تسجيلات البغدادي... أحاديث متكررة عن العودة

لجأ إليها لتفادي الخفوت عبر الإعلان عن «تمدد وهمي»

حرض البغدادي في تسجيل نهاية سبتمبر الماضي عناصره بشكل مباشر على مهاجمة السجون في سوريا والعراق (أ.ف. ب)
حرض البغدادي في تسجيل نهاية سبتمبر الماضي عناصره بشكل مباشر على مهاجمة السجون في سوريا والعراق (أ.ف. ب)
TT

تسجيلات البغدادي... أحاديث متكررة عن العودة

حرض البغدادي في تسجيل نهاية سبتمبر الماضي عناصره بشكل مباشر على مهاجمة السجون في سوريا والعراق (أ.ف. ب)
حرض البغدادي في تسجيل نهاية سبتمبر الماضي عناصره بشكل مباشر على مهاجمة السجون في سوريا والعراق (أ.ف. ب)

تسجيلان صوتيان لزعيم تنظيم داعش، أبي بكر البغدادي، كشفا عن طبيعة التنظيم التي باتت «خافتة»، كمحاولة أخيرة منه لتفادي خسائر الهزائم، عبر الإعلان عن «تمدد وهمي» في بعض الدول. فما بين التسجيل الأول والثاني (الأخير) 5 أشهر، لم يقم فيها التنظيم بأي حراك يُذكر، كما كان من قبل في عامي 2015 و2016، رغم ما جاء على لسان البغدادي من أن تنظيمه ما يزال قوياً، ويمتلك خيوطاً للتمدد في مناطق جديدة، كمحاولة لجذب عناصر جُدد، ووقف مسلسل هروب مقاتلي التنظيم.
أقوال البغدادي تأتي في وقت انحسر فيه التنظيم وتقهقر في العراق وسوريا، واعتمد عناصره على الهجمات الخاطفة، باستهداف الكمائن في المناطق النائية، دون السيطرة المكانية على أي منطقة، فضلاً عن ضعف العمليات الانتحارية نتيجة لنقص الأموال، وفقاً لمراقبين.
يقول مختصون في الشأن الأصولي بمصر إن «البغدادي سعى في التسجيلات الأخيرة إلى رفع الروح المعنوية لبقايا عناصر التنظيم، بهدف مواجهة سيل الانشقاقات، ومقاومة حملات (نقض البيعة)، التي تكررت بشكل متزايد في الآونة الأخيرة».
وأضاف المختصون لـ«الشرق الأوسط» أن «أحاديث البغدادي عن (استمرار العمليات) في دول أخرى ينم عن فشل التنظيم، ويؤكد حجم الخسائر التي مُني بها التنظيم في سوريا والعراق»، لافتين إلى أن «تسجيلات زعيم (داعش) تلمح إلى تبني استراتيجيات بديلة، بالانتقال إلى مناطق صحراوية، والانطلاق منها لشن (حرب عصابات)، بهدف استنزاف الدول وإضعافها».

جُمل زائفة
ففي أبريل (نيسان) الماضي، نشر «داعش» شريط فيديو وزعته مؤسسة «الفرقان»، مدته 18 دقيقة، ظهر فيه البغدادي، وتوعد بالثأر لقتلى التنظيم وأسراه، وكان هذا هو الظهور الأول له بعد 5 سنوات من الاختفاء. وشدد البغدادي حينها على أن «الله أمرنا بالجهاد، ولم يأمرنا بالنصر... وأن الاعتداءات التي استهدفت سريلانكا في عيد الفصح، وتبناها التنظيم، جاءت (ثأراً) للباغوز».
وواصل البغدادي قوله إن «مقاتلي التنظيم الذي مُني بهزائم عسكرية متتالية على مدى السنتين الماضيتين (سيأخذون بثأرهم)»، على حد زعمه.
وأعلن البغدادي قبوله بيعة جاءته من بوركينا فاسو ومالي، مسمياً تحديداً أبو الوليد الصحراوي، ومشيداً به، وبالهجمات التي يشنها ضد القوات الفرنسية، والقوات المتحالفة معها في منطقة الساحل الأفريقي.
وفي تسجيل آخر نهاية سبتمبر (أيلول) الماضي، حرض البغدادي عناصره بشكل مُباشر على مهاجمة السجون في سوريا والعراق لإنقاذ من عدهم «مقاتلي التنظيم، وعائلاتهم المحتجزين والمحتجزات في السجون والمخيمات». ودعا في التسجيل، الذي لم يظهر فيه بشكله، مثلما حدث في تسجيل أبريل (نيسان)، ومدته 30 دقيقة، وبثته مؤسسة «الفرقان»، الذراع الإعلامية لـ«داعش»، المحتجزات والمحتجزين إلى «الصبر»، على حد قوله. وأكد في موضع آخر أن «عمليات التنظيم مستمرة على قدم وساق في مالي وبلاد الشام».
وقال البغدادي في حديثه إن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، عاداً ذلك «اختباراً من الله»، على حد زعمه. وتحدث البغدادي أيضاً عن خطط تنظيمه اللاحقة، داعياً عناصره إلى «الجهاد»، على حد زعمه، مشيراً إلى ما وصفها بـ«مبايعات جديدة» لـ«خلافته» المزعومة. ودعا أيضاً إلى «استهداف رجال الأمن والمحققين والقضاة الذين يحققون مع عناصر تنظيمه في السجون».

