أوكرانيا.. صعوبات السلام

بعد أن وضعت الحرب أوزارها.. على السياسيين معالجة الاختلافات العرقية والدينية والتداخلات الخارجية

أوكرانيا.. صعوبات السلام
TT

أوكرانيا.. صعوبات السلام

أوكرانيا.. صعوبات السلام

الأزمة الأوكرانية معقدة متشابكة يكتنف الغموض عددا من جوانبها، والأسباب متباينة، بقدر تباين طبيعة ديموغرافية أوكرانيا وجغرافيتها وكذلك تاريخ الدولة والمنطقة. وعلى الرغم من كل الجهود الرامية إلى تسوية الخلافات القائمة، فإن الهوة لا تزال واسعة تفصلها عن السلام المنشود الذي يظل مرهونا بأمور تبقى في معظمها خارج إرادة الداخل الأوكراني.
بعيدا عن تعرجات التاريخ، ومنها ما يتعلق بأن القديم منه لا يعرف وجودا لدولة أوكرانية، بل وعلى العكس يكشف عن أن كييف العاصمة الحالية للدولة الأوكرانية المعاصرة كانت مركزا للدولة الروسية القديمة تحت اسم «روسيا الكييفية»، يمكن القول إن التركيبة السكانية الحديثة لأوكرانيا تحمل في طياتها بذور شقاق ثمة من يعتبره حجر عثرة يحول دون سرعة تحقيق الاستقرار والسلام في الفترة القريبة المقبلة.
والشقاق هنا يتعلق بتباين الطبيعة الديموغرافية للدولة الأوكرانية في شرقها وغربها، وتعدد الانتماءات العرقية لسكانها من الأوكرانيين والروس والبولنديين والمجريين وغيرهم من القوميات، إلى جانب الانتماءات الدينية، حيث الأرثوذكسية شرقا والكاثوليكية غربا، والتي يضاف إليها اليوم العنصر الخارجي الذي يتمثل في مخططات واشنطن التوسعية.
ورغم أن الاتحاد السوفياتي كان من أهم العوامل التي ساهمت في تذويب الفوارق والانتماءات، وحقق لها الكثير من المكاسب والتوسعات شرقا من خلال ضم شبه جزيرة القرم وأراض شاسعة في جنوب شرقي أوكرانيا، وغربا من خلال ضم أراض شاسعة كانت تابعة لبولندا والمجر ورومانيا، فقد كانت أوكرانيا ولسخرية القدر أيضا من أهم معاول انهياره بعد أن وقع رئيسها الأسبق ليونيد كرافتشوك مع نظيره الروسي بوريس يلتسين والبيلاروسي فياتشيسلاف كرافتشوك وثيقة «بيلوفجسكايا بوشا» في 8 ديسمبر (كانون الأول) 1991 حول إعلان إنهاء الدولة الاتحادية.
وقد جاءت الأزمة الأوكرانية، بكل تفاصيلها التي تناولتها «الشرق الأوسط» في أكثر من تقرير على مدار العام، لتكشف عما سبق وأعلنته الولايات المتحدة من مخططات تستهدف فرض هيمنتها ليس فقط على أوكرانيا، بل وعلى كل المناطق الواقعة على مقربة مباشرة من الدولة الروسية منذ تسعينات القرن الماضي، وهو ما لم تكن موسكو بغافلة عنه. ولذا فإنها تظل في صدارة أصحاب المصلحة المباشرة في العثور على الحلول المناسبة للخروج من الأزمة الراهنة، وإنهاء الاقتتال الدائر على تخوم حدودها الجنوبية، ليس فقط من أجل إنقاذ أوكرانيا ووحدة أراضيها، بل وكذلك المنطقة والعالم ومعهما الشرعية الدولية ومبادئ الأمم المتحدة، وهو ما استطاع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وبالتعاون مع نظيره الأوكراني بيترو بوروشينكو التمهيد له من خلال خطة سلام، سباعية النقاط طرحها بوتين وقَبِلَها بوروشينكو مع بعض التعديلات الطفيفة. وكان بوتين أكد أكثر من مرة أن هناك من صنع الأزمة الأوكرانية لخدمة مآرب ذاتية، ويحاول تأجيج نيرانها تصفية لحسابات جديدة وتنفيذ مخططات قديمة، في إشارة لا تخلو من مغزى إلى الولايات المتحدة التي طالما كشفت عن مطامعها في المنطقة منذ تسعينات القرن الماضي، فيما عادت لتشعل نيران «الثورات الملونة» التي اجتاحت المناطق المجاورة لروسيا في جورجيا وأوكرانيا وقرغيزيا خلال السنوات الخمس الأولى من القرن الحالي.
