غير بيدرسن ابن الواقعية السياسية... ينجز جزئياً وينتظره الكثير

عدته «خريطة طريق» مرسومة في القرار 2254 وبيان جنيف وأمامه حفر عميقة

غير بيدرسن ابن الواقعية السياسية... ينجز جزئياً وينتظره الكثير
TT

غير بيدرسن ابن الواقعية السياسية... ينجز جزئياً وينتظره الكثير

غير بيدرسن ابن الواقعية السياسية... ينجز جزئياً وينتظره الكثير

يأمل كثيرون أن يكون الدبلوماسي النرويجي غير بيدرسن آخر مسؤول أممي يتولى شأن التفاوض من أجل خروج سوريا من محنتها المتطاولة، وأن تسفر الجهود الدولية عن نهاية للعنف، وإعادة المهجرين، والتفاهم على حل سياسي بعد ثماني سنوات من القتل والتهجير والانهيار الاقتصادي ناهيك من مختلف أنواع التدخل العسكري الأجنبي، المباشر وغير المباشر. وكانت الخطوات الأخيرة التي وافق عليها النظام وفريق «الائتلاف» الذي يمثل طيفاً من أطياف المعارضة السورية تتعلق بإنشاء لجنة دستورية مهمتها التفاوض على إقرار دستور جديد للبلاد.

أحدث المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سوريا غير بيدرسن، منذ تعيينه في هذا المنصب، فرقاً واضحاً في طريقة التعامل مع واحدة أصعب الأزمات التي تعصف في الشرق الأوسط والعالم. وهو أنجز أخيراً جزءاً من المهمة التي خنقت الجهود الدبلوماسية لسلفه السياسي السويدي - الإيطالي ستافان دي ميستورا واستعصت على من سبقه المخضرم الجزائري الأخضر الإبراهيمي، وخذلت أولاً الأمين العام للمنظمة الدولية الراحل كوفي أنان. غير أن الطريق لا تزال طويلة الآن أمام هذا الدبلوماسي النرويجي بعد إعلان الاتفاق على تشكيل اللجنة الدستورية، استناداً دائماً إلى القرار 2254.
استفادة من دروس التاريخ
لقد استفاد بيدرسن من دروس التاريخ في الواقعية السياسية وانطلق من واقع يتغيّر على الأرض.
تحرك وفقاً لـ«عدة الشغل» المتوافرة لديه، وأبرزها القرار الذي رسم ملامح «خريطة الطريق» الواجب اتباعها لإيجاد تسوية للحرب الطاحنة المتواصلة منذ نحو ثماني سنوات، فضلاً عن بقية القرارات الدولية ذات الصلة، من دون أن ننسى طبعاً «بيان جنيف 1» لعام 2012.
بيدرسن يدرك أن الحفر كثيرة وبعضها عميق للغاية بين الأطراف المعنية. وهو يتحرك بين الأطراف المتنازعة التي هي: داخلياً، حكومة النظام السوري، وأطراف المعارضة على مختلف مشاربها المشتتة هنا وهناك... تتماهى معها أو فيها جماعات مصنفة إرهابية في لوائح الأمم المتحدة جزء منها جاء من خارج الحدود.
وخارجياً، هناك جيوش لدول كبرى على الأرض، بعضها من وحدات الجيش الأحمر الروسي وبعضها الآخر من القوات الأميركية التي تقود تحالفاً دولياً لمحاربة الجماعات الإرهابية على امتداد العراق وسوريا. وأيضا هناك، كما بات القاصي والداني يعرف جيداً، تشارك القوات الإيرانية من «الحرس الثوري» ومن ميليشيات تابعة له مثل «حزب الله» اللبناني و«العصائب» العراقية وغيرها، في المقتلة السورية الدامية.
وفي مكان ما، بل وفوق أمكنة عديدة، تمارس إسرائيل، على عادتها ومن دون إذن، حق «التبختر العسكري» في أجواء سوريا وعند مرتفعات الجولان المحتل، وربما أبعد. وأخيراً، وليس آخراً، تضخم قرص «الجارة الشمالية» تركيا في «عرس» الموت السوري لتسيطر عملياً على المزيد من الأراضي في هذا البلد العربي.

