مركز معارض عموم روسيا يستعيد أمجاده بعد خرابه في التسعينات

شُيد منذ 80 عاماً لعرض إنجازات الاقتصاد السوفياتي

تستمر الفعاليات والنشاطات الاحتفالية على أرضه
تستمر الفعاليات والنشاطات الاحتفالية على أرضه
TT

مركز معارض عموم روسيا يستعيد أمجاده بعد خرابه في التسعينات

تستمر الفعاليات والنشاطات الاحتفالية على أرضه
تستمر الفعاليات والنشاطات الاحتفالية على أرضه

بعد سنوات عصيبة عاشها في التسعينيات، حاله كحال كل شيء في روسيا والاتحاد السوفياتي حينها، استعاد مركز المعارض في العاصمة الروسية موسكو مكانته الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، وبات هذا المركز الشهير باسم «في دي إن خا» واحداً من الوجهات الرئيسية للتنزه وقضاء أوقات مميزة، إن كان بالنسبة للمواطنين الروس من سكان العاصمة موسكو وزوارها من مدن روسية أخرى، وكذلك بالنسبة للضيوف السياح الأجانب من مختلف دول العالم. ويتألق مركز المعارضة بصورة خاصة هذه الأيام، ذلك أنه يعيش احتفالات يومية منذ مطلع أغسطس (آب) بمناسبة عيد ميلاده الثمانين، وتستمر الفعاليات والنشاطات الاحتفالية على أرضه وفي أجنحته الكثيرة والكبيرة حتى النصف الأول من سبتمبر (أيلول) القادم، حيث يُنتظر أن يشهد أضخم احتفالات يوم 7 سبتمبر بمناسبة مرور 870 عاماً على تأسيس مدينة موسكو التي تحتضنه منذ 80 عاماً.
يعود الفضل في ظهور هذا المركز الشهير شمال شرقي العاصمة الروسية إلى «البروبغاندا» السوفياتية للإنجازات الاقتصادية في ظل الشيوعية. وبحث القادة السوفيات عام 1934 فكرة افتتاح معرض «يوبيلي» بمناسبة 20 عاماً على الحكم السوفياتي، بغية عرض الإنجازات والنجاحات في المجال الزراعي طيلة تلك السنوات. وبدأت أعمال البناء عام 1935، وانتهت بالافتتاح الرسمي لمركز المعارض في 1 أغسطس عام 1939. وأُطلق عليه أكثر من اسم على مدار ثمانية عقود، إلا أن الاسم الأخير والنهائي، الذي انطبع في ذاكرة المواطنين السوفيات يبقى حتى اليوم «معرض إنجازات الاقتصاد الوطني»، وتم أخذ أول حرف من كل كلمة من الاسم باللغة الروسية، وبات المركز يُعرف اختصاراً باسم «في دي إن خا». وعلى مساحته التي تصل حتى 325 هكتارا تم تشييد مجموعة من الأجنحة، وبصورة رئيسية 15 جناحا وطنيا يحمل كل منها اسم واحدة من 15 جمهورية سوفياتية، وجرى تصميم تلك الأجنحة بما يتناسب مع مقومات الاقتصاد والرموز القومية لكل جمهورية.
وعلى مدار عقود طويلة من الحكم السوفياتي كان مركز المعارض وجهة رئيسية للمواطنين السوفيات، يتعرفون فيه على إنجازات الدولة في الاقتصاد والفن والعلوم، وتم افتتاح قسم خاص لعلوم الفضاء، ونصب تذكاري لرائد الفضاء يوري غاغارين، وعلى الطرف الآخر نصب «العامل والفلاح» يحمل الأول مطرقة وتحمل الفلاحة منجلاً، وهو أحد رموز الدولة السوفياتية. وكانت أجنحة وأرض المركز مركز نشاط دائم، تعج بالزوار والضيوف، يجري فيها عرض لإنجازات الصناعات السوفياتية، وإنجازات كل واحدة من الجمهوريات الأعضاء في الاتحاد السوفياتي، فضلا عن عروض فنية واحتفالات. وغالبا كان يزوره كبار ضيوف الدولة على هامش زياراتهم إلى موسكو، كما أن التنزه فيه وزيارته كانت أمنية كل مواطن سوفياتي من سكان المدن الأخرى.
خلال تفكك الاتحاد السوفياتي والأزمات التي عصفت به، ومن ثم بروسيا في التسعينيات، فقد مركز المعارض مكانته وأهميته، وتحول عملياً إلى «سوق تجارية»، انتشرت الأكشاك على ممراته، وتحولت أجنحته إلى محال تجارية. تغير وجهه وغطت التجارة والأوساخ كل شيء جميل فيه، كما تراجع اهتمام الجهات الرسمية به. خلال السنوات الماضية، ومع تحولات جذرية نحو الأفضل بدأت تظهر تدريجيا نحو استعادة مكانة مركز المعارض، يمكن القول إن التحولات الجذرية الفعلية بدأت منذ عام 2013، حين تحولت إدارته إلى سلطات موسكو، وبدأت حينها عمليات ترميم واسعة فيه، إلى أن استعاد كامل جماله. ولم يقتصر الأمر على إعادة ترميم أجنحته بعد حظر مزاولة أي نشاط تجاري على أرضه، بل شمل ذلك إعادة زرع المساحات الخضراء فيه والعناية بها، فضلا عن ترميم نوافير ماء شهيرة في ساحاته، والكثير غيره.
في هذه الأيام يبدو مركز معارض عموم في روسيا مثل لوحة فنية ضخمة تم رسمها على أرض تزيد مساحتها على مساحات مئات ملاعب كرة القدم. ساحات تغطيها الزهور تنتشر بينها مجموعة نوافير أبدع خيرة المصممين السوفيات في تصميمها، ورممها مهندسون روس لتستعيد ألقها التاريخي، وعلى الأطراف تنتشر أجنحة لا يزال كل منها يحمل اسم واحدة الجمهوريات السوفياتية، فضلا عن أجنحة حديثة تعرض آخر الإنجازات العصرية. ويجري على أرض المعرض أو داخل أجنحته تنظيم فعاليات ثقافية وفنية وعلمية متنوعة يوميا. ويزوره سنويا أكثر من 30 مليون شخص.
وفي هذه الأيام تتواصل احتفالات (80 عاماً على تأسيس مركز المعارض)، التي بدأت منذ بداية الشهر بحفل فني ضخم، تخللته الكثير من الفعاليات المتنوعة. وزاد عدد زوار مركز المعارض خلال الأيام الأولى من الاحتفالات على 1.5 مليون زائر، ولا تزال ساحاته مكتظة بالضيوف، في ساعات النهار والليل على حد سواء، حيث جعلت الإضاءة الفنية منه مثل تحفة ليلية، لا يمكن تفويت فرصة قضاء وقت ممتع في ظلها. ويتوقع أن يكون السابع من سبتمبر يوماً مميزاً في تاريخ «مركز معارض عموم روسيا»، حيث تجري التحضيرات على قدم وساق لاحتفالات ضخمة تجمع في آن واحد ما بين الاحتفال بذكرى 80 عاماً على تشييد مركز المعارض، و870 عاماً على تأسيس العاصمة الروسية موسكو.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)