ولذا لم يكن غريبا أن يعلن سيرغي لافروف وزير الخارجية الروسية من على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الأخيرة أن «كييف وقعت ضحية لسياسات الغرب»، وإن حرص على إبداء حسن النوايا والتفاؤل حين قال إنه «لا تزال هناك فرصة لحل الأزمة الأوكرانية سلميا من خلال ما جرى التوصل إليه من اتفاقات». لكن وزير الخارجية الروسية بدا أكثر صراحة حين أشار إلى حقيقة ما يضمره الغرب من دسائس، ويحيكه من مخططات تعتمد على الانقلابات سبيلا إلى تحقيق ما تضمره من «نوايا شريرة». وقال لافروف: «إن الوقت قد حان للتخلي عن محاولات الضغط غير المشروع من جانب دول بعينها على الدول الأخرى».
وأضاف أن «الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أيدا الانقلاب في أوكرانيا، وبررا كل ما قامت به السلطة الأوكرانية الجديدة المعلنة من جانب واحد في كييف من قمع وتعسف وانتهاك لحقوق بعض طوائف الشعب الأوكراني. وكان هؤلاء الأوكرانيون يرفضون محاولات فرض نظام غير دستوري في البلاد، ويريدون الدفاع عن حقهم في لغتهم الأم وثقافاتهم وتاريخهم». فيما خلص الوزير الروسي إلى «ضرورة أن تتبنى الأمم المتحدة بيانا ترفض فيه التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وعدم الاعتراف بالانقلابات كوسيلة لتغيير السلطة».
ولم يكن خافيا على أحد أن الولايات المتحدة تقف وراء كل القلاقل والاضطرابات التي تموج بها كثير من مناطق العالم، وفي مقدمتها اليوم بلدان الفضاء السوفياتي السابق وما يجاورها من مناطق وفي مقدمتها الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. كما يدرك أبعاد المخططات الغربية كثير من صانعي القرار في الكرملين والأوساط السياسية الروسية ومنهم يفجيني بريماكوف وزير الخارجية ورئيس الحكومة الروسية الأسبق، الذي قال في حديث إلى التلفزيون الروسي يوم السبت الماضي: «إن روسيا كان يمكن أن تقدم خدمة جليلة إلى الولايات المتحدة لو كانت تدخلت في النزاع الجاري في جنوب شرقي أوكرانيا». وأضاف بريماكوف ضرورة الاعتراف بأن الولايات المتحدة نجحت عمليا في إخضاع أوروبا واستمالتها إلى كثير من مخططاتها بما في ذلك في أوكرانيا.
وأشار إلى أن أوروبا كان من الممكن أن ترزح تحت وطأة النفوذ الأميركي لما يزيد على مائة عام لو كانت روسيا أخطأت ودفعت بقواتها إلى أوكرانيا. ونذكر بهذا الصدد أن مجلس الاتحاد كان أقر مرسوم السماح للرئيس بوتين باستخدام القوات المسلحة خارج الحدود الروسية في مطلع مارس (آذار) الماضي وهو ما كان يعني الإذن له بإعلان قرار الحرب! على أن المجلس الفيدرالي الروسي سرعان ما أعلن عن إلغاء قراره بعد أن استجاب الرئيس الأوكراني بوروشينكو وأعلن عن سحب قواته المسلحة من جنوب شرقي أوكرانيا لمدة أسبوع.
وذلك كله يعني أن روسيا لم تكن بعيدة عن متابعة ما يدور على مقربة من حدودها بالكثير من الاهتمام الذي بلغ حد التدخل غير المباشر، من خلال متطوعيها الذين تقاطروا عبر الحدود المشتركة للالتحاق بفصائل الحرس الشعبي في مقاطعتي لوغانسك ودونيتسك اللتين أعلنتا انفصالهما من جانب واحد عن أوكرانيا، وهو ما كان في مقدمة الأسباب التي استندت إليها واشنطن وبلدان الاتحاد الأوروبي لفرض العقوبات الاقتصادية والسياسية.