ظروف بالغة الاستثنائية

يعمل بيدرسن تحت ظروف بالغة الاستثنائية، إذاً. إلا أنه يعرف أيضاً كيف ذاق الشعب السوري مرارات كثيرة... ذلك الذي أرغمه نظام البعث بقيادة آل الأسد على تجرّع سموم القهر والاضطهاد، ثم عمل على «سحق» الثورة الشعبية التي قامت ضده وبدأت سلمية اعتراضية في مدينة درعا بأقصى الجنوب السوري. لقد قتل، بحسب تقديرات المنظمات الدولية أكثر من نصف مليون من السوريين خلال السنوات الثماني الماضية، بينما تصل الحصيلة وفق تقارير غير رسمية إلى نحو مليون. كذلك لجأ الملايين إلى دول الجوار. تحوّلت مدن عامرة، مثل حلب وحمص، إلى خرائب عششت فيها الجماعات الإرهابية التي ولدت في الداخل على أيدي إرهابيين أجانب. وبالتالي، تحوّلت سوريا أرضاً خصبة لـ«حروب الآخرين» - تماماً مثلما حصل في لبنان من منتصف السبعينات إلى نهاية الثمانينات من القرن الماضي، ولكن بأضعاف مضاعفة.

«اللجنة الدستورية»... وغيرها

يعمل غير بيدرسن على جبهات عدة في محاولة لتسيير عجلة لا بد منها من أجل إنهاء الحرب. وبالإضافة إلى «اللجنة الدستورية»، التي يرتقب أن تعقد أول اجتماعاتها في نهاية شهر أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، سيسعى المبعوث الدولي إلى تحريك ملف السجناء والمفقودين والمخطوفين، أملاً في بدء بناء أجواء من الثقة بين أطراف الحرب محلياً.
ومن المتوقع، أن يستفيد الدبلوماسي النرويجي المجرّب من عمله سابقاً كممثل خاص للأمم المتحدة في جنوب لبنان بدءاً من عام 2005. وللعلم، قبل ذلك كان بيدرسن مدير قسم منطقة آسيا والمحيط الهادئ في دائرة الشؤون السياسية لدى المنظمة الدولية. وبهذه الصفة، عمل على ملفي عملية السلام في الشرق الأوسط والعراق.
أيضاً سيكون بمقدر الموفد الأممي الجديد التعويل أيضاً على خدمته بين عامي 1998 و2003 كممثل لبلاده لدى السلطة الفلسطينية. وهو، بالمناسبة، تولّى بين عامي 1995 و1998 مناصب عدة في وزارة الخارجية النرويجية في أوسلو، منها منصب كبير الموظفين في الوزارة. كما تجدر الإشارة إلى أنه عمل كدبلوماسي أيضاً في كل من الصين وألمانيا. وفي العام 1993، كان عضواً في الفريق النرويجي خلال «محادثات أوسلو» السريّة التي أدت إلى توقيع «إعلان المبادئ» والاعتراف المتبادل بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل. ثم إنه كان بين عامي 1993 و1995 مديراً للمعهد النرويجي للعلوم الاجتماعية التطبيقية، مركزاً على مسوح الظروف المعيشية في آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط وأوروبا.

بطاقة هوية

ولد غير أوتو بيدرسن في العاصمة النرويجية أوسلو، يوم 28 سبتمبر (أيلول) من عام 1955، أي أن عمره اليوم 64 سنة. ولقد تلقى تعليمه فيها، وهو يحمل درجة الماجستير في التاريخ. أما على الصعيد العائلي، فهو متزوج وأب لخمسة أولاد.
بدأ العمل في وزارة الخارجية النرويجية عام 1985، ورقي عام 1997 ليصبح رئيس دائرة في الوزارة. وهو اليوم يسير على خطى عدد كبير من الدبلوماسيين الذين عملوا في مهام مختلف مع منظمة الأمم المتحدة، مع الإشارة إلى أن الأمين العام الأول للمنظمة كان النرويجي تريغفي لي (1896 - 1968)، الذي تولى منصب الأمانة العامة بين 1946 و1952 عندما خلفه دبلوماسي اسكندنافي آخر هو داغ همرشولد.