سيل انشقاقات
فيما قال الدكتور إبراهيم نجم، مستشار مفتي مصر، إن «البغدادي سعى في التسجيلات الأخيرة إلى رفع الروح المعنوية لبقايا عناصر التنظيم، بهدف مواجهة سيل الانشقاقات والهروب من صفوفه، ومقاومة حملات (نقض البيعة) التي تكررت بشكل متزايد في الآونة الأخيرة، لكنه نسي أن تنظيمه فقد الأرض والانتشار الإعلامي، ولم يعد قادراً على عمل شيء يُذكر، بفضل جهود الدول في التصدي له».
وفي مارس (آذار) الماضي، ظهر تنظيم «ولاية سيناء... أنصار بيت المقدس سابقاً»، الموالي لـ«داعش» بمصر، في إصدار مرئي، بعد أشهر طويلة من الاختفاء، عرض فيه عدد من عناصر التنظيم مشاهد إعادة البيعة للبغدادي.
وأكد المراقبون أن «التنظيم يسعى من حلال كلمات البغدادي لمواجهة سيل (نقض البيعة)، وانقلاب كثير من العناصر على منهج وفكر زعيم (داعش)، وانتقال البعض الآخر نحو تنظيم (القاعدة)، فضلاً عن قيام عدد كبير من عناصر التنظيم بتسليم أنفسهم للسلطات المحلية في الدول، والإدلاء بمعلومات حول خطط التنظيم وخلاياه النائمة».
وقال عبد الله محمد، الباحث في شؤون الحركات المتطرفة، إن «أحاديث البغدادي عن (استمرار العمليات) في دول أخرى ينم عن فشل التنظيم، عبر الحديث عن انتصارات و(تمدد وهمي)، ويشير لحجم الخسائر التي مُني بها التنظيم في سوريا والعراق»، مضيفاً: «يتضح من تسجيلات البغدادي إدراكه للخسائر التي تعرض لها تنظيمه منذ عام 2017، وفقدانه القدرة الكاملة على استعادة نشاطه، ومن ثم التفكير في التركيز على شن هجمات في مناطق متنوعة، بعيداً عن محاولات السيطرة على الأرض، فضلاً عن إدراك البغدادي حجم الصراعات والانشقاقات، وتراجع أعداده وأنصاره، وكذلك تراجع قدراته المادية والبشرية، ومن ثم يسعى لبث روح الثبات والصبر في نفس فلوله المتبقية، بالحديث عن انتصارات مستقبلية».

