هل هجر المغاربة الرواية إلى القصة القصيرة؟

كأن قوس الماضي يعود للانغلاق على الحاضر

محمد برادة
محمد برادة
TT

هل هجر المغاربة الرواية إلى القصة القصيرة؟

محمد برادة
محمد برادة

يحق البدء في هذه الكتابة، بطرح الأسئلة التالية: هل انتهى زمن الرواية؟ وهل أوفى هذا الجنس المفتوح على التعدد الإحاطة الشاملة بالقضايا كلها؟ وبالتالي، هل الصورة التي كان عليها التلقي الأدبي في مرحلة سابقة لم تعد تحتل ذات المكانة؟

إنني إذ أسوق هذه الأسئلة، أتابع باهتمام عودة كثير من الأدباء والكتَّاب المغاربة إلى جنس القصة القصيرة، وكأني بهم يعودون لبدايات التمرين السردي على الحكي، في محاولة ترسيخ النقلة من القصة القصيرة إلى الرواية. والآن من الرواية إلى القصة القصيرة، وكأن قوس الماضي يعود للانغلاق على الحاضر.

ومن المعروف أن الناقد المصري الراحل جابر عصفور (1944 - 2021)، هجس إلى كوننا نعيش زمن الرواية، حيث أفرد 3 أعداد من المجلة الرصينة «فصول» لهذا الجنس الأدبي، مثلما أقيمت مؤتمرات احتفت بالرواية العربية وخصتها بجائزة، علماً بأن تثبيت مؤتمر للرواية تحقق بالتناوب سنوياً مع جنس الشعر. وعلى امتداد المؤتمرات، دعيت أسماء لمبدعين ونقاد مغاربة وعرب على السواء.

أحمد المديني

على أن الهجس لم يكن ليتحقق إلا رغبة في تحقيق تراكم في هذا الجنس، إذا ما ألحمنا لكون مصر بالضبط راكمت منذ (1914) تاريخ صدور رواية «زينب»، كماً كبيراً من النصوص المتباينة صيغة ومادة. وإذا كان ذلك لم يتأتَّ لكثير من الدول، وأمثِّل بالخليج تحديداً، فإن كثيراً من المؤشرات أنبأت بأن مستقبل الرواية في كثير من دوله مثلما في المغرب العربي، سيتفرد بحظوة كبيرة ضاعف من وتيرتها خص الرواية بجوائز رفيعة، بعيداً عن التفكير في التقييم النقدي وما إن كانت بعض التجارب الروائية تستحق التكريم أم العكس.

ولم تمثل فورة التراكم هنا وهنالك العامل الرئيسي، وإنما ظهر أن وتيرة التحولات السياسية والاجتماعية والثقافية التي عكست نثرية الحياة تستلزم الرهان على جنس الرواية لتشكيل الصورة الأدق، وابتكار القول الأدبي المساير لطبيعة هذه التحولات، حيث استطاع أكثر من روائي التقاط اللحظة في بعديها الزمني والمكاني، وبالتالي، ابتكار وخلق المعنى بالانبناء على خاصية التخييل المباشر، أو الاستعارات التاريخية والتراثية التي تحيل من خلال رمزية الماضي على حاضر ينطبع بكثير من صور التراجع.

وإذا كان الشعر قد لعب دوراً ريادياً في مرحلة سابقة، فإن هذه التحولات، إلى الفقدان المرير لكثير من الأسماء الشعرية، قاد إلى هيمنة جنس الرواية، وأفسح لتداولها وتلقيها الموسع الذي أسهمت فيه إيجاباً الجوائز المكرسة لهذا الجنس، حيث انخرط في كتابته قصاصون وشعراء وسياسيون وصحافيون، على أن العودة للبدايات أو إلى كتابة القصة القصيرة، ما الذي يعنيه مغربياً؟

لقد شكلت مرحلة السبعينات الصورة الحقة للأدب المغربي، حيث صدرت - إذا جاز - التجارب الأولى في كتابة القصة القصيرة، علماً بأن بعض النماذج ظهرت أواسط الستينات مجسدة التأسيس الفعلي للأدب المغربي الحديث؛ فالأستاذ عبد الكريم غلاب (1919 - 2017) أصدر مجموعته «مات قرير العين» في (1965)، والقاص الصحافي عبد الجبار السحيمي (1938 - 2012) «الممكن من المستحيل» (1965)، والأستاذ مبارك ربيع (1935) «سيدنا قدر» (1969). وتعد مجموعة عبد المجيد بن جلون (1919 - 1981) «وادي الدماء» (1947)، و«اللهاث الجريح» (1954) لمحمد الصباغ الأقدم بين هذه التجارب.