تعيينه للمهمة الحالية

يوم 31 أكتوبر (تشرين الأول) 2018، أعلن أنطونيو غوتيريش، أمين عام الأمم المتحدة عن قرار تعيين بيدرسن، موفداً خاصاً له وللمنظمة الدولية وجامعة الدول العربية لمعالجة الأزمة السورية، وذلك خلفاً للدبلوماسي الإيطالي – السويدي ستافان دي ميستورا الذي كان قد تولى المهمة في يوليو (تموز) 2014. وبالفعل، حصل التسلم والتسليم بين الرجلين في مطلع العام الحالي، وبذا ورث بيدرسن عبئاً ثقيلاً لم ولا يخفف منه فشل المنظمة الدولية، أولاً في وقف القتال في سوريا، وثانياً في فرض تسوية حقيقية مبنية على مخرجات مفاوضات جنيف الأولى عام 2012. ثم مفاوضات جنيف الثانية عام 2014، وهي ما عُرف لاحقاً بـ«مسار جنيف».
التطورات والمبادرات والتصعيد
«مسار جنيف» الذي ارتبط بمساعي كل من جامعة الدول العربية ومنظمة الأمم المتحدة أبصر النور كجملة من المبادرات والخطط الهادفة إلى تسوية النزاع الذي تفاقم بعد الانتفاضة الشعبية على نظام الرئيس بشار الأسد في مارس (آذار) 2011 في سياق الانتفاضات المشابهة التي شهدتها كل من تونس ومصر واليمن وليبيا. وكان واضحاً من البداية، ولا سيما، بعدما اختار النظام سلاح القوة المفرطة مواجهة الانتفاضة التي بدأت في مدينة درعا بمنطقة حوران في أقصى الجنوب السوري.
استمر القمع الممنهج، واتسع مع اتساع رقعة الاحتجاجات التي تحولت إلى انتفاضة مسلحة بعد انشقاق عناصر من الجيش السوري وتوافد متطوعين ومسلحين من خارج سوريا للمشاركة في المواجهات، منضمة إلى الفريقين... أي قوات النظام وقوى الانتفاضة – أو الثورة – ومعها المنشقون عن الجيش، الذين أسسوا في حينه «الجيش السوري الحر».
الولايات المتحدة باشرت بفرض عقوبات على النظام ثم جمدت أرصدة الحكومة، في حين وقفت روسيا مع الأسد منذ البداية، معتبرة أن ما تشهده مؤامرة تنفذها جماعات إرهابية. وتجسد الموقف الروسي الداعم للنظام عملياً لأول مرة عندما استخدمت روسيا ومعها الصين حق النقض «الفيتو» في مجلس الأمن الدولي ضد مشروع قرار يطالب النظام بالوقف الفوري لأعمال القمع المسلح. وتكررت الفيتوهات الروسية والصينية لاحقاً دعماً للقمع، ثم تصعيد القمع. أما على الصعيد العربي فقد اتخذت جامعة الدول العربية في نوفمبر (تشرين الثاني) 2011 قراراً بتعليق عضوية سوريا في الجامعة.
ومع تكرار روسيا والصين استخدام «الفيتو» داخل الأمم المتحدة، وتصاعد القمع ضد المدنيين، أغلقت الولايات المتحدة سفارتها في دمشق خلال الأسبوع الأول من فبراير (شباط) 2012. ويوم 16 فبراير التقى الأمين العام السابق للمنظمة الدولية كوفي أنان الذي بات موفداً خاصاً لجامعة الدول العربية والأمم المتحدة بممثلي النظام والمعارضة السوريين في تركيا وبحث معهم إنهاء العنف وإطلاق المحتجزين والمسجونين. وفي أبريل (نيسان) عقد اجتماع في إسطنبول بتركيا لمجموعة «أصدقاء سوريا» اعترفت فيه رسمياً بـ«المجلس الوطني السوري» ممثلاً شرعياً للشعب السوري.
غير أنه وسط تفاقم العنف، أعلن أنان تنحيه عن مهمته، كما انشق رئيس الوزراء السوري رياض حجاب وانضم للمعارضة، التي عجلت من إجراءات تنظيم مؤسساتها وتجمعاتها بالتوازي مع تصاعد القتال وحدة الانقسام الدولي. ويوم 26 سبتمبر (أيلول) أعلن وزير الدفاع الأميركي تشاك هيغل أن لدى واشنطن دلائل على استخدام النظام أسلحة كيماوية ضد المناطق المدنية، وفي الشهر التالي زار السيناتور الجمهوري البارز جون ماكين مناطق سيطرة المعارضة داخل سوريا. ثم في شهر يونيو (حزيران) أعلن الرئيس الأميركي باراك أوباما أن نظام الأسد «تجاوز الخطوط الحمراء» في استخدامه السلاح الكيماوي ضد خصومه الذين كانوا يناشدون واشنطن دعمهم بالسلاح لمواجهة الدعم الروسي للنظام، ناهيك من تدخل الميليشيات التابعة لإيران في القتال بجانب قوات النظام. غير أن بيان «الخطوط الحمراء» لم يعقبه أي إجراء فعال من قبل إدارة أوباما، ومع هذا الموقف... تصاعدت ثقة القوى الداعمة للنظام بأن واشنطن لن تفعل شيئا مؤثراً على الأرض لدعم المعارضة.

