بنين تستيقظ على خطر الإرهاب

رحلة سفاري في غرب أفريقيا تنتهي بكابوس

تدريب الجنود في حديقة بندجاري الوطنية في شمال بنين لتأمين حدودها  مع بوركينا فاسو بعد تصاعد العمليات الإرهابية (نيويورك تايمز)
تدريب الجنود في حديقة بندجاري الوطنية في شمال بنين لتأمين حدودها مع بوركينا فاسو بعد تصاعد العمليات الإرهابية (نيويورك تايمز)
TT

بنين تستيقظ على خطر الإرهاب

تدريب الجنود في حديقة بندجاري الوطنية في شمال بنين لتأمين حدودها  مع بوركينا فاسو بعد تصاعد العمليات الإرهابية (نيويورك تايمز)
تدريب الجنود في حديقة بندجاري الوطنية في شمال بنين لتأمين حدودها مع بوركينا فاسو بعد تصاعد العمليات الإرهابية (نيويورك تايمز)

كان مرشد رحلات السفاري يعلم كل نبع ماء في متنزه بندجاري الوطني في بنين، لكنه لم يكن يعلم أن الإرهابيين قادرون على الوصول إليه في عقر داره عبر الحدود. لم يكن هناك أي اختلاف واضح بين فياكر غبيدجي، مرشد رحلات السفاري في محمية برية مترامية الأطراف في غرب أفريقيا، وبين السائحين اللذين كان يرشدهما، حيث كان يشهق عندما يرى أي أسد، ويشعر بالإثارة لدى رؤية كل ظبي يقفز بين الشجيرات.
مع ذلك، عندما دخل غبيدجي، هو وسائحان فرنسيان، في قلب المتنزه، قام إرهابيون باختطافهم. وقام الجيش الفرنسي بإنقاذ السائحين بعد 10 أيام، وتم تنظيم مراسم في قلب باريس لتأبين 2 من أفراد القوات الخاصة الفرنسية كان قد تم قتلهما في أثناء تنفيذ المهمة. وفي خضم الاهتمام الدولي بعملية الاختطاف، اختفى غبيدجي، بل لم يأتِ ذكره تقريباً على لسان أحد، فما هو في النهاية سوى «مرشد». لقد قتله المختطفون، وأكلت الحيوانات جثته، على حد قول مسؤولين.
ورغم ذلك، أصبح اسم غبيدجي نذير شؤم في بنين، الدولة الصغيرة الواقعة في غرب أفريقيا بين توغو ونيجيريا، التي بدأت تصبح من وجهات رحلات السفاري، وبات متنزه بندجاري جوهرة البلد تحت مظلة الإدارة الجديدة. ومع ذلك، عرقلت عملية الاختطاف ذلك التقدم، وجذبت الانتباه إلى خطر الإرهاب الذي يقترب من البلاد، بعدما ضرب بوركينا فاسو ودول جوارها. وقد اتجه كل من تنظيم القاعدة وجماعات على صلة بتنظيم داعش إلى بنين، في ظل هروبهم من الهجمات العسكرية على معاقلهم السابقة في مالي والنيجر، بحسب خبراء أمنيين. وقد تمكنوا من تجنيد عناصر، والعثور على ملجأ آمن على أرض المتنزه ذات الأشجار الكثيفة.
وتزايدت اليوم أعداد المرشدين السياحيين الذين يتجولون بين الفنادق الخالية، بعد إلغاء سائحين لرحلاتهم. وتراقب الدوريات العسكرية في بنين اليوم، التي تتجول بين التماسيح وأفراس النهر في بندجاري، الحدود مع بوركينا فاسو. ويبدو أن موت غبيدجي دليل على أن عدم اتخاذ إجراءات فورية ربما يجعل بنين، الدولة الديمقراطية الآمنة إلى حد كبير، عرضة لخطر الإرهاب.
بدأ ذلك اليوم مثل أي يوم آخر في حياة غبيدجي، البالغ من العمر 33 عاماً، بحسب ما قالت أسرته. فبعدما أزاح في الفجر الشبكة الحامية من الناموس المعلقة أعلى سريره الذي يتقاسمه مع زوجته فيرونيكا فارا، البالغة من العمر 29 عاماً، التي تحمل في بطنها طفله الثاني، توجه إلى منزل أمه في الباحة ليلقي التحية عليها، حيث حول منزله الصغير المصنوع من الطين إلى مسكن متطور لعائلته، فقد ساهم تزايد الاهتمام بالمتنزه في زيادة دخل أسرته. وقد منح رئيس البلاد، باتريس تالون، الذي تولى منصبه عام 2016، الأولوية لدعم السياحة. ويعد المتنزه واحداً من 3 متنزهات تمثل مجمعاً يضم 1700 فيل، ويمتد بين بوركينا فاسو والنيجر وبنين.
