تطبيقات توفّر المعلومات الفورية عن الأغاني واللوحات الفنية

هل تتغلب رقمنة الأعمال الفنية على العين المجردة؟

تطبيقات توفّر المعلومات الفورية عن الأغاني واللوحات الفنية
TT

تطبيقات توفّر المعلومات الفورية عن الأغاني واللوحات الفنية

تطبيقات توفّر المعلومات الفورية عن الأغاني واللوحات الفنية

لاحظت في معرض «بيتي كانينغهام» في الجانب الشرقي السفلي من مدينة نيويورك، لوحة آسرة للعين، تصور امرأة مستلقية قبالة النافذة مع منظر لفندق نيويورك وبناية إمباير ستيت الشاهقة في الخلفية مع سمكة مدلاة أو هي عائمة من فوقها. فأخذت هاتفي الذكي وفتحت تطبيقاً باسم «ماغنوس»، ثم التقطت صورة للوحة الفنية، ثم ضغطت على زر «استخدم» في التطبيق، وبعد ثوانٍ قليلة جاءتني النتيجة في صورة مطابقة تماماً للوحة الفنية.
كانت اللوحة الفنية من أعمال الفنان الأميركي فيليب بيرلستاين، وفقاً للمعلومات الصادرة من التطبيق. والمعروف عن بيرلستاين عنايته بإحياء النزعة الواقعية عبر أعماله الفنية المعاصرة. وكانت اللوحة تحمل عنوان «موديل مع بناية إمباير ستيت»، وهي من إنتاج عام 1992، بقياسات (72 × 60) بوصة، وكانت معروضة للبيع لقاء مبلغ 300 ألف دولار. ولقد بيعت بالفعل في عام 2010 لقاء 175.500 دولار عبر مزاد نظمته «دار سوذبي» للمزادات في نيويورك، كما أبلغني التطبيق. ثم مرر التطبيق «ماغنوس» هذه المعلومات تلقائياً إلى مجلد على هاتفي يحمل مسمى «فنوني الخاصة» مخصص لأغراض الحفظ الرقمي والمطالعة في المستقبل.
يعتبر تطبيق «ماغنوس» جزءاً من موجة حديثة من تطبيقات الهواتف الذكية المعنية بفهرسة العالم المادي من حولنا كوسيلة من وسائل توفير المعلومات الفورية المطلوبة عن الأغاني، أو الملابس، أو النباتات، أو اللوحات الفنية. وكان أول التطبيقات المعنية بتوفير الخدمات نفسها يسمى «شازام»، وهو تطبيق يسمح للمستخدم بتسجيل ثوانٍ معدودة من إحدى الأغنيات، ثم يرسل المعلومات الكاملة الخاصة بها على الفور. وأسفر النجاح الكبير الذي حققه التطبيق - فلقد تجاوز أكثر من مليار عملية تحميل فضلاً عن 20 مليون حالة استخدام يومية، كما بيع التطبيق لشركة «أبل» مقابل 400 مليون دولار كما قيل وقتها - عن عمليات تقليد ومحاكاة لا حصر لها من قبل تطبيقات أخرى. كما صدرت نسخ أخرى من التطبيق «شازام» للنباتات، وللملابس، وللفنون.
تستفيد تطبيقات الخدمات الفنية من تقنية التعرف على الصور بفعالية فائقة، ولكل تطبيق منها براعته الخاصة. أما تطبيق «ماغنوس» فقد تميز بإنشائه لقاعدة بيانات تضم أكثر من 10 ملايين صورة فنية، استمد أغلبها من المصادر الجماعية، وتهدف إلى مساعدة هواة شراء الأعمال الفنية المحتملين على التنقل بين مختلف المعارض، والمتاحف، والساحات الفنية الشهيرة لاختيار ما يروق لهم ويناسبهم من مختلف الأعمال.
وتُعنى التطبيقات الفنية الأخرى بخدمة عشاق زيارة المتاحف. ومن بينها تطبيق «سمارتيفاي» على سبيل المثال، الذي يعتمد منهجاً تثقيفياً في خدماته، ويتعاون مع المتاحف ومع المعارض في بعض الأحيان في رفع النسخ الرقمية من المجموعات الفنية المعروضة، مع النصوص التعريفية بالأعمال الفنية، فضلاً عن معلومات بشأن الفنانين. هذا، وقد حقق تطبيق «غوغل لينس» - وهو يعمل بتقنية متطورة للتعرف على الصور - خطوات كبيرة ومهمة في عالم الفن. ففي يونيو (حزيران) الماضي، أعلن تطبيق «غوغل لينس» عن الشراكة مع متحف «يونغ» في سان فرانسيسكو لعرض أجزاء من مجموعات المتحف الفنية على التطبيق. وفي يوليو (تموز) الماضي، بدأت شركة «غوغل» في التعاون مع منصة «ويسكوفر» المعنية بأعمال التصميم، والفنون العامة والمحلية، والأثاث، والحرف، ما يمكن المستخدم من معرفة اسم اللوحة الفنية المجهولة التي تصادفها في أماكن العمل أو في أحد المقاهي.
وكانت هناك بعض العوائق التي واجهت إنشاء تطبيق «شازام» للأعمال الفنية. وقال ماغنوس ريش، مؤسس تطبيق «ماغنوس»، إن عدد الأعمال الفنية في العالم أكثر من الأغاني. ومحاولة فهرسة الأعمال الفنية الفردية الموجودة في مواقع فريدة أو خاصة هو من الجهود العسيرة للغاية.