«حرب عصابات»
ومن جهته، قال خالد الزعفراني، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «هناك ملمحاً مهماً في تسجيلات زعيم (داعش)، وهو تبني استراتيجيات بديلة بالانتقال إلى مناطق صحراوية، والانطلاق منها لشن (حرب عصابات)، بهدف استنزاف الدول وإضعافها، في محاولة لإعادة السيطرة على المدن ثانية، وإقامة (الخلافة) المزعومة»، مضيفاً: «من المؤكد أن استراتيجيات التنظيم الجديدة، بعد خسارته مناطق السيطرة، اتجهت نحو توسيع النفوذ في المناطق (الهشة) أمنياً»، موضحاً أن «(داعش) يمتلك قدرات على التحرك ليلاً بمجموعات صغيرة في بعض المناطق لشن هجمات».
يشار إلى أن هناك تبايناً الآن حول أعداد مقاتلي التنظيم، حيث تم تقدير عددهم في السابق بنحو 30 ألفاً، وهو السقف الأعلى لأعداد التنظيم، لكن غينادي كوزمين، نائب مندوب روسيا الدائم لدى الأمم المتحدة، أكد خلال جلسة لمجلس الأمن الدولي حول قضايا الإرهاب في أغسطس (آب) الماضي أن «العدد العام من عناصر (داعش) وأنصاره في سوريا الآن قرابة 3 آلاف شخص». وترجح تقديرات أخرى عدد عناصر «داعش» الذين ما زالوا يعملون في العراق بين نحو ألف وثلاثة آلاف.
وبالرجوع لتسجيلات سابقة للبغدادي قبل عام 2019، وجد أنها لم تخلو أيضاً من دعوة عناصره للثبات. ففي أغسطس (آب) عام 2018، بثت مواقع تابعة لـ«داعش» تسجيلاً صوتياً، انتقد فيه زعيم «داعش» روسيا والولايات المتحدة، ودعا أنصاره إلى عدم الاستسلام، بعد الهزائم التي تلقاها التنظيم في العراق وسوريا. وقبله في سبتمبر عام 2017، دعا البغدادي في تسجيل صوتي آخر أنصاره إلى «الصبر والثبات» في وجه المتحالفين ضد التنظيم بسوريا والعراق.
وأضاف عبد الله محمد أن «البغدادي يُدرك تماماً فقدان تنظيمه لبوصلة استقطاب عناصر جديدة، ومن ثم لجأ إلى استخدام الحديث المتكرر عن مواجهة أميركا واستنزافها في مناطق مختلفة من دول العالم، وهو خطاب لا يختلف عن خطاب أيمن الظواهري، زعيم تنظيم (القاعدة)، المعتاد. كذلك لجأ البغدادي في أحاديثه إلى محاولة ترشيد الانحرافات الأخلاقية، بكثرة الحديث عن المبادئ والوصايا الأخلاقية والدينية التي دعا أنصاره للالتزام بها لاستعادة نشاطه مرة أخرى».

توسل ويأس
المراقبون قالوا إن «تسجيلات البغدادي تثبت أنه في حالة مُزرية، ولعل هذا ما دفعه إلى تلاوته مفردات الصبر، حيث استعان بنصوص مترادفة عن الصبر والقتال، فيها محاكاة واضحة لحالة التوسل واليأس من أتباعه من جهة، ومحاولة تحريضهم واستنهاضهم لمواصلة القتال من جهة أخرى».
وخسر البغدادي (47 عاماً)، المدرج على رأس قائمة كبار «الإرهابيين» المطلوبين في العالم، دولته «مزعومة» التي أقامها لأكثر من 3 سنوات، حين ظهر وأعلن عن «دولته» المزعومة في الموصل عام 2014، لكنه بات اليوم يختبئ في كهوف الصحراء السورية، حسبما نقلت وكالة «الصحافة الفرنسية» أخيراً، فضلاً عما يتردد من وقت لآخر من شكوك حول بقائه حياً على قيد الحياة.
محللون أكدوا أنه «رغم هزيمة (داعش) عسكرياً في العراق وسوريا، وخسارته جميع مناطق سيطرته، فإن تهديداته لا تزال قائمة في سوريا والعراق، وفي دول أفريقية وآسيوية»، موضحين أنه «رغم أن الحرب على (داعش) خلال السنوات الماضية قد أدت إلى خسارته معظم قيادات الصف الأول والثاني، فإنه شهد انتعاشاً لخلاياه النائمة في العراق».
ونفذ تنظيم داعش في الأسبوع الأخير من سبتمبر (أيلول) الماضي ثلاث عمليات في سوريا، ومثلها في العراق، حيث لا يزال يعاني العراق من خلايا «داعش» النائمة، إذ يهاجم التنظيم المناطق النائية التي تنتشر وسط الصحراء، وزاد نشاطه مرة أخرى في المناطق الحدودية بين سوريا والعراق، وقام بعدة عمليات إرهابية استهدفت مدنيين وقوات أمن، بحسب المحللين.
وأكد خالد الزعفراني أن «(داعش) يفتقر في المرحلة الراهنة إلى ما يؤهله من قدرات، سواء على مستوى العنصر البشري أو على مستوى الآليات، لإعادة السيطرة على مدن ومناطق في العراق أو سوريا، يمكن له خلالها إعادة هيكلة عناصره القتالية، وتوفير ما يلزم من معدات وأسلحة».


