«نوتة الظلام»... أحلام كتبتها عين الكاميرا

تأخذنا رواية «نوتة الظلام» لفجر يعقوب، الصادرة عن دار «الدراويش» في بلغاريا، إلى المنطقة الرمادية التي يتماهى فيها الخيال المُجنّح مع الواقع الأسيان، وهي تحتاج مثل غالبية رواياته الأخرى إلى علامات دالة تُرشد المُتلقّي في متاهة النص وتذكّره إن كان يمشي على الأرض أو يُحلّق في تجليات الأحلام. ومَنْ ينتهي من قراءة الفصل الأول من هذه الرواية، يكتشف أنّ البطل كان مُستغرقاً في حلمه الأول، وأنّ ما يجري في متن النص ما هو إلاّ تداعيات حُلُمية، مع الأخذ بعين الاعتبار أن معظم الأحلام، إن لم نقل كلها، تنبثق من نتوءات واقعية قبل أن تتسامى إلى ملكوت الخيال الذي ينطوي على كثير من السحر والدهشة والغموض. لا تنأى البنية المعمارية لهذه الرواية بنفسها عن تقنية السيناريو، كثيراً، إن لم تكن في الأصل قصة سينمائية كُتبت كي تُصوّر لتتحول في نهاية المطاف إلى فيلم يحمل عنوان الرواية نفسه، الأمر الذي يتيح لنا أن نقرأ الرواية قراءة واقعية، وإن كُتبت بمنظور حُلُمي مُرهف بواسطة عين الكاميرا، أو العين الثالثة التي شُفيت بالتدريج من عاهة الارتخاء، ولم يعد جفنها العلوي متهدلاً يُسبب بعض الإحراج لصاحبها الموهوب الذي لا يشبع من مطاردة الأحلام في مخيلته السينمائية الشاسعة.
ولكي لا نُشتِّت ذهن القارئ بالتفاصيل الكثيرة التي تؤثث متن الرواية، سنحاول أن نجسِّم صورة العمود الفقري لهذا النص الإشكالي الذي لا يخلو من الدلالات الرمزية التي تشيع في نسقه السردي الذي يتكشّف عبر شخصية مهيار الذي يستهل الرواية وينتهي بها. وما نعنيه بالعمود الفقري هو ثيمة النص الرئيسية التي تتردد على مدار الرواية برمتها، وتؤسس حبكتها، وتكشف عن ترابط أحداثها، ونموّ شخصياتها الرئيسية على وجه التحديد. تتلخص ثيمة النص «بأنّ الراوي مهيار يتلقى رسالة من السيدة أغاثا كريستي تدعوه فيها للحضور وسرد قصته أمام لجنة مختصة في مائتي دقيقة فقط». ولو تأملنا هذه الثيمة لوجدناها تحتاج إلى بعض الرتوش، فالسارد لديه مشكلة في الإلقاء، ولن يتغلّب عليها، ما لم يلمّ بالقاعدة الذهبية التي تمنحه القدرة على سلاسة السرد التي لن تتم إلاّ بمساعدة السيدة الأرستقراطية أغاثا كريستي ولجنتها المؤلفة من 12 شخصاً مختصاً. وكلما تقدّمنا في قراءة الرواية سنكتشف أنّ على مهيار أن يخوض 5 امتحانات قبل أن يسرد قصته في مقاطع شفهية مُتقنة تؤهله لتأدية الدور الذي رآه شاقاً وعسيراً، وفق الإمكانات التي يتوفر عليها، إضافة إلى العوق المُشار إليه سلفاً. يتمثل الامتحان الأول بعرض 9 لقطات من 9 أفلام متنوعة لا تتجاوز مدة العرض ثانية واحدة لكل لقطة، وعليه أن يعرف اسم الفيلم واسم مُخرجه. وبرمشة عين أعاد مهيار ترتيب الأفلام في ذاكرته اليقظة، وعرف الجواب بسرعة أثارت إعجاب السائلين، ودهشة السيدة التي أثنت على مهيار وبدايته المُبهرة في تجاوز العتبة الأولى من الامتحان. قبل أن يتهيأ لخوض الامتحان الثاني، أخبرته السيدة الأرستقراطية بأنها ليست فقط رئيسة اللجنة الموقرة للامتحانات، وإنما هي مديرة مصفاة تكرير النفوس الحائرة، وتقع على عاتقها مسؤولية معالجة النفوس الحيرى كي تتمكن من سرد حكايتها بطريقة مثالية، وهذه حيلة فنية كي تتشظى الرواية إلى أنساق سردية أخرى، تتبنى إحداها السيدة أغاثا نفسها لتذكِّرنا بروايتها المعروفة «جريمة في قطار الشرق السريع»، وتتعالق مع أحداثها المهمة، لعل أبرزها الجريمة التي وقعت في القطار، والشخصيات الـ12 الذين وضعوا خطة للتخلّص من «راتشيب» في القطار الذي ينطلق من مدينة حلب، ويُفترض أن يتعطّل في يوغوسلافيا. ثم تتشظى أحداث الرواية إلى والده بكر الذي تعلّق بامرأة جميلة سماها «الشافية»، من دون أن يعرف اسمها الحقيقي، كما يتوسع في الحديث عن قبر جده «الطاهر» الذي تحوّل إلى مزار.
