غير بيدرسن ابن الواقعية السياسية... ينجز جزئياً وينتظره الكثير

عدته «خريطة طريق» مرسومة في القرار 2254 وبيان جنيف وأمامه حفر عميقة

غير بيدرسن ابن الواقعية السياسية... ينجز جزئياً وينتظره الكثير
TT

غير بيدرسن ابن الواقعية السياسية... ينجز جزئياً وينتظره الكثير

غير بيدرسن ابن الواقعية السياسية... ينجز جزئياً وينتظره الكثير

يأمل كثيرون أن يكون الدبلوماسي النرويجي غير بيدرسن آخر مسؤول أممي يتولى شأن التفاوض من أجل خروج سوريا من محنتها المتطاولة، وأن تسفر الجهود الدولية عن نهاية للعنف، وإعادة المهجرين، والتفاهم على حل سياسي بعد ثماني سنوات من القتل والتهجير والانهيار الاقتصادي ناهيك من مختلف أنواع التدخل العسكري الأجنبي، المباشر وغير المباشر. وكانت الخطوات الأخيرة التي وافق عليها النظام وفريق «الائتلاف» الذي يمثل طيفاً من أطياف المعارضة السورية تتعلق بإنشاء لجنة دستورية مهمتها التفاوض على إقرار دستور جديد للبلاد.

أحدث المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سوريا غير بيدرسن، منذ تعيينه في هذا المنصب، فرقاً واضحاً في طريقة التعامل مع واحدة أصعب الأزمات التي تعصف في الشرق الأوسط والعالم. وهو أنجز أخيراً جزءاً من المهمة التي خنقت الجهود الدبلوماسية لسلفه السياسي السويدي - الإيطالي ستافان دي ميستورا واستعصت على من سبقه المخضرم الجزائري الأخضر الإبراهيمي، وخذلت أولاً الأمين العام للمنظمة الدولية الراحل كوفي أنان. غير أن الطريق لا تزال طويلة الآن أمام هذا الدبلوماسي النرويجي بعد إعلان الاتفاق على تشكيل اللجنة الدستورية، استناداً دائماً إلى القرار 2254.
استفادة من دروس التاريخ
لقد استفاد بيدرسن من دروس التاريخ في الواقعية السياسية وانطلق من واقع يتغيّر على الأرض.
تحرك وفقاً لـ«عدة الشغل» المتوافرة لديه، وأبرزها القرار الذي رسم ملامح «خريطة الطريق» الواجب اتباعها لإيجاد تسوية للحرب الطاحنة المتواصلة منذ نحو ثماني سنوات، فضلاً عن بقية القرارات الدولية ذات الصلة، من دون أن ننسى طبعاً «بيان جنيف 1» لعام 2012.
بيدرسن يدرك أن الحفر كثيرة وبعضها عميق للغاية بين الأطراف المعنية. وهو يتحرك بين الأطراف المتنازعة التي هي: داخلياً، حكومة النظام السوري، وأطراف المعارضة على مختلف مشاربها المشتتة هنا وهناك... تتماهى معها أو فيها جماعات مصنفة إرهابية في لوائح الأمم المتحدة جزء منها جاء من خارج الحدود.
وخارجياً، هناك جيوش لدول كبرى على الأرض، بعضها من وحدات الجيش الأحمر الروسي وبعضها الآخر من القوات الأميركية التي تقود تحالفاً دولياً لمحاربة الجماعات الإرهابية على امتداد العراق وسوريا. وأيضا هناك، كما بات القاصي والداني يعرف جيداً، تشارك القوات الإيرانية من «الحرس الثوري» ومن ميليشيات تابعة له مثل «حزب الله» اللبناني و«العصائب» العراقية وغيرها، في المقتلة السورية الدامية.
وفي مكان ما، بل وفوق أمكنة عديدة، تمارس إسرائيل، على عادتها ومن دون إذن، حق «التبختر العسكري» في أجواء سوريا وعند مرتفعات الجولان المحتل، وربما أبعد. وأخيراً، وليس آخراً، تضخم قرص «الجارة الشمالية» تركيا في «عرس» الموت السوري لتسيطر عملياً على المزيد من الأراضي في هذا البلد العربي.