وبغض النظر عن نتائج هذه العقوبات، فإن موسكو لم تتوقف عن محاولاتها من أجل احتواء الموقف، وتحقيق أكبر قدر من المكاسب بعد إعلانها عن الاستجابة لطلب سكان شبه جزيرة القرم حول العودة إلى الوطن الأم بعد غياب طال لما يقرب من 60 عاما وهو ما أشرنا إليه في أكثر من تقرير من موسكو. وقد كشفت تطورات الأحداث في أوكرانيا وما حولها عن أن كييف لا تملك قرارها، وأن الأمور تُدار من أروقة السياسة فيما وراء المحيط. كما أن الجدل الذي كان ولا يزال يحتدم بين ممثلي مختلف الأوساط السياسية الأوكرانية، يؤكد أن الخلافات الداخلية تظل أعمق مما يتصور كثير من المراقبين، وثمة من يتوقع أن تعصف بالكثير من مساحات الاتفاق المرحلي الذي كانت فصائل الساحة السياسية الأوكرانية توصلت إليه حين نجحت في الإطاحة بالرئيس فيكتور يانوكوفيتش في فبراير (شباط) الماضي.
من هذا المنظور يتوقع كثير من المراقبين ومنهم سيرغي ماركوف مدير معهد الدراسات الاستراتيجية في موسكو الذي قال في تصريحاته لـ«الشرق الأوسط» إن الفترة القريبة المقبلة لا بد أن تشهد انفراط عقد هذه الأوساط واحتدام الخلافات التي من المتوقع أن تنعكس نتائجها السلبية على مجمل الأوضاع في الداخل الأوكراني. وأضاف ماركوف أن «أوكرانيا نفسها تظل معرضة للزوال ولا أحد يمكن أن يصدق ما يقوله زعماؤها حول مستقبل لدولة أوكرانية». وأشار إلى ما قاله الرئيس بوروشينكو في مؤتمره الصحافي الأخير حول الانتخابات البرلمانية في أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، مؤكدا أن هذه الانتخابات بالذات لا بد أن تكشف كثيرا من خلافاته مع رئيس حكومته ارسيني ياتسينيوك ورئيس البرلمان الحالي ألكسندر تورتشينوف، ومعهما ارسين اوفاكوف وزير الداخلية متعهد طواغيت المال ممن يمولون كل العمليات القتالية في جنوب شرقي أوكرانيا. وإذا أضفنا إلى كل ذلك، الخلافات التي تتصاعد الآن مع ممثلي الجبهة الشعبية التي تشكلت من حزب باتكفشينا (الوطن) بزعامة «أميرة الثورة البرتقالية» يوليا تيموشينكو وكذلك رموز الأحزاب القومية المتشددة ومنها أوليج تياجنيبوك زعيم حزب سفوبودا (الحرية)، وديمتري ياروش زعيم حركة «القطاع الأيمن»، ممن يتزعمون محاولات إرغام الرئيس بوروشينكو على التراجع عن قرار حول منح الحكم الذاتي للانفصاليين في إطار الدولة الأوكرانية، فإننا سنكون أمام صورة بالغة القتامة تنذر بصراعات يمكن أن تقوض ما تحقق من استقرار هش، بعد توقيع اتفاقات مينسك حول وقف إطلاق النار والتحرك صوب التسوية السياسية مع جنوب شرقي أوكرانيا. وبهذه المناسبة قال ماركوف أيضا إن بوروشينكو يحاول الحديث مع كل من الأطراف المعنية باللغة التي تتسق مع توجهاته، وهو ما لا بد أن يسفر في نهاية المطاف عن انفجار الخلافات، ومنها ما يتعلق بما قد ينجم عن محاولة تطبيق ما أعلنه حول «التطهير السياسي» و«مكافحة الفساد». وبهذه المناسبة يبدو ما يشبه الإجماع حول صعوبة تطبيق قانون «التطهير الحكومي» وإبعاد كل من كان يعمل مع النظام السابق، نظرا لأن الجميع تقريبا خرجوا من معطف هذا النظام وفي مقدمتهم الرئيس بوروشينكو ورئيس حكومته ياتسينيوك. وكان الجدل قد اشتعل في أوكرانيا حول احتمالات تطبيق قانون التطهير في المؤسسات الحكومية الذي أعلن عنه بوروشينكو في مؤتمره الصحافي من منظور أنه يجب أن يشمل كثيرا