كما أن هناك تحديات أخرى تفرضها قوانين حقوق التأليف والنشر بطبيعة الحال. إذ يمكن اعتبار استنساخ العمل الفني انتهاكاً مباشراً لحقوق الطبع والنشر لدى المالك. ويؤكد السيد ماغنوس أنه نظراً لأن الصور يجري إنشاؤها ومشاركتها بين مختلف المستخدمين، فإن التطبيق يخضع لحماية قانون الألفية للملكية الرقمية. وقال إن المعارض والمنافسين يشتكون من إمكانية تحميل الصور والبيانات بسلاسة إلى التطبيق خاصته. وفي عام 2016، تمت إزالة التطبيق من متجر «أبل» لمدة خمسة شهور، لكن الشركة أعادت طرحه في نهاية الأمر بعد العمل على إزالة المحتويات المتنازع عليها.
ومن بين المشكلات الأخرى تلك التي تتصل بتقنية التعرف على الصور التي لا تزال تعاني قدراً من التأخر عندما يتعلق الأمر بتحديد الأجسام أو الأشياء ثلاثية الأبعاد، حتى أن التماثيل الشهيرة التي لا خلاف عليها تسبب نوعاً من الارتباك لدى التطبيقات، بسبب الزوايا المختلفة، ما يؤدي إلى تفريغ الصورة من محتواها، وتدوير لا نهائي للتكنولوجيا التي تواصل التفكير الآلي في الصورة لمحاولة معالجتها بلا توقف.
ثم هناك سؤال أكثر وضوحاً لهذه المنصات الرقمية: ما هي المعلومات التي يمكن للتطبيق توفيرها ومن شأنها تحسين تجربة المستخدم في مطالعة الأعمال الفنية؟ وما الذي يمكن لتطبيق «شازام» للأعمال الفنية إضافته على أي حال؟
وجاءت إجابة السيد ماغنوس في بساطة: «نادراً ما تقدم المعارض الفنية أسعار الأعمال التي تعرضها، وهي لا تقدم بالأساس نصاً تعريفياً جدارياً للعمل الفني، ولذلك يتعين على المرء في أغلب الأحيان السؤال عن عنوان العمل الفني أو معرفة اسم الفنان».
ابتاعت جيلينا كوهين، مديرة العلامة التجارية لمنتجات «كولغيت بالموليف»، أول عمل فني في حياتها، وهي صورة فوتوغرافية، من مجلة «فريز» الفنية، باستخدام تطبيق «ماغنوس»، وقالت إن نقص المعلومات المتوفرة حول الصورة كان من العوائق التي حالت دون شراء الصورة قبل أن تستعين بالتطبيق: «اعتدت الذهاب إلى المعارض الفنية، وكنت أشعر بالخجل أو الإحراج، نظراً لعدم وجود أسعار على المعروضات الفنية. ولكنني أحببت التطبيق كثيراً لأنه يقوم بمسح العمل الفني ويقدم معلومات دقيقة حوله، وآخر مرة بيع فيها، وسعر البيع الحقيقي. ولقد ساعدني هذا كثيراً على التفاوض بشأن السعر».
ولا يقدم تطبيق «ماغنوس» درساً في تاريخ الفن، أو حتى ملخصاً أساسياً عن العمل الفني، كما يفعل تطبيق «شازام»، وإنما القليل من المعلومات الباهتة ليس إلا. أما تطبيق «سمارتيفاي» من ناحية أخرى، فإنه يحاول محاكاة ما كان يقوم به في مجال الفهرسة الصوتية. بمجرد أن تستخدم التطبيق مع عمل من أعمال الفنان الفرنسي جوستاف كاييبوت، سرعان ما يأتيك بالمعلومات المتاحة فعلاً عن العمل، بما في ذلك فرصة النقر لمعرفة المزيد من المعلومات. وسهولة الاستخدام تعد جزءاً من مهمة التطبيق مع إمكانية الوصول. ويمكن للأشخاص ذوي الإعاقة البصرية الاستعانة بتطبيق «سمارتيفاي» من خلال إعدادات الصوت الأصلية في الهواتف خاصتهم، حيث يعمل التطبيق على دمج النبرات الصوتية والاستجابة للأوامر. والتطبيق أنيق التصميم وخدماته سهلة ومباشرة، مع الاستشهاد بالمصادر والتحقق منها.
ويتمثل القيد الرئيسي في هذا التطبيق أنه نظراً لأن التطبيق يعمل بأسلوب التعاون المباشر مع المتاحف، فإنه لا يعمل بشكل جيد إلا في أماكن محدودة للغاية، منها «ناشونال غاليري» بلندن، حيث اختبرت التطبيق. ولكن في معرض «Met»؛ حيث تمكن «سمارتيفاي» من تحميل مجموعة محدودة من الصور، فشلت في مجرد الحصول على الحقائق الأساسية المعروضة في النصوص الجدارية بجوار تلك اللوحات.
إن «رقمنة» الأعمال الفنية بأسلوب التطبيقات الحديثة يأتي نتاجاً للوقت الذي تغلبت فيه المعلومات الآنية على العين المجردة. ولكن لا ينبغي لتلك التطبيقات أن تكون دليلنا الوحيد عبر العالم المرئي من حولنا. فأثناء التجوال في المتحف الجديد، باستخدام تطبيق «ماغنوس»، وجدت نفسي أتجاوز اللوحات تلو اللوحات دون أن أكلف نفسي عناء التوقف والتفحص أمام التفاصيل، ذلك لأن الكاميرا كانت تسبقني، وكان التطبيق يعلم عن اللوحات أكثر مما أعي أنا عنها. كان الأمر يشبه الإدمان التقني الخفيف، مع نقرات التعرف المريحة، التي يصعب التخلي عنها بسهولة.
- خدمة «نيويورك تايمز»