وقد خصص الرئيس تالون، الذي شبّه أراضي المتنزه غير المستغلة بالنفط غير المستغل، 6 ملايين دولار للمتنزه الذي تبلغ مساحته 1800 ميل مربع. وفي عام 2017، سمح لمؤسسة «أفريكان باركس» في جنوب أفريقيا بإدارة العمل به. وساعد تدفق السائحين غبيدجي في إعالة أطفاله الستة وأمهاتهم الست. وتقول أم غبيدجي، جاستين كوليكبا، البالغة من العمر 63 عاماً: «محبة النساء له هبة من الله». وكان ذلك بعد مرور 3 أسابيع على مقتل ابنها، بينما يجلس حفيدها، بيرا إسيلي، ذو العامين متململاً بين ذراعيها. وقد راودت السيدة كوليكبا أفكار انتحارية منذ وفاة ابنها، لكن ما منعها من تنفيذها، كما تقول، رعاية أحفادها، مضيفة: «لقد أخبرني أنه سيعود قريباً». وكان من المفترض أن يلتقي غبيدجي عملاء له في ذلك اليوم، وهما لوران لاسيمويلا (46 عاماً) وباتريك بيكي (51 عاماً)، معلما الموسيقى الفرنسيان. لم يطلب غبيدجي في ذلك اليوم من أمه تحضير غدائه المفضل، وهو عجينة السبانخ بالذرة، لذا قالت: «لقد مات ومعدته خاوية وجائعاً».
وكان غبيدجي مرشداً معتمداً، إلى جانب تمتعه بخبرة كبيرة في المكان، حيث كان يعرف كل نبع ماء وعرين أسد. كذلك كان يعلم جيداً الأماكن التي لا ينبغي الذهاب إليها، وهي نهر بندجاري في الشمال الذي يفصل بين بنين وبوركينا فاسو. وكان ذلك النهر يمثل خطاً أحمر على الخرائط الرسمية التي وضعتها الحكومتين الفرنسية والأميركية قبل وفاته. وينشط مسلحون أصوليون على الطرف الشمالي، لذا «لا يُنصح» بالقيام بأنشطة سياحية في تلك المنطقة، بحسب وزارة الخارجية الفرنسية. بدأ على ذلك الشاطئ تدفق متمردين هاربين من عمليات الجيش الفرنسي في مالي والنيجر، وهم ينجحون في تجنيد عناصر من خلال استغلال التوترات التي تسود العلاقة بين الرعاة والمزارعين، والصراع على الموارد التي باتت نادرة بسبب التغير المناخي، والإحباط الناتج عن سوء استغلال القوات الحكومية للسلطة.
تجدر الإشارة إلى أن بوركينا فاسو شهدت خلال العام الماضي 137 هجوماً من جانب جماعات إرهابية، بعدما كان عدد الهجمات 12 فقط خلال عام 2016ن بحسب بيانات المركز الأفريقي للدراسات الاستراتيجية. وقالت كورين دوفكا، مديرة غرب أفريقيا في منظمة «هيومان رايتس ووتش»: «التحدي الذي تواجهه الحكومات هو تمكن المتطرفين في كثير من المناطق من تلبية احتياجات الناس الأساسية قريبة المدى، ومنها الاستقرار وسيادة القانون». وكثيراً ما يفرض المسلحون النظام المطلوب، قبل تصعيد وتيرة العنف مع فرض آيديولوجيتهم. وتواجه بنين تحديات مماثلة، حيث لا تتوافر كثير من الخدمات الأساسية، كما يتزايد عدم الاستقرار، فقد أصبح رئيس الدولة، التي مثلت نموذجاً للديمقراطية عام 1991، حين تحولت إلى الحكم الديمقراطي بعد النظام الاشتراكي، أكثر ميلاً للاستبداد. وتحتاج بنين إلى معالجة الأمور التي جعلت الجماعات المتطرفة تكتسب نفوذاً وسطوة في بلدان أخرى، على حد قول دوفكا التي تحذر من زيادة توغل تلك الجماعات في قلب غرب أفريقيا، مما يجعل بنين آخر ملجأ محتمل. وقد توجه المتطرفون نحو الجنوب، إلى المجمع المكون من 3 متنزهات، حيث يوجد طعام ومأوى يحميهم من الرقابة الجوية، على حد قول لوري آن ثيروكس بينوني، مديرة مكتب معهد الدراسات الأمنية في غرب أفريقيا. وقد هاجم الإرهابيون في بوركينا فاسو والنيجر مرشدي غابات، وأجبروا كثيرين على الهروب من ذلك الجزء.