من العاملين في الرئاسة والحكومة منذ تسعينات القرن الماضي. وفي تصريحاته إلى «الشرق الأوسط» انتقد سيرغي ماركوف عضو مجلس الدوما السابق ومدير معهد الدراسات الاستراتيجية ما طرحه بوروشينكو تحت عنوان «استراتيجية 2020» التي تستهدف صياغة عقد اجتماعي جديد بين المجتمع والسلطة ورجال الأعمال. وقال إن الخلافات حول التهدئة التي أعلنها بوروشينكو ستعصف بكثير من أركان هذه الاستراتيجية، مما قد يسفر عن الحاجة إلى انتخابات رئاسية جديدة. وبهذه المناسبة لم يستبعد الرئيس الأوكراني في مؤتمره الصحافي احتمالات خروج الجماهير إلى الشارع في مظاهرات جديدة قال إنه يأمل أن تكون «إيجابية» مؤيدة لتوجهاته، وهو ما يكتنفه غموض كثير. على أن هناك من المؤشرات ما يقول أيضا إن الانتخابات البرلمانية المقبلة تحمل في طياتها كثيرا من مقدمات الفرقة والتي تمثلها الشعارات المتطرفة التي يرفعها خصوم الرئيس بوروشينكو من رفاق الماضي في حزب باتكفشينا وفصائل القوميين المتطرفين ممن وقفوا إلى جواره إبان رحلة الانقلاب على الرئيس السابق يانوكوفيتش. ومن اللافت أن هذه الشعارات تنادي بإلغاء ما اتخذه بوروشينكو من قرارات تستهدف تحقيق التهدئة ووقف إطلاق النار في جنوب شرقي أوكرانيا والاستجابة لبعض طموحات سكان هذه المناطق في الحكم الذاتي واستخدام اللغة القومية.
وكان الرئيس السوفياتي السابق ميخائيل غورباتشوف أعرب أيضا عن مخاوفه من احتمالات اشتعال «حرب باردة جديدة» في الوقت الذي يتابع العالم الكثير من فصولها. وأعاد غورباتشوف إلى الأذهان ما فعله الغرب معه حين خدعه بوعود كانت تقضي بعدم تقدم الناتو إلى أبعد من الحدود الشرقية لألمانيا الغربية، مما يؤكد الحذر والحرص تجاه كل ما تقوله الولايات المتحدة على حد قوله.
وقد أصاب فرانك شتاينماير وزير خارجية ألمانيا حين قال صراحة إن «الحل السياسي للأزمة الأوكرانية لا يزال وشأنه في السابق بعيد المنال، ولا أوهام تراودنا حول ذلك». ويذكر الجميع أن الأوضاع كانت حتى الأمس القريب قاب قوسين أو أدنى من اندلاع حرب «ضروس» ثمة من كان يتوق شوقا لأن تنجرف إليها روسيا المجاورة، كما سبق وأشار يفجيني بريماكوف. لكن موسكو وبدلا من أن تقدم على ارتكاب «خطأ العمر»، نجحت في نزع فتيل المواجهة بما قدمته من أفكار التف حولها وزراء خارجية روسيا وألمانيا وفرنسا والاتحاد الأوروبي في برلين، وبما سمح لاحقا ببدء اجتماعات مجموعة الاتصال الثلاثية في مينسك في 5 و9 سبتمبر (أيلول) الماضي بمشاركة ممثلي روسيا والاتحاد الأوروبي ممن نجحوا في تقريب مواقف الأطراف المتنازعة من كييف وجنوب شرقي أوكرانيا.
وإذا كان لافروف وزير الخارجية الروسية أعلن صراحة أن «أوكرانيا تبدو ضحية لسياسات الغرب»، فإنه عاد وأشار إليها على نحو أكثر صراحة ووضوحا، حين قال في معرض تعليقه على خطاب الرئيس الأميركي باراك أوباما والذي تضمن تصنيفه لروسيا بوصفها من أهم الأخطار التي تهدد العالم ووضعها في مرتبة سابقة للإرهاب الدولي: «إن هذا الخطاب يعكس رؤية أميركية للعالم شدد فيها مرارا على استثنائيته هو وبلاده.. رؤية بلاد سجلت في عقيدتها للأمن القومي حقها في استخدام القوة حسب هواها، بغض النظر عن القرارات الصادرة عن مجلس الأمن والقوانين الدولية الأخرى»



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.