التواريخ الكبيرة وإعادة كتابة التأريخ

فهمها يشكل موضوعاً حاسماً في تشكيل صورة المستقبل

ديفيد كريستيان
ديفيد كريستيان
TT

التواريخ الكبيرة وإعادة كتابة التأريخ

ديفيد كريستيان
ديفيد كريستيان

(إعادة كتابة التأريخ): كثيراً ما طرقت أسماعنا تلك العبارة التي صارت علامة مميزة لعصر الآيديولوجيات الكبيرة. كلّ آيديولوجيا تسعى لثني عنق التأريخ البشري وإدخاله في خرم إبرة تكيّف الحقائق - بل أكاد أقول تصنّعها - بحسب متطلبات الآيديولوجيا ورؤيتها حتى بات التأريخ البشري أقرب لصناعة يُشترطُ فيها أن تدعم الرؤى الآيديولوجية بطرق لم تكن تخلو من المزاجية والاعتباطية السقيمة، وليست العبارات المكرورة على شاكلة (عجلة التأريخ)، (ديكتاتورية البروليتاريا)، (التراكم الكمي يخلق تحوّلاً نوعياً)، (اليد الخفية)، (الأسواق الحرّة) سوى بعض الأمثلة وحسب على تلك الأمثولات الحكائية التي كان يُرادُ لها أن تصير تأريخاً رسمياً راكزاً في المخيال الشعبي بمثل رسوخ المواضعات الكهنوتية. لا شكّ حتماً في أنّ أسبقية هذه السرديات التأريخية المدعومة بدفع آيديولوجي جاءت بسبب خفوت العقلية العلمية والتقنية وانكفاء العلم على صورة بناء فوقي بعيد عن مخاطبة العقل الجمعي مثلما تفعل الآيديولوجيات التي تتمترس وراء قوة الدولة الشمولية على صعيد الدولة والاقتصاد والإعلام بل وحتى فنون الخطابة واستثارة الغرائز البدائية، وثمة أسباب أخرى تأتي في مقدّمتها الحرب الباردة التي كانت قائمة بين المعسكرين الشرقي والغربي - تلك الحرب التي استخدِمت فيها كلّ الوسائل - بما فيها المصنّعات الآيديولوجية - لغرض تعزيز عوامل التفوّق على الخصم بوسائل منها اللجوء إلى إعادة كتابة التأريخ بطريقة تشيطن الآخر وتُعلي شأن الكينونات القومية حتى لو كان الأمر لا يخلو من تدليس وتلفيق. الآيديولوجيا، إذن، صناعة بشرية تحتمل كلّ الرؤى والتسويغات التي تحقّق الفائقية على الخصم المطلوب تدميره في نهاية المطاف.
يطيب للكثيرين منّا وصف العصر الذي نحيا فيه بأنّه عصر العلم والتقنية، وهذا قولٌ محمود وصحيح في دلالته؛ لكنه يستبطن نوعاً من الخفّة الحسّية التي صارت معلماً من معالم حياتنا؛ إذ صار هؤلاء يرون في العلم ومنتجاته التقنية (الهاتف النقال مثالاً) دليلاً صارماً على مدى تغلغل العلم في أدق تفاصيل حياتنا بعد أن لمسوا حسياً مصنّعاته على أرض الواقع فحسب؛ لكن ثمة ما هو أعمق من هذه العلاقة الحسية بكثير: يمكن اعتبار العلم - ومصنّعاته التقنية - نوعاً من آيديولوجيا جمعية بديلة عن الآيديولوجيات الغابرة بعد أن غادر العلم موقع المنتج الفوقي وصار يؤثّر في حياة الناس بطريقتين: الأولى حسية مباشرة يستشعرها الناس وهم يتعاملون مع مخرجات العلم والتقنية التي باتت سريعة التبدّل والتحديث، والثانية عقلية - سيكولوجية مركّبة راحت تعدّل في رؤية الناس لأنفسهم وعلاقتهم المركّبة شديدة التعقيد مع الكون. إنّ القول بكون العلم نمطاً من آيديولوجيا بديلة هو قولٌ ينطوي على شحنة استعارية يُراد منها الكشف عن الدور المتعاظم للعلم في حياتنا وأسبقيته على كلّ منظومة آيديولوجية مفترضة؛ فنحن نعرف تماماً طبيعة العلم غير الآيديولوجية التي تناقض المواضعات المتكلسة وتفترض التغيير المستديم الذي لا ينقطع.
فَرَضَ العلم - والتقنية كذلك - واقع حال مستجدّاً صرنا معه مدفوعين دفعاً – لا قدرة لنا على مناكفته أو تعويقه - لإعادة كتابة تأريخنا الطبيعي والبشري بطريقة تستفيد من الرؤية العلمية التي تعتمد على منظور الأنساق المعقدة المتفاعلة مع بعضها في إطار كلٍّ حيوي واحد. ثمة مؤرّخون خرجوا على سياقات البحث التأريخي في أصول النشأة الأولى الخاصة بكلّ مجتمع وراحوا ينقّبون بجهد وصبر في حكاية الأصول الأولى للبشرية باعتبارها مركّباً واحداً شاملاً بصرف النظر عن التباينات العرقية والبيئية المحلية، ويدعى هذا البحث (التأريخ الكبير Big History) - ذلك المبحث الذي أسّسه المؤرّخ (ديفيد كريستشيان David Christian) وجعل منه برنامجاً بحثياً حافلاً بشتى الكشوفات المعرفية التي أثارت إعجاب الكثيرين ومنهم (بيل غيتس) الذي تبرّع للمشروع بعشرة ملايين دولار على أمل أن يصبح المشروع برنامجاً دراسيا في الثانويات والجامعات الأميركية بديلاً عن التواريخ التقليدية التي تعلي شأن الوقائع بدل الأفكار.