مقالات ذات صلة

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)
شؤون إقليمية عناصر من الجيش الوطني السوري الموالي لتركيا في شمال سوريا (إعلام تركي)

العملية العسكرية التركية في شمال سوريا تواجه رفضاً روسياً وغموضاً أميركياً

تصاعدت التصريحات التركية في الفترة الأخيرة حول إمكانية شن عملية عسكرية جديدة تستهدف مواقع «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) في شمال سوريا.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)
TT

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)

قبل نحو شهر تقريباً أدرجت السلطات البريطانية جماعة «حزب الله» بمؤسساتها المختلفة السياسية والعسكرية كمنظمة إرهابية، ومن قبلها مضت ألمانيا في الطريق عينه، الأمر الذي دفع المراقبين لشأن الميليشيات اللبنانية الجنسية الإيرانية الولاء والانتماء للتساؤل: «ما الجديد الذي جعل الأوروبيين يتصرفون على هذا النحو؟»

الشاهد أن الأمر لا يقتصر فقط على الجانب الأوروبي، بل أيضاً تبدو الولايات المتحدة الأميركية في حالة تأهب غير مسبوقة، وسباق مع الزمن في طريق مواجهة الخلايا النائمة «لحزب الله» على أراضيها، ناهيك عن تلك المنتشرة في الفناء اللوجيستي الخلفي، لها أي في أميركا اللاتينية.
غير أن الجديد والذي دفع جانبي الأطلسي لإعلان مواجهة شاملة لميليشيات «حزب الله» هو ما توفر لأجهزة الاستخبارات الغربية، والشرقية الآسيوية أيضاً، لا سيما تلك التي ترتبط بعلاقات تبادل أمني مع بروكسل وواشنطن، من معلومات تفيد بأن «حزب الله» ينسج خيوطاً إرهابية جديدة في دول أوروبية وأميركية وآسيوية، من أجل الاستعداد للمواجهة القادمة حكماً في تقديره بين طهران والغرب.
ليس من الجديد القول إن ميليشيات «حزب الله» هي أحد أذرع الإيرانيين الإرهابية حول العالم، وقد أعدت منذ زمان وزمانين من أجل اللحظة المرتقبة، أي لتكون المقدمة الضاربة في إحداث القلاقل والاضطرابات، ومحاولة ممارسة أقصى وأقسى درجات الضغط النفسي والمعنوي على الأوروبيين والأميركيين، مع الاستعداد التام للقيام بعمليات عسكرية سواء ضد المدنيين أو العسكريين في الحواضن الغربية حين تصدر التعليمات من نظام الملالي.
مؤخراً أشارت عدة مصادر استخباراتية غربية لعدد من وسائل الإعلام الغربية إلى الخطة الجديدة لـ«حزب الله» لإنشاء شبكات موالية له في العديد من مدن العالم شرقاً وغرباً، الأمر الذي أماطت عنه اللثام صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية بنوع خاص والتي ذكرت في تقرير مطول لـ«نيكولا باروت»، أن فكر التقية الإيراني الشهير يمارس الآن على الأرض، بمعنى أن البحث يجري على قدم وساق من أجل تجنيد المزيد من العناصر لصالح ميليشيات «حزب الله»، لكن المختلف هو انتقاء عناصر نظيفة السجلات الأمنية كما يقال، أي من غير المعروفين للأجهزة الأمنية والاستخباراتية سواء الأوروبية أو الآسيوية أو الأميركية.
هل الحديث عن عناصر «حزب الله» في الغرب قضية حديثة أم محدثة؟
الواقع أنهما الأمران معا، بمعنى أن ميليشيات «حزب الله» كثفت حضورها الخارجي في الأعوام الأخيرة، لا سيما في أميركا اللاتينية، وهناك جرى إنشاء «كارتلات» تعمل على تهريب البشر والسلاح والمخدرات من جهة، وتتهيأ لمجابهة أميركا الشمالية من ناحية أخرى.