آستانة بديلاً لجنيف

نتيجة تراجع واشنطن عن معاقبة النظام، في أعقاب رفض البرلمان البريطاني تأييد لندن التدخل العسكري ضد الأسد، شجعت موسكو على تعزيز الجسر الجوي التسليحي لقوات النظام والعمل سياسيا على نسف «مسار جنيف» الداعي ضمن ما دعا إليه إلى «مرحلة انتقالية» بعد تغيير السلطة في دمشق. والحقيقة أن موسكو رفضت أصلاً كل مُخرجات جنيف، لكن إحجام واشنطن عن اعتماد الحسم، دفع الروس للاستعاضة عن «مسار جنيف» بمبادراتها الخاصة التي تجسدت في مسارين بديلين هما «مفاوضات آستانة» بشراكة إيرانية - تركية ثم «مفاوضات سوتشي».
ومع إعلان الولايات المتحدة، مجدداً، أن هدفها إزاء سوريا بات التصدي لخطر إرهابيي «داعش» الذين ظهروا فجأة في الساحة السورية وتمددوا ودمروا وجعلوا من مدينة الرقة لفترة من الزمن عاصمة لهم، صعدت موسكو من حضورها العسكري، فبات في خريف 2015 حضوراً مباشرا ثم مشاركة فعلية في القتال... أيضاً بحجة قتال «الجماعات الإرهابية المتطرفة». وعام 2016 ساعد الروس قوات النظام على السيطرة على مدينة حلب، وبعد ذلك أكملوا دعمه للسيطرة على كامل منطقتي الغوطة ووادي بردى.


مقالات ذات صلة

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

حصاد الأسبوع Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

سطرت نيتومبو ناندي ندايتواه، 72 عاماً، اسمها في التاريخ بوصفها أول امرأة تتولى رئاسة ناميبيا منذ استقلال البلاد عام 1990، بعدما حصدت 57 في المائة من الأصوات في

فتحية الدخاخني ( القاهرة)
رياضة سعودية السعودية تستمر في تشكيل خريطة مختلف الرياضات العالمية بتنظيم واستضافات غير مسبوقة (الشرق الأوسط)

السعودية ستُشكل خريطة الرياضة العالمية في 2025

شارف عام حافل بالأحداث الرياضية بما في ذلك الألعاب الأولمبية التي حظيت بإشادة واسعة وأربع بطولات قارية لكرة القدم على الانتهاء ومن المتوقع أن يكون عام 2025 أقل.

«الشرق الأوسط» (لندن)
حصاد الأسبوع فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية بقيادة ميشال بارنييه في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)،

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع خافيير ميلي (أ.ب)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار

شوقي الريّس (مدريد)

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».