كتب (بِل غيتس) في مدوّنته الإلكترونية العالمية عام 2012 التقريظ التالي بشأن فكرة (التأريخ الكبير):
فجّر (ديفيد كريستشيان، المترجمة) عقلي؛ فها نحن أمام إنسانٍ متفكّر قرأ الكثير في الروابط الجامعة بين العلوم والإنسانيات والعلوم الاجتماعية، وربط كلّ مقروءاته في صيغة إطارية بنيوية جامعة، وقد بلغت بي الدهشة حدّ أنني تمنّيتُ دراسة مقررات مدرسية وجامعية في موضوعة (التأريخ الكبير) في أيام شبابي؛ إذ أنّ هذا الأمر كان كفيلاً بجعلي أتفكّر بطريقة أفضل بشأن كلّ عملي المدرسي وقائمة مقروءاتي اللاحقة ومجمل رؤيتي المهنية. إنّ ما يفعله (التأريخ الكبير)، بخاصة، هو أن يضع العلوم في سياق تأريخي بالغ الإدهاش يمتلك القدرة على توضيح الكيفية التي يمكن بها تطبيق الأفكار العلمية على الكثير من الجوانب المعاصرة في حياتنا.
ربما يوحي العنوان الضخم ذو اللمسة الدرامية (التأريخ الكبير) بأنّ هذا التأريخ يحكي عن كلّ الوقائع البشرية مهما صغرت أو تضاءلت؛ غير أنّ المعنى المحدّد للتأريخ الكبير هو سرد حكاية الكون منذ الانفجار العظيم Big Bang مروراً بالعلامات الأولى لتشكّل الحياة وانتهاءً بالتشكّلات المعقّدة التي تمثّل المجتمعات البشرية أعلاها مرتبة، وبهذه الشاكلة يكون (التأريخ الكبير) أقرب إلى الكوسمولوجيا والفيزياء والكيمياء التخليقية وعلم الأحياء التطورية والنظم المعقدة، وهذا التأريخ يتفق تماماً مع توجهات الثقافة الثالثة التي تتعالى على التواريخ التقليدية وتجعل المفردات العلمية حاضرة في كلّ المساءلات التأريخية الخاصة بنشأة الإنسان والكون والمجتمعات البشرية. بالإضافة إلى ما تقدّم يمتلك (التأريخ الكبير) القدرة على كشف حقيقة أنّ كلّ شيء في هذا الكون يتصل بسلسلة سببية مع الأشياء الأخرى؛ الأمر الذي يؤدي لتخليق بصيرة فردية تعزز قدرة المرء على استنتاج شواهد من مباحث معرفية بينية مشتبكة وصَهْرها في سردية مفردة مفهومة تعزز روح الشغف وتخمد نيران الكبرياءات القومية التي ترى أفضلية بعض الأعراق والإثنيات البشرية عن سواها.
إنّ فهم قصة التأريخ الكبير للبشرية، وبالمعنى الذي بيّنتُه أعلاه، موضوع حاسم في تشكيل صورة المستقبل الذي نتوجّه إليه وترتسم معالمه أمامنا في اللحظة الحاضرة، وسوف تتكفل القراءة الواعية والصبورة لمثل هذه التواريخ البديلة في جعل مواطن القرن الحادي والعشرين يحوز نظرة محدّثة وغير مسبوقة ستمكّنه في نهاية الأمر من حيازة قدر أعظم من المعرفة يكفي لتفهّم مكانة الإنسان في هذا الكون من جهة، وإدراك العلاقات المشتبكة بين الإنسان وسائر البشر والموجودات في هذا العالم والكون بعامة بعيداً عن ثقل الحمولات الآيديولوجية المضلّلة والمبتسرة فضلاً عن كونها لم تعُد تصلح للتعامل مع معضلات عصرنا الحافل بمخاطر إشكالية لن تعمل الآيديولوجيا إلّا على إذكاء نارها المستعرة وبالكيفية ذاتها التي لطالما فعلتها في سنوات الحرب الباردة – تلك الحرب التي تلوح تباشيرها في الأفق بأشكال شتى.
بقي لي أن أشير إلى بعض المؤلفات التي تمثّلُ معالم دلالية مهمّة في موضوعة (التأريخ الكبير)، وأبتغي من هذا المسعى تعزيز رغبة القارئ العربي في قراءة هذه المصنّفات المعرفية التي باتت تلقى مقروئية هائلة على أوسع النطاقات في العالم الغربي:
1. قصة الأصول: التأريخ الكبير لكلّ شيء
Origin Story: A Big History of Everything
لمؤلفه (ديفيد كريستشيان David Christian).
2. خرائط الزمان: مقدمة في التأريخ الكبير
Maps of Time: An Introduction to Big History
لمؤلفه (ديفيد كريستشيان)
3. التأريخ الكبير: من الانفجار العظيم وحتى وقتنا الحاضر
Big History: From the Big Bang to the Present
لمؤلفته (سينثيا ستوكس براون Cynthia Stokes Brown)
4. الكتاب الصغير للتأريخ الكبير
The Little Book of Big History
للمؤلّفين (إيان كروفتون Ian Crofton) و(جيريمي بلاك
Jeremy Black).
5. التأريخ الكبير ومستقبل البشرية
Big History and the Future of Humanity
لمؤلفه (فرِد سبير Fred Spier)