ظروف بالغة الاستثنائية

يعمل بيدرسن تحت ظروف بالغة الاستثنائية، إذاً. إلا أنه يعرف أيضاً كيف ذاق الشعب السوري مرارات كثيرة... ذلك الذي أرغمه نظام البعث بقيادة آل الأسد على تجرّع سموم القهر والاضطهاد، ثم عمل على «سحق» الثورة الشعبية التي قامت ضده وبدأت سلمية اعتراضية في مدينة درعا بأقصى الجنوب السوري. لقد قتل، بحسب تقديرات المنظمات الدولية أكثر من نصف مليون من السوريين خلال السنوات الثماني الماضية، بينما تصل الحصيلة وفق تقارير غير رسمية إلى نحو مليون. كذلك لجأ الملايين إلى دول الجوار. تحوّلت مدن عامرة، مثل حلب وحمص، إلى خرائب عششت فيها الجماعات الإرهابية التي ولدت في الداخل على أيدي إرهابيين أجانب. وبالتالي، تحوّلت سوريا أرضاً خصبة لـ«حروب الآخرين» - تماماً مثلما حصل في لبنان من منتصف السبعينات إلى نهاية الثمانينات من القرن الماضي، ولكن بأضعاف مضاعفة.

«اللجنة الدستورية»... وغيرها

يعمل غير بيدرسن على جبهات عدة في محاولة لتسيير عجلة لا بد منها من أجل إنهاء الحرب. وبالإضافة إلى «اللجنة الدستورية»، التي يرتقب أن تعقد أول اجتماعاتها في نهاية شهر أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، سيسعى المبعوث الدولي إلى تحريك ملف السجناء والمفقودين والمخطوفين، أملاً في بدء بناء أجواء من الثقة بين أطراف الحرب محلياً.
ومن المتوقع، أن يستفيد الدبلوماسي النرويجي المجرّب من عمله سابقاً كممثل خاص للأمم المتحدة في جنوب لبنان بدءاً من عام 2005. وللعلم، قبل ذلك كان بيدرسن مدير قسم منطقة آسيا والمحيط الهادئ في دائرة الشؤون السياسية لدى المنظمة الدولية. وبهذه الصفة، عمل على ملفي عملية السلام في الشرق الأوسط والعراق.
أيضاً سيكون بمقدر الموفد الأممي الجديد التعويل أيضاً على خدمته بين عامي 1998 و2003 كممثل لبلاده لدى السلطة الفلسطينية. وهو، بالمناسبة، تولّى بين عامي 1995 و1998 مناصب عدة في وزارة الخارجية النرويجية في أوسلو، منها منصب كبير الموظفين في الوزارة. كما تجدر الإشارة إلى أنه عمل كدبلوماسي أيضاً في كل من الصين وألمانيا. وفي العام 1993، كان عضواً في الفريق النرويجي خلال «محادثات أوسلو» السريّة التي أدت إلى توقيع «إعلان المبادئ» والاعتراف المتبادل بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل. ثم إنه كان بين عامي 1993 و1995 مديراً للمعهد النرويجي للعلوم الاجتماعية التطبيقية، مركزاً على مسوح الظروف المعيشية في آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط وأوروبا.

بطاقة هوية

ولد غير أوتو بيدرسن في العاصمة النرويجية أوسلو، يوم 28 سبتمبر (أيلول) من عام 1955، أي أن عمره اليوم 64 سنة. ولقد تلقى تعليمه فيها، وهو يحمل درجة الماجستير في التاريخ. أما على الصعيد العائلي، فهو متزوج وأب لخمسة أولاد.
بدأ العمل في وزارة الخارجية النرويجية عام 1985، ورقي عام 1997 ليصبح رئيس دائرة في الوزارة. وهو اليوم يسير على خطى عدد كبير من الدبلوماسيين الذين عملوا في مهام مختلف مع منظمة الأمم المتحدة، مع الإشارة إلى أن الأمين العام الأول للمنظمة كان النرويجي تريغفي لي (1896 - 1968)، الذي تولى منصب الأمانة العامة بين 1946 و1952 عندما خلفه دبلوماسي اسكندنافي آخر هو داغ همرشولد.