يتمحور الامتحان الثاني على الصور الفوتوغرافية التي التقطها مهيار بكاميرة مستعارة، بعد أن تعطّلت كاميرته الشخصية، فأثارت موجة من الإعجاب لدى أعضاء اللجنة، بعد أن اشتغل بطريقة فنية على تكويناتها، وأسرارها بالأسود والأبيض، فمنهم مَنْ قال عن مُصوِّرها أنه يمتلك «عين حسّاسة»، وآخر قال «إن شعوره مُرهف بالضوء»، وذهب ثالث إلى «أنه رسّام فوتوغرافي من طراز نادر». فشعر لأول مرة بأنّ عاهة عينه اليسرى قد تلاشت تقريباً.
أما في الامتحان الثالث، فقد طلبت منه السيدة أن يستعيد لقطة عماد حمدي، وهو يصفع حليم بالملهى في فيلم «أبي فوق الشجرة»، فنجح في الامتحان نجاحاً مبهراً دفع صاحب «المونوكول»، لأن يُعرب عن إعجابه ويقول «إن في داخله ممثلاً ينتظر إشارة حارقة من مُخرج كبير». ليس بالضرورة أن يكمل الروائي الامتحانين المتبقيين، فلقد عرفنا من السياق المتصاعد أنه سينجح فيهما، وأنّ نبرة الإعجاب سوف تتصاعد، فلا غرابة أن يضع الكاتب حداً لهذه الاختبارات، بحيث تعتبره رئيسة اللجنة مفخرة للجميع، وتُهديه مذياعاً للاستمتاع برحلة العودة إلى الديار. وأكثر من ذلك، فإن المُخرج روي أندرسون أبدى إعجابه بالطريقة التي روى فيها مهيار قصته المدهشة حقاً التي رواها بأسهل الطرق وأيسرها، وعليه أن يعود لكي يحضر حفل زواج شقيقته آليس.
في محطة القطار، اصطدم مهيار بفتاة عشرينية جميلة تُدعى سيدرا من أبوين غير سويديين تعمل موديلاً، إضافة إلى كونها طالبة فنون جميلة، وقبل أن يُعرّف نفسه قالت إنها تعرف عنه كل شيء؛ اسمه، وتركه المبكِّر للدراسة، وممارسته للتصوير والكتابة، وأنه لاجئ في السويد، ومدعّو من قبل السيدة كريستي لسرد قصته في غضون 200 دقيقة. هل قرأت سيدرا أفكاره، أم أنها كانت تطارده، خصوصاً بعد أن عرفنا أنه لا يؤمن بالمناهج التي فرضتها حكومة «النمصي»؟ أما هي فلم تكتفِ بتقديم نفسها، وإنما عرّفته بالقط فردريك الذي سيكون له وللقطط الأخرى دور في هذه الرواية. وبين تضاعيف النص نعرف أن والد مهيار قد اختفى أو تخلى عن أمه «صبحية»، وأنه قضى 10 سنوات جحيمية بسبب امرأة لم يلمح وجهها، لكنه عاد واغتصبها في ليلة معتمة لتنجب ابنتها آليس، ثم يختفي مرة أخرى إلى الأبد، وقيل إنه مات بين أغصان شجرة الكينا. أما الابن مهيار، فسوف يموت هو الآخر عندما يرتقي الشجرة، ويفارق الحياة قبل طلوع الفجر.
تفتح السيدة كريستي جهاز «اللابتوب»، وتكتب عن النوم الملتبس الذي يختلف عن حالتي النوم واليقظة، وما يتخلله من أحلام متفاوتة في المدة الزمنية «فالدجاجة تحلم 25 دقيقة في الليلة، والقردة 60 دقيقة، والإنسان 100 دقيقة، والقط بطل الحالمين بلا منازع فهو يحلم 200 دقيقة في الليلة». ثمة أحداث أخرى تتعلق بانحدار الأب بكر الطاهر الجيلالي من المغرب وذهابه إلى الحج، ووفاته، ثم دفنه على قمة في عين الحايك، ثم تحوله إلى مزار قبل أن يفقد رتبة الولي العارف بعد 10 سنوات. وهناك قصص وأحداث أخرى لا يتسع المجال للتوقف عندها جميعاً، وحسبنا أن الثيمة الرئيسة ستقدم للقارئ ما يكفي من الأحداث التي تُدخله في فضاء النص، وتعرّفه بالشخصيات الرئيسية التي نسجت «نوتة الظلام»، وأسفرت عن عمل روائي لا تنقصه الخبرة، ولا تعوزه الحرفية والإتقان.