وفي الجزء الموجود في بنين، أعادت إدارة «أفريكان باركس» إحياء متنزه «بندجاري»، لكن أثارت تلك العملية الشعور بالاستياء في بعض الأحيان، خصوصاً عند حظر اصطياد لحم الحيوانات البرية، وهو تقليد محلي، رغم إصدار تصريحات مدفوعة الأجر لصائدي الحيوانات.
وأوضحت ثيروكس أن الإرهابيين «يدركون نقاط الضعف في المجتمع المحلي ويستغلونها». وكان غبيدجي يعمل بعيداً عن نهر بندجاري، ويشعر بالأمان، على حد قول مرشدين سياحيين آخرين. لكن منذ عملية الاختطاف، أصبحت منطقة بندجاري بالكامل منطقة خطر، وملونة بالأحمر على الخرائط الفرنسية والأميركية.
ويقول نويل نابوغو، المرشد الذي يبلغ من العمر 30 عاماً، والذي ينتظر في فندق تاتورا في مدينة ناتيتينغو، حيث ألغى كثير من السائحين رحلاتهم: «نحن ضحايا». وردد قول حكومة بنين التي ذكرت أن ضمّ بندجاري إلى منطقة الخطر أمر غير مبرر، وأوضح قائلاً: «إذا تخلينا عن المتنزه اليوم بسبب انعدام الأمن، لن يتم فتحه مرة أخرى، وسيستقر المتطرفون به؛ سوف يعدون ذلك المتنزه أرضاً مشاعاً لا صاحب لها، ويستخدمونها كقاعدة لهم».
وقد تمكنت القوات الخاصة الفرنسية من إقامة كمين للمختطفين في بوركينا فاسو تحت جنح الليل، وتمكن أفراد القوات الخاصة من قتل 4 من العناصر الإرهابية المسلحة، في حين تمكن 2 من الهرب. ولكن راح ضحية تلك العملية من جانب القوات الفرنسية سيدريك دي بيربونت (32 عاماً) وألين بيرتونسيلو (27 عاماً). وتم إنقاذ السائحين الفرنسيين ورهينتين آخرين. وكان المختطفون يقتادون رهائن إلى خلايا إرهابية في مالي، بحسب الجيش الفرنسي.
وكان قد تم قتل غبيدجي قبل أيام من مهمة الإنقاذ مايو الماضي، وتم العثور على جثته في بوركينا فاسو، بحسب ما ذكر مارسيل باغلو، المدير العام لجهاز الأمن الداخلي في بنين. ولم يتبقِ من جثمان غبيدجي سوى جمجمته، وبعض قطع من عظامه وملابسه. وتم التعرف عليه من بنطاله على حد قول باغلو. وتم دفن غبيدجي تحت كومة من الحجارة على شكل صليب داخل المتنزه.
مع ذلك، لا يزال الغموض يلفّ عملية الاختطاف، حيث لم تعلن أي من الجماعات الإرهابية مسؤوليتها عن الحادث، ورفض السائحان الفرنسيان إجراء أي مقابلة، كذلك لم تسمح الحكومة الفرنسية لمسؤولي بنين بإجراء مقابلة معهما، كما أوضح باغلو.
وعلى الجانب الآخر، أشار خبراء إلى أن الهجوم لا يعني بالضرورة تسلل المسلحين إلى بندجاري واختراقهم لها، بل محاولتهم القيام بذلك. وأوضحت ثيروكس قائلة: «لا نعرف حتى الآن مستوى توغلهم، لكن من الواضح أن تلك المنطقة قد باتت هدفاً استراتيجياً لهم». واتخذت سلطات بنين خطوات أخرى، من بينها خطوات تتعلق بأفراد قبيلة الفولاني، وهم من البدو الرحل الذين جنّدهم المتطرفون في بلاد أخرى. وقد شيدت بنين على مدى 7 سنوات أسواراً ومدارس ومراكز شرطة، حيث تقيم القبيلة «حتى يشعروا أنهم من مواطني بنين»، كما يشير باغلو الذي أضاف: «لا توجد دولة في أفريقيا قادرة على حماية حدودها وحدها». ومع ذلك، يخشى البعض في ناتيتينغو من أن تكون الإجراءات التي تتخذها الحكومة غير كافية ومتأخرة.
وقالت بريسكا، شقيقة غبيدجي، إنه عندما تم قتل شقيقها، كانت تلك هي المرة الأولى التي يخطر ببالها أن خطر الإرهاب يمكن أن يصل إلى بنين. وهي تعتقد حالياً أن ذلك الخطر قد ضرب بجذوره في البلاد، وأضافت قائلة: «لا يوجد دخان بلا نار». كذلك قالت إنها تتمنى زيارة قبر شقيقها، لكنها لن تتمكن من ذلك أبداً، وتخشى مما يمكن أن يحدث في متنزه بندجاري.