- كاتبة وروائية ومترجمة عراقية تقيم في الأردن



حملة فرنسية بآلاف التوقيعات لإنقاذ أقوى منارة في أوروبا

رُفِع الصوت من أجلها (موقع المنارة)
رُفِع الصوت من أجلها (موقع المنارة)
TT

حملة فرنسية بآلاف التوقيعات لإنقاذ أقوى منارة في أوروبا

رُفِع الصوت من أجلها (موقع المنارة)
رُفِع الصوت من أجلها (موقع المنارة)

يتداول روّاد مواقع التواصل نداء يُطالب الحكومة الفرنسية بالتراجع عن قرارها برفع الحماية عن منارة (فنار) «كرياك» بغرب البلاد، وخفض أنوارها. وجمع النداء، بعد ساعات من نشره، أكثر من 10 آلاف توقيع لمواطنين من مختلف الأعمار والفئات يريدون الحفاظ على إشعاع المنارة الأقوى في أوروبا.

وتمنع الحماية التي تمنحها الدولة للمَرافق التاريخية وذات القيمة المعنوية، هدمها أو تحويرها أو التصرف بها، بوصفها تراثاً قومياً.

تقع المنارة التي تُعدُّ تحفة معمارية ورمزاً من رموز المنطقة، في جزيرة ويسان التابعة لمحافظة بريتاني. يعود تشييدها إلى عام 1863 بارتفاع 47 متراً. وهي مزوَّدة بمصباحَيْن متراكبَيْن من الزجاج السميك، من تصميم الفيزيائي أوغستان فريسنيل الذي استبدل بهذا النوع من الإضاءة المرايا العاكسة التي كانت تستخدم في المنارات. ويرسل المصباحان إشارة ضوئية مؤلَّفة من 8 إشعاعات بمدى يصل إلى نحو 60 كيلومتراً. لكن قراراً رسمياً صدر بتحويل المنارة إلى الإنارة الصناعية الأقل إشعاعاً للتخلُّص من مادة الزئبق التي تشكّل خطراً على الصحة. ويمكن الصعود إلى قمّتها عبر درج يُعدُّ تحفة فنّية. كما يضمُّ المبنى متحفاً وحيداً من نوعه في العالم يجمع مصابيح المنارات القديمة، يزوره آلاف السياح كل عام.

درجها تحفة (موقع المنارة)

وسخر أهالي الجزيرة من هذه الحجَّة ومن محاولات تقليل قوة المنارة التي يمكن التحكُّم بإنارتها عن بُعد. ونظراً إلى فرادة مصباحَيْها الزجاجيَيْن، فقد نُقلا للعرض في المعرض الكوني الذي أُقيم في نيويورك عام 1939.في هذا السياق، قالت متحدّثة باسم جمعية محلّية إنّ العبث بالمنارة يُشكّل نوعاً من الاستهانة بأهالي المنطقة والتنكُّر لسمعتهم بوصفهم بحَّارة يُضرَب بهم المثل عبر العصور. كما لفتت النظر إلى المخاطر التي يتسبَّب فيها تقليل قوة الإنارة في جزيرة تعبرها 54 ألف باخرة سنوياً، أي 150 باخرة في اليوم، بينها 8 على الأقل تنقل مواد خطرة، إذ يمرُّ عبرها 700 ألف طن من النفط يومياً.