ولعل المثال الواضح على قصة هذا الاختراق لدول القارة اللاتينية يتمثل في قضية الإرهابي سلمان رؤوف سلمان، الذي شوهد مؤخراً في بوغوتا بكولومبيا، والذي ترصد الولايات المتحدة الأميركية عدة ملايين من الدولارات لاقتناصه، بوصفه صيداً ثميناً يحمل أسرار ميليشيات «حزب الله» في القارة الأميركية الجنوبية برمتها.
أما المثال الآخر على الخلايا النائمة في الولايات المتحدة الأميركية فيتمثل في شخص علي كوراني الذي تم القبض عليه في نيويورك بعد أن تم تجنيده لصالح «حزب الله» لتنفيذ هجمات إرهابية، حال تعرض إيران أو «حزب الله» في لبنان لهجمات من جانب الولايات المتحدة الأميركية، ولاحقاً أكدت التحقيقات التي جرت معه من قبل المباحث الاتحادية الأميركية أنه أحد أعضاء وحدة التخطيط للهجمات الخارجية في الحزب والمعروفة بـ«الوحدة 910».
كارثة كوراني تبين التخطيط الدقيق لإيران وأذرعها لإصابة الدول الغربية في مقتل، ذلك أنه كان دائم التنقل بين كندا والولايات المتحدة، حيث حاول تهريب متفجرات من كندا إلى الداخل الأميركي.
كان كوراني مثالاً على الخلايا النائمة التابعة «لحزب الله» في دول العالم، لا سيما أنه ينتمي لعائلة معروفة بصلاتها الوثيقة مع الحزب، وقد التحق بمعسكر تدريب تابع للحزب عندما كان في السادسة عشرة من عمره، وتعلم إطلاق النار، والقذائف الصاروخية قبل أن يجند كجزء من خطة للانتقام لمقتل عماد مغنية أحد قادة «حزب الله» رفيعي المستوى الذي قضى بسيارة مفخخة في دمشق عام 2008.
هل كان القبض على كوراني المدخل للخطط الجديدة لميليشيات «حزب الله» لنسج خيوط شبكات إرهابية جديدة غير معروفة لقوى الأمن والاستخبارات الدولية؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، ولهذا تقضي الآلية الجديد تجنيد عناصر غير عربية، وغالباً ما يكون المعين المفضل من دول شرق وجنوب آسيا، والتي تكثر فيها الحواضن المشبعة بالإرهاب الأصولي، وقد كان آخر شخص تم الاشتباه فيه مهندس باكستاني لا يتجاوز الثلاثة عقود من عمره، وبدا أنه على اتصال «بحزب الله».
ويعزف القائمون على الميليشيات الخاصة «بحزب الله» على الأوتار الدوغمائية الشيعية تحديداً، ويستغلون الكراهية التقليدية تجاه الولايات المتحدة الأميركية والقارة الأوروبية، ويلعبون على أوتار القضايا الدينية، مظهرين الصراع بين إيران والغرب على أنه صراع ديني وليس آيديولوجياً، وفي الوسط من هذا يقومون بتجنيد من يقدرون على تعبئتهم، وفي هذا تكون الكارثة لا الحادثة، أي من خلال استخدام جوازات سفرهم الأجنبية أو تزويد بعضهم الآخر بجوازات سفر قد تكون حقيقية مسروقة، أو مزورة، ليمثلوا حصان طروادة في الجسد الأوروبي أو الأميركي.
لا تكتفي خطط ميليشيات «حزب الله» الخاصة بإعداد شبكات إرهابية جديدة في الغرب بالطرق التقليدية في تجنيد عناصر جديدة من الصعب متابعتها، بل يبدو أنها تمضي في طريق محاكاة تنظيم «داعش» في سعيه لضم عناصر إرهابية إضافية لصفوفه عبر استخدام وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة من مخرجات الشبكة العنكبوتية الإنترنت، مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام».
في هذا السياق تبدو الخطط الجديدة لـ«حزب الله» كمن ينسج شبكات إرهابية في العالم الرقمي، بمعنى أنها خطط لتجنيد المزيد من «الذئاب المنفردة»، تلك التي يمكن أن يتفتق ذهنها عن وسائل انتقام غير مدرجة من قبل على خارطة الأعمال الإرهابية، فكما كان استخدام الشاحنات للدهس في أوروبا أداة غير معروفة، فمن الجائز جداً أن نرى آليات جديدة تمارس بها الجماعة الإيرانية الخطى طريقها في إقلاق الحواضن الغربية.
