عام 2018، بثت مواقع تابعة لـ«داعش» تسجيلاً صوتياً، انتقد فيه زعيم «داعش» روسيا والولايات المتحدة، ودعا أنصاره إلى عدم الاستسلام، بعد الهزائم التي تلقاها التنظيم في العراق وسوريا. وقبله في سبتمبر عام 2017، دعا البغدادي في تسجيل صوتي آخر أنصاره إلى «الصبر والثبات» في وجه المتحالفين ضد التنظيم بسوريا والعراق.
وأضاف عبد الله محمد أن «البغدادي يُدرك تماماً فقدان تنظيمه لبوصلة استقطاب عناصر جديدة، ومن ثم لجأ إلى استخدام الحديث المتكرر عن مواجهة أميركا واستنزافها في مناطق مختلفة من دول العالم، وهو خطاب لا يختلف عن خطاب أيمن الظواهري، زعيم تنظيم (القاعدة)، المعتاد. كذلك لجأ البغدادي في أحاديثه إلى محاولة ترشيد الانحرافات الأخلاقية، بكثرة الحديث عن المبادئ والوصايا الأخلاقية والدينية التي دعا أنصاره للالتزام بها لاستعادة نشاطه مرة أخرى».

توسل ويأس
المراقبون قالوا إن «تسجيلات البغدادي تثبت أنه في حالة مُزرية، ولعل هذا ما دفعه إلى تلاوته مفردات الصبر، حيث استعان بنصوص مترادفة عن الصبر والقتال، فيها محاكاة واضحة لحالة التوسل واليأس من أتباعه من جهة، ومحاولة تحريضهم واستنهاضهم لمواصلة القتال من جهة أخرى».
وخسر البغدادي (47 عاماً)، المدرج على رأس قائمة كبار «الإرهابيين» المطلوبين في العالم، دولته «مزعومة» التي أقامها لأكثر من 3 سنوات، حين ظهر وأعلن عن «دولته» المزعومة في الموصل عام 2014، لكنه بات اليوم يختبئ في كهوف الصحراء السورية، حسبما نقلت وكالة «الصحافة الفرنسية» أخيراً، فضلاً عما يتردد من وقت لآخر من شكوك حول بقائه حياً على قيد الحياة.
محللون أكدوا أنه «رغم هزيمة (داعش) عسكرياً في العراق وسوريا، وخسارته جميع مناطق سيطرته، فإن تهديداته لا تزال قائمة في سوريا والعراق، وفي دول أفريقية وآسيوية»، موضحين أنه «رغم أن الحرب على (داعش) خلال السنوات الماضية قد أدت إلى خسارته معظم قيادات الصف الأول والثاني، فإنه شهد انتعاشاً لخلاياه النائمة في العراق».
ونفذ تنظيم داعش في الأسبوع الأخير من سبتمبر (أيلول) الماضي ثلاث عمليات في سوريا، ومثلها في العراق، حيث لا يزال يعاني العراق من خلايا «داعش» النائمة، إذ يهاجم التنظيم المناطق النائية التي تنتشر وسط الصحراء، وزاد نشاطه مرة أخرى في المناطق الحدودية بين سوريا والعراق، وقام بعدة عمليات إرهابية استهدفت مدنيين وقوات أمن، بحسب المحللين.
وأكد خالد الزعفراني أن «(داعش) يفتقر في المرحلة الراهنة إلى ما يؤهله من قدرات، سواء على مستوى العنصر البشري أو على مستوى الآليات، لإعادة السيطرة على مدن ومناطق في العراق أو سوريا، يمكن له خلالها إعادة هيكلة عناصره القتالية، وتوفير ما يلزم من معدات وأسلحة».


مقالات ذات صلة

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)
شؤون إقليمية عناصر من الجيش الوطني السوري الموالي لتركيا في شمال سوريا (إعلام تركي)

العملية العسكرية التركية في شمال سوريا تواجه رفضاً روسياً وغموضاً أميركياً

تصاعدت التصريحات التركية في الفترة الأخيرة حول إمكانية شن عملية عسكرية جديدة تستهدف مواقع «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) في شمال سوريا.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.