محمد الأشعري

على أن ما وسم السبعينات كان تعدد الأسماء التي انخرطت في كتابة القصة القصيرة في بدايات ممارستها الإبداعية، إذا ما أشير إلى أن البعض وازى بين كتابة القصة القصيرة والرواية. ويقتضي المقام أن نشير في هذه المرحلة بالضبط إلى كل من: محمد زفزاف، ومحمد إبراهيم بوعلو، وأحمد المديني، ومحمد برادة، ومحمد عز الدين التازي، ومحمد شكري، وإدريس الخوري، وخناثة بنونة، وأبو يوسف طه، ومحمد صوف، وإدريس الصغير، ومحمد الهرادي، وعبد الرحيم المودن،... وغيرهم ممن يفوتني استحضار أسمائهم في لحظة هذه الكتابة.

وللموضوعية، فإن هذه الأسماء أسهمت بالفعل في كتابة قصة قصيرة حديثة متفردة بناءً وتناولاً للقضايا السياسية والاجتماعية والتاريخية، وخُصت ببحوث جامعية أُنجزت من طرف أسماء وازنة مثل: أحمد اليابوري، ونجيب العوفي، وأحمد المديني، وعبد الرحيم المودن.

على أن ما يستوقفني في هذه الكتابة، مفارقة العودة إلى البدايات، وهي مفارقة تزامن فيها صدور 3 مجاميع قصصية في ظرف زمني يكاد يكون واحداً، ولكتَّاب أبدعوا في جنس الرواية على تباين واضح بين تجاربهم، ولمناسبة تقترن والدورة الجديدة لمعرض الكتاب الدولي (الرباط - 2024). هذه المجاميع هي التالية:

«أحدب الرباط». أحمد المديني، (المركز الثقافي للكتاب - الدار البيضاء - 2024)

«هل أنا ابنك يا أبي؟». محمد برادة، (دار الفنك - الدار البيضاء - 2024)

«الخميس». محمد الأشعري، (دار المتوسط - إيطاليا - 2024)

أصدر أحمد المديني (1947) مجموعته القصصية الأولى «العنف في الدماغ» في (1971) عن دار النشر المغربية بالدار البيضاء. ومحمد برادة (1938) «سلخ الجلد» عن دار الآداب - بيروت في (1979). وأما محمد الأشعري (1951) فبعد مراكمة دواوين شعرية جاءت مجموعته القصصية «يوم صعب» في (1992) عن دار الفنك بالدار البيضاء.

فما الذي تعبر عنه هذه المفارقة؟

1- قد يكون العامل نفسياً أو نفسانياً يتمثل في الحنين لتمرين الإبداع مجدداً في جنس القصة القصيرة، بما أنها هي الجنس الأصعب إبداعاً.

2- العودة إلى التنويع من خلال الموازاة بين الجنسين، إذا ما ألمحنا للتراكم المتحقق في كتابة الرواية بالنسبة للأسماء السابقة، وما حظي به من تلقٍّ نقدي وظفر بجوائز عربية.

3- عامل التقدم في السن، وما يفرضه من ضرورة الميل إلى الكتابات الأدبية المكثفة كالقصة القصيرة، المذكرات أو اليوميات، على العكس من مغامرة الرواية التي تقتضي عمق التفكير صيغة ومادة.

4- إثراء مدونة القصة القصيرة المغربية، إذا ما أشرنا للجوء أغلب المبدعين لكتابة الرواية بحثاً عن جائزة أدبية ما، وهو اللجوء الذي أدى بهؤلاء الأدباء لنشر أعمالهم في كثير من الدور العربية، خصوصاً المصرية والأردنية.

تبقى مفارقة العودة إلى الكتابة في جنس القصة القصيرة، بما أنها هي التجسيد للبداية الأصلية المثيرة فعلاً، وهو ما حاولنا الوقوف على جانب منه.