يتساءل المراقبون أيضاً هل من دافع جديد يقودها في طريق شهوة الانتقام غير المسبوقة هذه؟
من الواضح جداً أن قيام الولايات المتحدة الأميركية باغتيال قاسم سليماني، والتهديدات التي أطلقها «إسماعيل قاآني»، قائد فيلق القدس الجديد، ضمن صفوف الحرس الثوري الإيراني، بأن تملأ جثث الأميركيين الشوارع، هي وراء تسريع إيران في طريق دفع ميليشيات «حزب الله» في تغيير طرق تجنيد واكتساب عملاء جدد يكونون بمثابة رؤوس حراب في المواجهة القادمة.
خلال صيف العام الماضي كشفت مصادر استخباراتية لصحيفة «ديلي تليغراف» البريطانية عن أن الأزمة مع إيران قد تتسبب في إيقاظ خلايا إرهابية نائمة، وتدفعها إلى شن هجمات إرهابية على بريطانيا، ولفتت المصادر عينها إلى الخلايا يديرها متشددون مرتبطون بـ«حزب الله» اللبناني.
ولم تكن هذه تصريحات جوفاء أو عشوائية، وإنما جاءت بعد أن كشفت شرطة محاربة الإرهاب في عام 2015 في بريطانيا عن خلية جمعت أطناناً من المتفجرات في متاجر بضواحي لندن، موضحة أن إيران وضعت عملاءها في «حزب الله» على استعداد لشن هجمات في حالة اندلاع نزاع مسلح، وهذا هو الخطر الذي تشكله إيران على الأمن الداخلي في بريطانيا.
والثابت أنه لا يمكن فصل مخططات ميليشيات «حزب الله» الخاصة بتجنيد عناصر ونسج شبكات جديدة عن الموقف الواضح لـ«حزب الله» من الصراع الدائر بين أميركا وإيران، فهي ترغب في القتال، وهو ما أشار إليه حسن نصر الله أمين عام الحزب في مقابلة تلفزيونية مع قناة المنار التابعة لجماعته عندما أجاب على سؤال حول ما ستفعله الجماعة في حال نشوب حرب بين إيران والولايات المتحدة، إذ أجاب بسؤال استفهامي أو استنكاري على الأصح في مواجهة المحاور: «هل تظن أننا سنقف مكتوفي الأيدي؟ إيران لن تحارب وحدها، هذا أمر واضح وضوح الشمس، هكذا أكد نصر الله».
هل قررت إيران إذن شكل المواجهة القادمة مع الولايات المتحدة الأميركية، طالما ظلت العقوبات الاقتصادية الأميركية قائمة وموجعة لهيكل إيران التكتوني البنيوي الرئيسي؟
فوفقا لرؤية «ماثيو ليفيت» مدير برنامج ستاين لمكافحة الإرهاب والاستخبارات في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، يبدو أن إيران و«حزب الله» لن يعتمدا المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة في حال نشوب حرب بين واشنطن طهران، إذ سيتم إيقاظ «الخلايا النائمة» من سباتها في الداخل الأميركي الشمالي والجنوبي أولاً، عطفاً على ذلك إعطاء الضوء الأخضر للعناصر والشبكات الجديدة بإحداث أكبر خسائر في صفوف الأوروبيين، وتجاه كل ما يشكل أهدافاً ومصالح أميركية من شمال الأرض إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها دفعة واحدة.
الخلاصة... العالم أمام فصل جديد مقلق من تنامي مؤامرات «حزب الله» والتي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية خارج الشرق الأوسط، ربما بشكل لا يقل إقلاقاً عن الدور الذي يلعبه على التراب الوطني اللبناني في حاضرات أيامنا، ما يجعل التفكير في حصار هذا الشر أمراً واجب الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة، من غير فصل مشهده عن حجر الزاوية الذي يستند إليه، أي إيران وملاليها في الحال والمستقبل.