تعيينه للمهمة الحالية

يوم 31 أكتوبر (تشرين الأول) 2018، أعلن أنطونيو غوتيريش، أمين عام الأمم المتحدة عن قرار تعيين بيدرسن، موفداً خاصاً له وللمنظمة الدولية وجامعة الدول العربية لمعالجة الأزمة السورية، وذلك خلفاً للدبلوماسي الإيطالي – السويدي ستافان دي ميستورا الذي كان قد تولى المهمة في يوليو (تموز) 2014. وبالفعل، حصل التسلم والتسليم بين الرجلين في مطلع العام الحالي، وبذا ورث بيدرسن عبئاً ثقيلاً لم ولا يخفف منه فشل المنظمة الدولية، أولاً في وقف القتال في سوريا، وثانياً في فرض تسوية حقيقية مبنية على مخرجات مفاوضات جنيف الأولى عام 2012. ثم مفاوضات جنيف الثانية عام 2014، وهي ما عُرف لاحقاً بـ«مسار جنيف».
التطورات والمبادرات والتصعيد
«مسار جنيف» الذي ارتبط بمساعي كل من جامعة الدول العربية ومنظمة الأمم المتحدة أبصر النور كجملة من المبادرات والخطط الهادفة إلى تسوية النزاع الذي تفاقم بعد الانتفاضة الشعبية على نظام الرئيس بشار الأسد في مارس (آذار) 2011 في سياق الانتفاضات المشابهة التي شهدتها كل من تونس ومصر واليمن وليبيا. وكان واضحاً من البداية، ولا سيما، بعدما اختار النظام سلاح القوة المفرطة مواجهة الانتفاضة التي بدأت في مدينة درعا بمنطقة حوران في أقصى الجنوب السوري.
استمر القمع الممنهج، واتسع مع اتساع رقعة الاحتجاجات التي تحولت إلى انتفاضة مسلحة بعد انشقاق عناصر من الجيش السوري وتوافد متطوعين ومسلحين من خارج سوريا للمشاركة في المواجهات، منضمة إلى الفريقين... أي قوات النظام وقوى الانتفاضة – أو الثورة – ومعها المنشقون عن الجيش، الذين أسسوا في حينه «الجيش السوري الحر».
الولايات المتحدة باشرت بفرض عقوبات على النظام ثم جمدت أرصدة الحكومة، في حين وقفت روسيا مع الأسد منذ البداية، معتبرة أن ما تشهده مؤامرة تنفذها جماعات إرهابية. وتجسد الموقف الروسي الداعم للنظام عملياً لأول مرة عندما استخدمت روسيا ومعها الصين حق النقض «الفيتو» في مجلس الأمن الدولي ضد مشروع قرار يطالب النظام بالوقف الفوري لأعمال القمع المسلح. وتكررت الفيتوهات الروسية والصينية لاحقاً دعماً للقمع، ثم تصعيد القمع. أما على الصعيد العربي فقد اتخذت جامعة الدول العربية في نوفمبر (تشرين الثاني) 2011 قراراً بتعليق عضوية سوريا في الجامعة.
ومع تكرار روسيا والصين استخدام «الفيتو» داخل الأمم المتحدة، وتصاعد القمع ضد المدنيين، أغلقت الولايات المتحدة سفارتها في دمشق خلال الأسبوع الأول من فبراير (شباط) 2012. ويوم 16 فبراير التقى الأمين العام السابق للمنظمة الدولية كوفي أنان الذي بات موفداً خاصاً لجامعة الدول العربية والأمم المتحدة بممثلي النظام والمعارضة السوريين في تركيا وبحث معهم إنهاء العنف وإطلاق المحتجزين والمسجونين. وفي أبريل (نيسان) عقد اجتماع في إسطنبول بتركيا لمجموعة «أصدقاء سوريا» اعترفت فيه رسمياً بـ«المجلس الوطني السوري» ممثلاً شرعياً للشعب السوري.
غير أنه وسط تفاقم العنف، أعلن أنان تنحيه عن مهمته، كما انشق رئيس الوزراء السوري رياض حجاب وانضم للمعارضة، التي عجلت من إجراءات تنظيم مؤسساتها وتجمعاتها بالتوازي مع تصاعد القتال وحدة الانقسام الدولي. ويوم 26 سبتمبر (أيلول) أعلن وزير الدفاع الأميركي تشاك هيغل أن لدى واشنطن دلائل على استخدام النظام أسلحة كيماوية ضد المناطق المدنية، وفي الشهر التالي زار السيناتور الجمهوري البارز جون ماكين مناطق سيطرة المعارضة داخل سوريا. ثم في شهر يونيو (حزيران) أعلن الرئيس الأميركي باراك أوباما أن نظام الأسد «تجاوز الخطوط الحمراء» في استخدامه السلاح الكيماوي ضد خصومه الذين كانوا يناشدون واشنطن دعمهم بالسلاح لمواجهة الدعم الروسي للنظام، ناهيك من تدخل الميليشيات التابعة لإيران في القتال بجانب قوات النظام. غير أن بيان «الخطوط الحمراء» لم يعقبه أي إجراء فعال من قبل إدارة أوباما، ومع هذا الموقف... تصاعدت ثقة القوى الداعمة للنظام بأن واشنطن لن تفعل شيئا مؤثراً على الأرض لدعم المعارضة.