* ناقد وروائي مغربي


مقالات ذات صلة

نقد النقد بصفته خطاباً فلسفياً

ثقافة وفنون باقر جاسم محمد

نقد النقد بصفته خطاباً فلسفياً

شهدت مرحلة ما بعد الحداثة صعودَ الكثير من المفاهيم والمصطلحات النقدية والثقافية والسوسيولوجية، ومنها مفهوم «نقد النقد»

فاضل ثامر
ثقافة وفنون «فلسفة هيوم»... زيارة جديدة لأحد أهم مفكري القرن الثامن عشر

«فلسفة هيوم»... زيارة جديدة لأحد أهم مفكري القرن الثامن عشر

عن دار «أقلام عربية» بالقاهرة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «فلسفة هيوم: بين الشك والاعتقاد» الذي ألفه الباحث والأكاديمي المصري د. محمد فتحي الشنيطي عام 1956

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون مجلة «القافلة» السعودية: عام الحرف اليدوية

مجلة «القافلة» السعودية: عام الحرف اليدوية

في العدد الجديد من مجلة «القافلة» لشهري يناير (كانون الثاني)، وفبراير (شباط) 2025، التي تصدر عن شركة «أرامكو السعودية»، تناولت الافتتاحية موضوع الأمثال الدارجة

«الشرق الأوسط» (الدمام)
يوميات الشرق ذاكرة إسطنبول المعاصرة ورواية أورهان باموك الشهيرة في متحف واحد في إسطنبول (الشرق الأوسط)

«متحف البراءة»... جولة في ذاكرة إسطنبول حسب توقيت أورهان باموك

لعلّه المتحف الوحيد الذي تُعرض فيه عيدان كبريت، وبطاقات يانصيب، وأعقاب سجائر... لكن، على غرابتها وبساطتها، تروي تفاصيل "متحف البراءة" إحدى أجمل حكايات إسطنبول.

كريستين حبيب (إسطنبول)
ثقافة وفنون صورة المنزل الذي هدمه القصف الإسرائيلي

محاولة يائسة لترميم منزل مهدم

حين كتبت في الصيف الفائت عن البيوت التي لم تعد ملاذاً لساكنيها، والتي تبحث عبثاً عمن يعصمها من هول الحروب وحممها المتساقطة

شوقي بزيع

نقد النقد بصفته خطاباً فلسفياً

باقر جاسم محمد
باقر جاسم محمد
TT

نقد النقد بصفته خطاباً فلسفياً

باقر جاسم محمد
باقر جاسم محمد

شهدت مرحلة ما بعد الحداثة صعودَ الكثير من المفاهيم والمصطلحات النقدية والثقافية والسوسيولوجية، ومنها مفهوم «نقد النقد» الذي أصبح إحدى أدوات التحليل والتفكيك والتشريح للعملية النقدية ذاتها.

وهناك حالياً، في المشهد النقدي والأكاديمي الحديث الكثير من المقاربات والمداخل والمناهج التي تناولت مفهوم «نقد النقد»، ونحن سنعمد في هذه القراءة إلى النظر لهذا المفهوم بوصفه خطاباً فلسفياً.

بدءاً، لا بد لنا ونحن نتحدث عن مفهوم «نقد النقد» (Metacriticism) من الوقوف قليلاً أمام مفهوم النقد ذاته قبل أن تستدرجنا البادئة «Meta» إلى معاينة مرآوية للذات أو الماهيات، أي الوصول إلى فضاء «نقد النقد» أو «ما وراء النقد».

أرسطو

من المعروف أن وظيفة النقد الأساسية هي محاولة وصف وتحليل وتقييم الأعمال والنصوص الإبداعية. وإذا ما كان النص الإبداعي يمثل لغة أولى، فإن النقد يمثل «لغة ثانية».

وكما يرى الناقد رينيه ويلبك في كتابه «مفاهيم نقدية»، فإن النقد الأدبي فنٌّ قائمٌ بذاته أو نوعٌ من الأنواع الأدبية، لكنه يشكك في كون النقد الأدبي فناً، ذلك أن هدف النقد هو المعرفة الفكرية وصولاً إلى معرفة منظمة تخص الأدب، أي إلى نظرية أدبية.

أما رولان بارت، من جهة أخرى، فيرى أن النقد خطابٌ حول خطاب، وهو قول ثانٍ أو لغة واصفة يمارس على قول أول.

ويخلص بارت إلى القول إنه إذا لم يكن النقد سوى قول واصف، فذاك معناه أن مهمة النقد ليست مطلقاً اكتشاف الحقائق، وإنما الصلاحيات فقط. ويحاول بارت من جهة أخرى الإعلاء من شأن العملية النقدية، ويضعها في مصاف العملية الإبداعية، فهو يذهب إلى اعتبار النقد إبداعاً، مؤكداً أن إمكانات النقد الراهنة تتمثل في أن الناقد قد أصبح كاتباً بمعنى الكلمة، وأن النقد غدا من الضروري أن يُقرأ ككتابة. ومن جهة أخرى يرى تودوروف أن النقد ليس ملحقاً سطحياً للأدب، وإنما هو قرينه الضروري.

