عرض مقتنيات مطبعة بولاق التاريخية لأول مرة في مكتبة الإسكندرية

تم تدشينها قبل 200 سنة

جانب من المعرض
جانب من المعرض
TT

عرض مقتنيات مطبعة بولاق التاريخية لأول مرة في مكتبة الإسكندرية

جانب من المعرض
جانب من المعرض

تحتفي مكتبة الإسكندرية بعرض مقتنيات نادرة لأول مرة من مطبعة بولاق التاريخية التي أسسها محمد علي باشا قبل نحو 200 سنة، ضمن وثائق ومقتنيات معرض «طباعة الحرف العربي»، والذي استحوذ على اهتمام كثير من الباحثين ومحبي الخط العربي بالمدينة الساحلية المصرية.
وخلال المعرض، أزاح «مركز دراسات الخطوط» بمكتبة الإسكندرية الستار عن مجموعة مُختارة من وثائق مجموعته الخاصة ومكتبة الكتب النادرة؛ وتتضمن ستة كتب نادرة يتجاوز تاريخ طباعة بعضها أكثر من قرن ونصف؛ إضافة إلى قطع صغيرة من أدوات الطباعة القديمة المستخدمة خلال فترة خمسينات وستينات القرن الماضي.
وجاء معرض الخط العربي الذي تنظمه مكتبة الإسكندرية بالتعاون مع المعهد الفرنسي بمصر حتى السادس من أكتوبر (تشرين الأول) المقبل ليعكس قرونا من إبداع فن الخط العربي في شكله المطبوع، منذ بدايات القرن السادس عشر، وحتى الآن.
ويضم المعرض أيضاً 54 لوحة تبرز الإبداع التاريخي في الخطوط العربية، وكيفية استخدام التقنيات الحديثة لإحداث تغيير وتجديد في شكل الحروف.
وعن مطبعة بولاق، قال الدكتور أحمد منصور، مدير مركز الخطوط بمكتبة الإسكندرية لـ«الشرق الأوسط»: «تمتلك المكتبة قرابة 30 قطعة من مقتنيات مطبعة بولاق التاريخية عن طريق الإهداء؛ يِعرض جزء منها في قاعة الاطلاع الرئيسية بينما يحفظ الجزء الآخر في قاعة الكتب النادرة بعد ترميمه ولا يسمح بالاطلاع عليه إلا للباحثين بتصريح خاص حفاظا عليه».
وأضاف منصور أنه «تم انتقاء هذه المجموعة تحديداً لعرضها على الجمهور لجودة طباعتها وتصميمها، وتنوع وثراء الخطوط بها فيظهر الخط الكوفي المربع، والخط الثلث، والنسخ، والرقعة، وأشكال الزخرفة في صفحة العنوان، وهو ما يعكس اهتمام مطبعة بولاق منذ فترة مبكرة من تاريخها بالخطوط والتيبوغرافيا».
وتُعد مطبعة بولاق أول مطبعة حكومية في مصر أسسها محمد علي باشا عام 1820. وساهمت في إثراء حركة النشر خلال القرنين التاسع عشر والعشرين.
ويشمل القسم الأول من مقتنيات مطبعة بولاق التاريخية بالمعرض 6 كتب قيمة وهي «ديوان محيي الدين ابن عربي»، والذي طبع عام 1271هـ - 1854م ويُعد أحد أندر الكتب التي صُممت من حروف الخط الفارسي للخطاط «سنكلاخ الخراساني» بشكل البحور الشعرية، بالإضافة إلى كتاب «القاموس المحيط» للفيروز آبادي، والذي طبع في عام 1301هـ - 1883م وتضمن مجموعة فريدة من فنون خط النسخ، وضمت أولى صفحاته عبارة «ما شاء الله» بالخط الكوفي المربع، وما يميز الكتاب أيضاً تشكيل جميع حروفه ليعكس مهارة جامعي الحروف في مطبعة بولاق نهاية القرن التاسع عشر، بالإضافة إلى الجزء السابع من «صحيح البخاري» والذي طبع عام 1315هـ - 1897م.
ويلفت الأنظار كتابان مميزان لتدريس اللغة المصرية القديمة «الهيروغليفية» للعرب، وهما الطبعة الأولى من كتاب «العقد الثمين في محاسن أخبار وبدائع آثار الأقدمين من المصريين»، والذي طبع عام 1300هـ - 1882م، وكُتب عليه: «من تأليف النجيب الفطن اللبيب أحمد فندي كمال معلم التاريخ واللغة الفرنساوية ومترجم الأنتيقة خانة المصرية وناظر مدرستها البهية، طبع بالمطبعة الأميرية ببولاق مصر المحمية»، ويظهر ذلك حرص القائمين على المطبعة وقتئذ لتقديم الكتب بأسلوب السجع المميز كما يشير مدير مركز الخطوط.
أما الكتاب الثاني الذي لفت الأنظار فهو «الفرائد البهية في قواعد اللغة الهيروغليفية» والذي طُبع عام 1303هـ - 1885م والذي صُمم على يد ناسخ ورسام محترف.
ولفت منصور إلى أن الكتابين يعكسان مدى اهتمام مطبعة بولاق ومن ورائها السلطات المصرية حينذاك بتأصيل تاريخ وحضارة مصر الفرعونية، بجانب تأكيدهما على ما وصلت إليه المطبعة من قدرة مميزة في عمليات صف للنصوص غير العربية.
ويشمل القسم الثاني لمقتنيات مطبعة بولاق بعض أدوات الطباعة القديمة مثل الحروف الرصاصية وصندوق الحروف المستخدم خلال فترة خمسينات وستينات القرن الماضي، ومجموعة من القطع النحاسية المستخدمة في الكتابة بأحجام مختلفة، ونماذج أخرى للحروف النحاسية والخشبية ونموذج التصحيح؛ إضافة إلى أكلشيه للطبع عليه صورة النحاس باشا، رئيس وزراء مصر الأسبق، ومطبوعة بمناسبة عيد التحرير عام 1955 وألبوم الجلود المستخدم في عملية التجليد.
كما ظهرت مجموعة من حوافظ الأوراق وبرامج الاحتفالات الرئاسية التي كانت تطبع في مطبعة بولاق خلال فترة الاتحاد بين مصر وسوريا وخلال فترة الرئيس المصري الراحل أنور السادات.
من جانبها، أبدت جانينا هيريرا القنصل الفرنسي بالإسكندرية إعجابها بالحروف العربية، وقالت لـ«الشرق الأوسط» إن دراستها للغة العربية ساعدتها على تذوق فن الخط العربي داعية إلى إدراجه ضمن قائمة اليونيسكو للتراث غير المادي. مؤكدة أنها تؤمن بمقولة إن الخط هو هندسة الروح، وأرى أن أنماط الخطوط العربية المختلفة تعكس ثراء الثقافة العربية.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)