آستانة بديلاً لجنيف

نتيجة تراجع واشنطن عن معاقبة النظام، في أعقاب رفض البرلمان البريطاني تأييد لندن التدخل العسكري ضد الأسد، شجعت موسكو على تعزيز الجسر الجوي التسليحي لقوات النظام والعمل سياسيا على نسف «مسار جنيف» الداعي ضمن ما دعا إليه إلى «مرحلة انتقالية» بعد تغيير السلطة في دمشق. والحقيقة أن موسكو رفضت أصلاً كل مُخرجات جنيف، لكن إحجام واشنطن عن اعتماد الحسم، دفع الروس للاستعاضة عن «مسار جنيف» بمبادراتها الخاصة التي تجسدت في مسارين بديلين هما «مفاوضات آستانة» بشراكة إيرانية - تركية ثم «مفاوضات سوتشي».
ومع إعلان الولايات المتحدة، مجدداً، أن هدفها إزاء سوريا بات التصدي لخطر إرهابيي «داعش» الذين ظهروا فجأة في الساحة السورية وتمددوا ودمروا وجعلوا من مدينة الرقة لفترة من الزمن عاصمة لهم، صعدت موسكو من حضورها العسكري، فبات في خريف 2015 حضوراً مباشرا ثم مشاركة فعلية في القتال... أيضاً بحجة قتال «الجماعات الإرهابية المتطرفة». وعام 2016 ساعد الروس قوات النظام على السيطرة على مدينة حلب، وبعد ذلك أكملوا دعمه للسيطرة على كامل منطقتي الغوطة ووادي بردى.


مقالات ذات صلة

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

حصاد الأسبوع Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

سطرت نيتومبو ناندي ندايتواه، 72 عاماً، اسمها في التاريخ بوصفها أول امرأة تتولى رئاسة ناميبيا منذ استقلال البلاد عام 1990، بعدما حصدت 57 في المائة من الأصوات في

فتحية الدخاخني ( القاهرة)
رياضة سعودية السعودية تستمر في تشكيل خريطة مختلف الرياضات العالمية بتنظيم واستضافات غير مسبوقة (الشرق الأوسط)

السعودية ستُشكل خريطة الرياضة العالمية في 2025

شارف عام حافل بالأحداث الرياضية بما في ذلك الألعاب الأولمبية التي حظيت بإشادة واسعة وأربع بطولات قارية لكرة القدم على الانتهاء ومن المتوقع أن يكون عام 2025 أقل.

«الشرق الأوسط» (لندن)
حصاد الأسبوع فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية بقيادة ميشال بارنييه في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)،

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع خافيير ميلي (أ.ب)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار

شوقي الريّس (مدريد)

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.