أما وظيفة نقد النقد، التي حددتها إلى حد كبير البادئة «ميتا»، فهي تشير إلى حالة انعكاسية نحو الذات، أي نحو النقد نفسه، مما يجعل نقد النقد محاولةً لفهم آليات ومناهج وماهيات ومفاهيم العملية النقدية. فنقد النقد إذ يساعدنا على فهم مبادئ النقد الأدبي، فإنه في الوقت ذاته ينطوي على مساءلة لفرضيات ومناهج النظريات النقدية التي تتمحور حول مفهوم النقد. وإذا افترضنا أن النص الأدبي يمثل لغة أولى والنقد لغة ثانية، فيمكن أن نقول، قياساً على ذلك، إن نقد النقد هو لغة ثالثة.

رولان بارت

ويذهب العالم اللساني سوريش رافال (Raval Suresh) في كتابه الموسوم «نقد النقد» (Metacricism) إلى أن مصطلح نقد النقد مرادف للفلسفة، لأنه عندما ينهمك النقاد بمشكلات النقد والنظرية النقدية، فإنهم يعكفون على تحليل النظريات الأدبية للآخرين وبيان نقاط القوة والمحدودية فيها.

ويعود رافال إلى الفيلسوف الألماني عمانوئيل كانت، لأنه يعتقد أن كانت والكانتيين الجدد يوفرون خلفية ضرورية لدراسة قضايا النقد الحديث.

وعلى صعيد النقد العربي الحديث، يرى الناقد الجزائري حمزة بو ساجية أن نقد النقد جاء للنظر في تراكمات المنظومة النقدية، لتجعل من النقد موضوعاً لها وتسائله وتفحصه من أجل تجديد وتحديث مرتكزاتها النظرية وآلياتها الإجرائية، ويرى أن أي دراسة تجعل من نقد النقد موضوعاً للدراسة فإنها يلزمها العمل على تفكيك ذلك الفكر أو النقد الأدبي، واعتماد طريقة لمساءلته من خلال مقاربة الخطابات النقدية، وتفكيكها، والكشف عن خلفياتها، والحفر في مضامينها، وطريقة عمل آلياتها.

كانت

ويشير الباحث إلى أن النقد يجد نفسه في مواجهة ذاته. فالنقد هو خطاب على خطاب. فعلى المشتغل بخطاب نقد النقد أن يكون ملاحقاً لآثار الأول في الثاني، وسيرورة الثاني من خلال الأول. فالخطاب النقدي يشتغل على الخطاب الأدبي، أما خطاب نقد النقد فمدار اشتغاله الخطاب النقدي نفسه.

ويذهب الناقد العراقي الراحل باقر جاسم محمد، في دراسته الأكاديمية، التي نشرتها مجلة «عالم الفكر» الكويتية، إلى أن مفهوم نقد النقد يفتقد إلى الدقة والوضوح، وأنه يظل في الغالب أسير مفهوم النقد ذاته. ولذا يقترح مجموعة من المقترحات البديلة، للنظر إليه في ضوء خصوصيته. كما يدعو إلى توظيف مصطلح «ميتا نقد» بدل مصطلح «نقد النقد».

فمصطلح «Metahistory» مثلاً الذي يبتدئ بــ«Meta» مع كلمة تاريخ هي، على وفق ما ذهب إليه الناقد نورثروب فراي، المرادف لمصطلح فلسفة التاريخ، الذي يشير إلى المبادئ التي تتحكم في معرفة أي وضع تاريخي، ويرى أن مثالاً واضحاً لذلك يتمثل في منظور ماركس لـ«ميتا التاريخ»، أو فلسفة التاريخ، وهو أن التاريخ بكليته هو تاريخ للصراع الطبقي.

فالبحث في «الميتا» أو «الما وراء» هو أساساً بحث في الماهيات أو في جوهر الأشياء، كما أن البحث في الماهيات هو جزء أساسي من التفكير الفلسفي منذ أفلاطون وأرسطو وحتى اليوم. إذ تحدد الماهية معالم الجوهر في المثالية الأفلاطونية، إذ تتسم الماهية بديمومتها وعدم قدرتها على التعبير وأبديتها، ووجودها في كل عالم ممكن.