*خدمة «نيويورك تايمز»


مقالات ذات صلة

أنقرة تتحرى مع بغداد عن مسيّرة «أُسقطت» في كركوك

شؤون إقليمية موقع سقوط المسيّرة التركية في كركوك (إكس) play-circle 00:24

أنقرة تتحرى مع بغداد عن مسيّرة «أُسقطت» في كركوك

أكدت تركيا أنها والعراق لديهما إرادة قوية ومشتركة بمجال مكافحة الإرهاب كما عدّ البلدان أن تعاونهما بمشروع «طريق التنمية» سيقدم مساهمة كبيرة لجميع الدول المشاركة

سعيد عبد الرازق (أنقرة:)
أفريقيا وزير الخارجية الروسي رفقة وزيرة خارجية السنغال في موسكو (صحافة سنغالية)

على خطى الجيران... هل تتقرب السنغال من روسيا؟

زارت وزيرة خارجية السنغال ياسين فال، الخميس، العاصمة الروسية موسكو؛ حيث عقدت جلسة عمل مع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، أعقبها مؤتمر صحافي مشترك.

الشيخ محمد (نواكشوط)
شؤون إقليمية تركيا تعدّ وجودها العسكري في سوريا ضماناً لوحدتها (إكس)

تركيا: لا يجب التعامل مع أزمة سوريا على أنها مجمّدة

أكدت تركيا أن الحل الدائم الوحيد للأزمة السورية يكمن في إقامة سوريا تحكمها إرادة جميع السوريين مع الحفاظ على وحدتها وسلامة أراضيها.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
آسيا تحسين إقبال تحمل صورة لابنها آصف إقبال الذي قُتل مع آخرين في هجمات مميتة لمسلحين انفصاليين في بلوشستان 27 أغسطس 2024 (رويترز)

باكستان: موجة من الهجمات الإرهابية تهز بلوشستان المضطربة

لقي ما لا يقل عن 38 شخصاً مصرعهم في عدة هجمات في مقاطعة بلوشستان منذ الأحد، فيما يبدو أنه جزء من حملة شنها انفصاليون مسلحون في المنطقة.

كريستينا غولدبوم (واشنطن - إسلام آباد) كريستينا غولدبوم
أوروبا نانسي فايزر وزيرة الداخلية والشؤون الداخلية الألمانية تشارك في الجلسة الخاصة للجنة الشؤون الداخلية في «البوندستاغ» بشأن هجوم السكين في زولينغن وترحيل اللاجئين إلى أفغانستان (د.ب.أ)

ألمانيا تفتح باب الترحيل إلى أفغانستان وسوريا وتبعِد 28 مخالفاً إلى كابل

بدأت تداعيات اعتداء زولينغن الإرهابي في ألمانيا الظهور بخطوات عملية تتخذها الحكومة الألمانية، بعضها قد يكون حتى مثيراً للجدل.

راغدة بهنام (برلين)

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.