مقالات ذات صلة

كيف تستخدم صور الهاتف للبحث على الإنترنت؟

تكنولوجيا كيف تستخدم صور الهاتف للبحث على الإنترنت؟

كيف تستخدم صور الهاتف للبحث على الإنترنت؟

الصورة تساوي ألف كلمة، لكنك لا تحتاج إلى كتابة أي منها من أجل البحث على الإنترنت هذه الأيام، إذ تستطيع البرامج الموجودة على هاتفك، بمساعدة الذكاء الاصطناعي....

جيه دي بيرسدورفر (نيويورك)
تكنولوجيا تتيح منصة «Bolt.new» تطوير وتشغيل التطبيقات مباشرة عبر المتصفح معتمدةً على الذكاء الاصطناعي وتقنية الحاويات الويب دون الحاجة لإعدادات محلية (bolt.new)

تعرف على خدمة تطوير التطبيقات من المتصفح مباشرة مع «Bolt.new»

حققت خدمة «Bolt.new» نقلة نوعية في مجال تطوير التطبيقات؛ إذ تتيح للمطورين كتابة وتشغيل وتحرير التطبيقات مباشرة عبر المتصفح.

عبد العزيز الرشيد (الرياض)
يوميات الشرق تحوّلت الهواتف الذكية بما فيها من تطبيقات إلى إدمان العصر (رويترز)

كيف تقطع يدك الافتراضية... 7 خطوات للحدّ من الإدمان على الهاتف

باتت الهواتف الذكية امتداداً لليَد البشريّة، وكأنها يدٌ جديدة التصقت بها. العيون لا تفارقها ليل نهار، فهل من سبيل للتخفيف من هذا الإدمان المستجدّ؟

كريستين حبيب (بيروت)
أوروبا شعار تطبيق «تلغرام» (رويترز)

وفق تعديلات جديدة... «تلغرام» قد يرسل معلومات تخص بعض مستخدميه للسلطات القضائية

عدّل تطبيق «تلغرام» قواعد الإشراف الخاصة به من أجل التعاون بشكل أكبر مع السلطات القضائية، وفق ما قال، الاثنين، مؤسس المنصة ورئيسها بافل دوروف.

«الشرق الأوسط» (باريس)
تكنولوجيا علماء النفس يوصون بتسجيل قوائم على تطبيق الملاحظات لتسجيل اللحظات المبهجة والأهداف والتفاصيل الصغيرة (رويترز)

تطبيق الملاحظات على هاتفك... كيف يجعلك أكثر سعادة؟

يوصي علماء النفس باستخدام تطبيق الملاحظات على الهاتف للاحتفاظ بقوام لما يسميه الشاعر روس جاي «المتع» - «تلك الأشياء الصغيرة التي تلاحظها في العالم وتبهجك».

«الشرق الأوسط» (لندن)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)