هذا ويعدُّ أرسطو أول من استخدم مصطلحي «هيولي» و«صورة»، إذْ حسب أرسطو تمتلك جميع الكينونات جانبي المادة والصورة، وتمنح الصورة المعنية المفروضة، المادة هويتها، أي ماهيتها أو لبها، أو ما يجعل المادة مادة.

ويعدّ أفلاطون أحد أول «الماهويين» الذين افترضوا مفهوم الصور المثلى أو الكينونة المجردة التي تكون فيها المواضيع المنفردة مجرد نسخ طبق الأصل عن بعضها البعض.

هذا وتشمل «الماهوية»، أي فلسفة مسلّمة بأسبقية «الماهية»، أي عكس «الوجودية» التي تفترض الوجود، ولذا تتعارض «الماهوية الميتافيزقية» مع «الواقعية الوجودية».

ومن هنا ينبغي تناول الأنطولوجيا «الماهوية» من منظور ميتافيزيقي، ومن الضروري التوافق عند دلالة الهيولي. فالهيولي في ذاته لا صورة له ولا صفة، لذلك يحتاج إلى الصورة لكي تجعله يوصف ويظهر وتتحدد معالمه أو ماهيته.

ويشير الناقد سوريش رافال في كتابه «نقد النقد» إلى أن البادئة «Meta» من البادئات الشائعة الآن، في مرحلة ما بعد الحداثة. إذْ يرى رافال أن مصطلح «نقد النقد» هو إلى حدٍ كبير مرادف لمصطلح الفلسفة، وعندما ينهمك النقاد بالتحليل الفلسفي للنقد والنظرية النقدية فإنهم يقومون بعملية «نقد النقد».

ولذا فإن «نقد النقد» باختصار هو استقصاء حول فرضيات ومناهج النظريات النقدية وبالقضايا المتعلقة بالمواقف النقدية، ومنها فحص منطق البحث النقدي، بشكل خاص.

وفي مساجلة أخرى. يرى الناقد باري.أ. ويلسون في الموسوعة النظرية الأدبية أن «نقد النقد» في الاستعمال الراهن يقوم بفحص النظريات أو المداخل النقدية المؤدية إلى المعنى النصي، وعلاقات «المؤلف - النص - القارئ»، والمعايير التي ينبغي الحكم بها على النصوص والمنتجات الثقافية الأخرى، وأحياناً يُشار إلى «نقد النقد» بوصفه هرمنيوطيقا، أو بوصفه «ما وراء التفسير»، حيث تلعب قضايا التفسير دوراً رئيساً في «نقد النقد». ويرى الناقد أن من القضايا التي يقوم بها «نقد النقد» مسألة التركيز على المنهجية.

وظيفة النقد الأساسية هي محاولة وصف وتحليل وتقييم الأعمال والنصوص الإبداعية

ويذهب الناقد إلى أن أصول نقد النقد ترجع إلى الفكر اليوناني القديم، وابتدأ في زمن كان يتم فيه التشكيك في العقيدة الأولمبية التقليدية، أو نصوصها الداعمة مثل أشعار هوميروس وهسيود. وكان أفلاطون قد رفض في كتابه «الجمهورية» الكثير من الأدب اليوناني من زاوية نظر شبه أخلاقية وقيمية.

ويرى الناقد بري.ا. ويلسون أن المدخل الهرمنيوطيقي لنقد النقد، يؤكد تعدد التفسيرات بالنسبة للمفسرين، وعلى وفق المرحلة التاريخية التي يعيشون فيها.

وتذهب موسوعة النظرية الأدبية المعاصرة إلى أن «نقد النقد» هو خطاب نظري عن طبيعة وغايات النقد الأدبي، وأن مهمته هي الفحص النقدي للنقد، ومصطلحاته التقنية، وبنيته المنطقية، ومبادئه وافتراضاته الأساسية، وما يستتبع ذلك بنطاق أوسع، لخلق نظرية ثقافية.

وكما أشرنا تواً فإن أصول «نقد النقد» ترجع إلى الفكر اليوناني، عندما رفض أفلاطون في كتابه «الجمهورية» كثيراً من الأدب اليوناني الكلاسيكي.

وإذا ما كانت اتجاهات ما بعد الحداثة قد أبدت اهتماماً خاصاً بمفهوم نقد النقد، فإنها حاولت أن تضفي عليه مسحة فلسفية بسبب تركيزه على تفكيك الماهيات، وهو ما دفعنا في قراءتنا الحالية إلى تبني المقاربات التي تتعامل مع نقد النقد بوصفه خطاباً فلسفياً.